صفحات الناس

شهادات من الثورة السورية

“أبو علي” حامي سيف الدولة في حلب بقبضة “داعش”

إشاعات حول إعدام “أبو علي” من قبل داعش

ضحـى حسـن

بيروت – علمتُ منذ أيام أن الدولة الإسلامية في العراق والشام خطفت قائد “جبهة سيف الدولة” في حلب “أبو علي”، الرجل الذي كنتُ سجّلت مقابلة معه في تموز 2013 ولم أنشرها. أتذكّر انطباعي الأول حينها جيداً. حدّثني عن الموت باستهتار وشجاعة. شعرتُ يومها بمزيج من الإعجاب والمبالغة.صوته العالي وكلماته الواثقة تُشبه خطواته.

خبر اختطافه شكّل لحظةً غريبة، فـ”أبو علي” من أجسر المقاتلين. كان على يقين أن الدولة الإسلامية في العراق والشام وغيرها من التنظيمات المتطرفة لن تقف في وجه رجال “الجبهة”، لأنها تعلم كما قال إن ذلك سيهدّد تمركز الجيش السوري الحر الذي سيردّ على ذلك.

مساء أمس وصلني خبر يؤكد إعدام “أبو علي” من قبل داعش. لا تزال الأخبار تتضارب حول مصيره، لكنّ هذا لن يغيّر حقيقة مَن هو هذا الرجل وكيف بدأت قصته.

“خرجت مع 20 ألف متظاهر قبل رمضان 2012 بثلاثة أسابيع، كنتُ المسلّح الوحيد بينهم، قتل النظام27  من المتظاهرين السلميين في ذلك اليوم ما اضطرني إلى إطلاق الرصاصة الأولى في منطقة صلاح الدين وأصبت اثنين من قوات النظام”. حمل القائد العسكري في سيف الدولة “أبو علي” السلاح قبل وصول الجيش الحر إلى مدينة حلب وذلك بعد خروجه في المظاهرات، ليشكّل إثر ذلك مجموعة صغيرة نفّذ معها عمليات اغتيال لضباط تابعين لجيش النظام.

تحدّث الرجل النحيل طويل القامة ذو الملامح القاسية، المضمّد من إصابات معركة خرج منها في الليلة السابقة: “لم أحمل السلاح رغبة في الانتقام ممّا فعله النظام مع عائلتي، بل لأننا شعب نحب الحرية، كنت على يقين من أن النظام لا يفهم لغة الحوار والتفاوض والنقاش وهو من بدأ بالقتل والاعتقالات والتعذيب”.

في العام 1979، وجد أحمد صليبه ( أي “أبو علي”) نفسه هو ومَن تبقّى من عائلته مُجبَرين على الانتقال إلى حلب، وترك مدينتهم الصليبه في اللاذقية، بعدما سجن النظام السوري والده ووالدته على خلفية انضمام ولديهما، شقيقي “أبو علي”، إلى تنظيم الإخوان المسلمين. يقول أبو علي: “خرجت والدتي بعد عام ووالدي بعد 6 أعوام، وأخي بعد 10 أعوام، أما أخي الثاني لم نسمع عنه أي شيء حتى الآن، حاولنا لسنوات ممارسة حياتنا بشكل طبيعي، لكن ما بدا طبيعياً في وقتها حمل خوفاً لم يتبدد حتى بداية الثورة”.

منطقة سيف الدولة في حلب، تشبه الأمعاء المقلوبة إلى الخارج، حالها حال مناطق عديدة في حلب والتي تحولت إلى جبهات بين “الحر” والنظام. غرف النوم، غرف الجلوس، الحمامات، تمديدات الماء والكهرباء، الملابس وألعاب الأطفال الكتب والأوراق .. كل شيء فيها تراه دون أن تطأ قدماك جوف الأبنية، تشعر بأنّك تقتحم قصص سكانها وحياتهم اليومية عند مرورك إلى الشارع الآخر عبر غرفهم وأغراضهم الشخصية المتناثرة هنا وهناك بين ركام التفجيرات ومخلفات القنابل، بينما تستمع إلى رصاص القناصة يتردد في شوارع المدينة من الطرف الآخر.

صباح 28 تموز 2012، أعلن الجيش السوري الحر سيطرته على حي صلاح الدين في حلب بعد اشتباكات عنيفة مع قوات النظام، يقول أبو علي: “خضنا معركة “شارع 15” على أوتوستراد الحمدانية الذي حشد فيه النظام قواته، ومنها حررنا مناطق عدة وتقدّمنا أكثر وأكثر وأصبحنا أكبر وأقوى”، ويكمل: “لم يكن هناك ما يسمى بالكتائب أو جبهة النصرة أو أحرار الشام او داعش أو أبو الأيوب الأنصاري وغيرهم. بعد منتصف رمضان بدأت الكتائب الضخمة ومن ذكرتهم سابقاً بالقدوم مموّلين ومدعومين بالسلاح والعتاد”.وأضاف: “نحن لا ننكر ما قامت به جبهة النصرة وأحرار الشام وغيرهما في المعارك، وعلى الرغم من اعتراضي على طريقة تفكيرهم وشكل الدولة الإسلامية التي يريدون، إلا أنني أرى أن هذا الأمر مؤجل لما بعد انتهاء الثورة”.

يعتمد الجيش السوري الحر في جبهة سيف الدولة على الأسلحة المحلية الصنع والبدائية مثل “النقيفة”، والتي يقوم “أبو علي” بصنع بعض منها. “الذخيرة والسلاح الذي نملكه بدائي، إذ نقوم بتصنيع معظم الأسلحة من أدوات بسيطة، في حين تملك جبهة النصرة والدولة الإسلامية في الشام والعراق مستودعات ضخمة من الأسلحة والذخيرة تكفي لتحرير سوريا”، قال مشيراً إلى أن “هذه الفصائل تقوم بضرب الأرياف لسهولة السيطرة عليها إلى جانب الغنائم، فمن يحصل على الدبابات والسلاح والمال لن يرابط على الجبهات”.

يروي “أبو علي” حادثة اصطدامه الأولى مع أحد عناصر “داعش”: “أوقفنا على حاجز دار عزة رجل تونسي، اقترب من الشاب الذي معي في السيارة وسأله “أنتم جيش حر”، نقرت بأصابعي على الشباك وقلت له: بتروح بتضبّ غراضك وبتطلع على بلدك، هي بلدي مو بلدك. حينها صمت وأكملنا طريقنا”، مضيفاً: “أنا لا أقبل أن يتحكّموا بنا. نحن بالنسبة لهم كفَرة، أذكر عندما كنّا جميعنا في الجبهة بعد تحريرها، وبشكل مفاجئ رأيت أحرار الشام وبكري عمارة والمهاجرين وجبهة النصرة وغيرهم قد حملوا أمتعتهم ورحلوا وهم يقولون “الكفرة يقتلوا بعض””.

في مستودعٍ تحت منزله وضع “أبو علي” ممتلكات السكان التي تركوها خلفهم في صناديق كتب عليها أسماء العائلات في غرفة “الأمانات” يحرسها هو ومقاتلوه. يعلّق على ذلك “قمنا بجمع الممتلكات الخاصة بأهالي المنطقة الذين خرجوا من منازلهم من دون أن يحملوا معهم سوى أرواحهم جراء القصف العنيف من جيش النظام الذي دمر الأحياء السكنية بالمدفعية والطيران الحربي”. يحمل أبو علي من أحد هذه الصناديق أساور وقلائد من ذهب وهو يقول: “هذه أمانة عندنا حتى يعود أصحابها، نحن هنا لنحمي البلد لا لنسرقه كما يقول البعض”.

يعيش “أبو علي” في الجبهة مع زوجته وهي عضو في المجلس العسكري وأولاده الثلاثة: “أنا وزوجتي مازلنا نعيش علاقة حب بعد عشرين عاماً، لن أتخلى عنها”. يمد يده باتجاه النافذة المهشّمة ويقول بشكل اعتراضي: “انظري إلى تلك البناية أمامنا، هناك يتمركز العدو”، ويعود ليكمل: “وقفت زوجتي إلى جانبي وشاركتني الكثير من العمليات التي قمت بها، لذلك سنبقى معاً”. ويتابع: “على سورية ان تكون البلد الذي أستطيع أن أفعل فيه ما أشاء، كما لو أردت أن أذهب إلى البحر وأنا أرتدي “الشورت” وزوجتي بـ”البكيني”، هذا بلد متعدد الطوائف لا حواجز بيننا، في حال ذهبتِ إلى منقطتنا في حارة الأميركان في الصليبة باللاذقية أتحدّاكِ أن تميّزي بين مسيحي ومسلم، هذا هو الشعب السوري”.

موقع لبنان ناو

ياسر أبو علي “شيف” ساحات القتال في سوريا/ نايت روزنبلات

بيروت – قد لا يكون صاحب أحد برامج الطهي التلفزيونية بعد، لكنّ ياسر أبو علي مشهورٌ في محيطه كونه الوحيد الذي يقدّم خدمة توصيل الطعام المجاني في أنحاء سوريا.

مطعمه يُسمى “مطعم الثوّار الأحرار” ومقرّه في محافظة إدلب في شمال غرب سوريا، وهدفه بسيط ونبيل في آن؛ ويتلخّص في تأمين ثلاث وجبات طعام متوازنة للمقاتلين الجائعين الموجودين على الجبهة في الصراع الدائر في سوريا. ويعمل مطعمه المتحرك من باص أبيض صغير معدّل ذي مقعدين، وتخرج منه 1750 وجبة يومياً. ويقدّر أبو علي بأنّ مطعمه قدّم أكثر من 3000000 وجبة طعام الى المقاتلين منذ أن تم إنشاؤه قبل 14 شهراً.

أما أصدقاء أبو علي في مسقط رأسه في إحدى القرى في جنوب إدلب، فنادراً ما اعتبروه مقاولاً [يسعى وراء الكسب الماديٍ]. وهم بالطبع لا يعتبرونه طاهياً. ويزعم أبو علي بأنه “لم يطبخ أبداً في حياته” قبل الثورة. قبل 2011، كان يمتلك متجراً في الحي الذي يقطنه ويبيع فيه أدوات منزلية. وهو لم ينهِ دراسته الثانوية.

ولكن يمكن القول إن الثورة غيّرت كل شيء بالنسبة لأبو علي. فما دفع أبو علي الى فتح مطعمه الخاص هو “النقص في التنظيم في توزيع الطعام” القادم من تركيا، وقد سمّاه “مطعم الثوار الأحرار” وافتتحه في الأول من تشرين الأول 2012. وهو ينطلق من قريته في جنوب إدلب من أجل إطعام الناشطين والمقاتلين الأحرار في مناطق بعيدة تصل الى حماه وحلب.

ورغم أن الصراع الأخير حدّ من سفره، فهو لم يمنع أبو علي من الطبخ للمقاتلين على أكبر ساحات القتال في أنحاء إدلب. وهو زار مواقع عدة بينها قاعدة تفتناز الجوية، ومخيم القرميد للمدفعية، ومطار أبو الظهور العسكري.

أحياناً أتمكّن من السفر بسهولة” يشرح أبو علي، قائلاً إنه أحياناً يقدّم الفطور والغداء والعشاء في ثلاثة أماكن مختلفة خلال اليوم الواحد. وفي أوقات أخرى، يجبره القتال على البقاء في مكان واحد لفترة أطول بكثير. فقد أمضى 27 يوماً في أريحا، وهي بلدة قرب العاصمة المحلية في إدلب شهدت نزاعات كبيرة عليها.

وبالإضافة الى قيامه بإطعام المقاتلين، يقول أبو علي إنه يقدّم لهم النصح أيضاً. ففي إحدى المرات طلب أحد المقاتلين من أبو علي نصيحة، قائلاً له إنّ الله جاءه في المنام، وكان الشاب خائفاً- فقد اعتقد بأنّه سوف يموت. وقد ساعده أبو علي على رؤية الحلم بشكل مختلف: “عليك أن تشكر الله”، شرح له قائلاً “فلأنّك تقاتل في هذه الثورة. الله يبعث لك برسالة مفادها أنه معك وأنك لست وحيداً”.

وبدوره يوافق الحاج زكي، القائد في كتائب الفاروق المتمركزة على الخطوط الأمامية في جبهة جنوب إدلب، على ذلك قائلاً “أبو علي، بالإضافة الى عمله، هو شخص مرح جداً. كل المقاتلين معي يسألونني عنه عندما لا يرونه. إنه شخص مرح والناس يحبون لقاءه في كل حين”. وأضاف الحاج زكي أنّ أبو علي يحظى باحترام مجموعة المقاتلين معه. “إنّه يتكبّد مخاطرة كبيرة من أجل مساعدتنا. عندما أتى في آخر مرة الى وادي الضيف، كان عليه أن ينتظر مدة يومين لحين يُخلي القناصون المنطقة. وحصل الأمر نفسه عندما كان يساعد المقاتلين في أريحا”.

وقد انتقل الاحترام الموجّه لأبو علي الى المجالس المحلية والمؤسسات الحاكمة في البلدات التي تسيطر عليها المعارضة. “أينما أذهب” يقول أبو علي “يوجد أفراد ومجموعات يمدّونني بالمساعدة”. فمثلاً، مدّه المجلس المحلي في سراقب بالخبز لإعداد سندويشاته لأربعة أشهر. ودعمه كذلك المجلس المحلي في معرة النعمان.

وعلى الرغم من هذه الشهرة المحلية التي يحظى بها، إلاّ أن مطعم أبو علي يناضل من أجل إيجاد مستثمرين. “التقيتُ في تركيا أحد ممثلي إئتلاف المعارضة السورية في محافظ إدلب”، شرح أبو علي، “وقد وعدني بأن يساعدني في شأن المطعم، ولكنّي لم أسمع منه أي شيء بعد ذلك”. وقال أبو علي أيضاً إنّه التقى أحد المتبرعين من الخليج. “قالوا لي “سوف أهتم بكافة احتياجاتكم””، ولكن المتبرّع ما لبث أن طلب الحصول على قائمة بأسماء المجموعات المقاتلة التي سوف يمدّها أبو علي بالطعام وبأماكن تواجدها. وهذا أمر شائع بالنسبة للمتبرعين الخليجيين الذين يشترطون لدعم المنظمات في سوريا بعض المتطلبات السياسية.

وكان لأبو علي في فترة معينة خمسة أو ستة متطوعين لمساعدته، ولكن التمويل المحدود حدّ من عملياته. وهؤلاء المتطوعون يحاربون اليوم مع مجموعات مسلحة في المنطقة ويحصلون على رواتب.

رغم الفائدة من ذلك، يبدو أنّ أحد الأسباب التي تجعل أبو علي لا يحصل على تمويل كبير هو أنّه يقدّم خدماته “لكافة المقاتلين بغضّ النظر عن انتماءاتهم”، رافضاً التمييز بين الجيش السوري الحر، وجبهة النصرة، وكل الجماعات الباقية، ذلك أنّ مبادئ أبو علي غالباً ما تحول دون حصوله على المزيد من الدعم المالي من متبرعين يريدون منه أن يدعم المجموعة المسلحة المفضلة لديهم.

ورغم ذلك، يتمسّك أبو علي بإيمانه: “هذا أمر يقوم به المسلمون”، قال ببساطة مصرّاً على المحافظة على استقلاله السياسي. “سوف أساعد كل الكتائب الإسلامية ولا أميّز بينها… فنحن جميعاً شعب واحد في رعاية الله وتحت أنظاره”.

ولكي يجذب التبرعات إليه، يقوم أبو علي بكتابة المواد التي يحتاج اليها بالخط الأسود العريض على جانب باصه الصغير الأبيض وينشر صور الباص على صفحته على الفايسبوك. وقد حضّر أبو علي كذلك تقريراً من صفحتين يشرح فيه وضع مطعمه، وتكاليفه، والمجموعات التي ساعدته في الماضي. “هذا مشروع في تطوّر مستمر” يشرح قائلاً. “أريدُ أن أدلّ على الذين يساعدونني لأن ذلك يُثبت بأني أحاول أن أكون منظّماً. ومن أجل حماية نفسي أيضاً: أريد أن أكون شفافاً في عملي بقدر الإمكان [خشية أن يشك الناس في شيء ما].

ولدى سؤاله عما يحتاج إليه، يجيب أبو علي “حاجاتي بسيطة جداً، لا أحتاج الى الكثير: المال والخبز والوقود [هذا كل ما أحتاجه]”. ويضيف ضاحكاً “وأنا لا أحتاج الى ذلك اليوم فقط، بل في كل وقت”.

ويبقى أبو علي واحداً من القليلين المتفائلين بنتائج الحرب. “لقد حارب النبي محمد لثلاث سنوات” قال في إشارة الى المعارك التي جرت بين 625 و628 م والتي أدّت الى “صلح الحديبية” بين النبي محمد في المدينة وقبيلة قريش في مكة. “لم نبلغ بعد في سوريا الثلاث سنوات التي هي العلامة”.

ولدى سؤاله عما سيحصل لو أن الحرب استمرت في سوريا بعد الثلاث سنوات، أجاب أبو علي: “النبي محمد هو مثالنا الأعلى وعلينا الاحتذاء به. عندما حاصرته قريش، اضطر هو وأتباعه الى أكل أوراق النباتات لكي يبقوا على قيد الحياة. وهذا يحصل في الغوطة الشرقية في دمشق اليوم. وحتى إن وصلنا الى مثل هذه الأيام في أجزاء أخرى من سوريا، فنحن لن نتخلى عن ثورتنا”.

هذا المقال ترجمة للنص الأصلي بالإنكليزية

(ترجمة زينة أبو فاعور)

موقع لبنان ناو

شهادة ناج من إعدام جماعي بسوريا

                                            الزوجة تعرفت على زوجها الذي كان على شفا الموت من بطاقته الشخصية

وقف أربعتهم مقيدي الأيدي ووجوههم إلى حائط أحد المنازل المهجورة قرب أحد مساجد تفتناز بريف إدلب، ظهر الثالث من أبريل/نيسان 2012، ليتلقوا الرصاص من الخلف في إعدامات جماعية راح ضحيتها 95 شخصا منهم 65 من عائلة غزال.

الأول إلى اليمين كان عوض عبد القادر (65 عاما) وهو شيخ أمّي لكن أولاده كانوا من ضمن الثوار. جاءه الصوت من الخلف: أين أولادك الإرهابيون؟ فرد الشيخ: لا أعرف. فجاءه إطلاق النار ليخترق جمجمته ويسقط على الأرض.

الثاني كان أحمد إسماعيل جعفر (63 عاما) وهو مؤذن سجن عشرين عاما بعد أحداث حماة 1982 وكان من أبرز منظمي الثورة الحالية بتفتناز. جاءه السؤال بما معناه “ألا يعجبك بشار؟” تتبعه رصاصات بالرأس أنزلته أرضا. ثم -وبدون أي سؤال- رصاصات متتابعة للثالث، وهو إياد غنيم، ليموت فورا.

وبحركة لا إرادية -كما يبدو- التفت الرابع، وهو محمد أيمن عز، لليسار قليلا، فجاءته رصاصات اخترقت فكه وخرجت واحدة منها أسفل عينه، فسقط على الأرض.

كان عز إذ ذاك يلبس جاكيتا ألمانيا فاخرا اشتراه من بيروت بقيمة ثلاثمائة دولار، يبدو أن أحد منفذي الإعدام بحقه رأى أخذه فلم يجد لذلك حيلة إلا فك يديه.

كانت الوساوس السوداء قد ذهبت بالزوجة، هيفاء أحمد عز، كل مذهب، منذ الصباح، حين دخل رجال الجيش منزلهم وفتشوه بطريقة همجية واقتادوا الزوج لوجهة مجهولة.

عملية الاعتقالات والإعدامات الجماعية جاءت بعد اقتحام قوات النظام تفتناز بأكثر من مائة دبابة وثماني مروحيات صبيحة ذلك اليوم، في هجوم لم يستطع الثوار مقاومته بأسلحتهم الخفيفة.

رجع رجال الجيش عصرا للبيت كما روت لنا هيفاء، وفي إحدى غرفه سمعت دعوة لقتلها وأولادها الثلاثة، لكن رد المسؤول جاء بأن “خلوهم يتعذبوا بعد أن خلصنا على زوجها” (قتلناه).

رش الجنود مادة بيضاء على أثاث البيت وأمروا بإخلائه بعد أن أخذوا نقودا سورية بقيمة 120 دولارا وأجهزة موبايل وحاسوبين وتلفزيونين وأدوات كهربائية. وعلى بعد أمتار شاهدت الزوجة الحامل بيتها تلتهمه النيران.

أظلمت الدنيا بوجه الزوجة. تركت أولادها ببيت إحدى الجارات، وهامت على وجهها تحت القصف تبحث عن جثة زوجها.

جثة مغطاة

أخبرتها إحدى العائلات بأنهم شاهدوا جثة بجانب المسجد مغطاة بملاءة بيضاء. أسرعت الزوجة إليه، وهناك وجدت جثة هادمة لرجل في سن زوجها مغطى وجهه بالدماء، وفكاه الأيسران مهشمان بطريقة مريعة.

أرادت العودة لكنها سمعت شخيرا، عرفت أنه لا يزال حيا. نادت على الجيران دون مجيب. أدارته فوق الملاءة وسحبته وحيدة مسافة ثلاثمائة متر لبيتها. وعلى عتبته سقطت من جيب قميصه بطاقة هوية مكسورة من طرفها مكتوبا عليها “محمد أيمن عز”. تفرست مرة أخرى وجه الجثة فعرفت أنه زوجها.

اتصلت هيفاء بالإسعاف والمشافي، وكان الكل يقول إنه ليس بإمكانه فعل أي شيء طالما أن “العملية جارية”.

قررت الزوجة -التي كانت قد تلقت دورة إسعافات أولية- أن تأخذ المبادرة. انطلقت لبيت طبيب أسنان مجاور فأعطاها -بعد تلكؤ- علبة يود وقطنا وإبرة وخيطا ومقصا صغيرا، لكنه رفض المساعدة، مكتفيا بنصيحتها “ابدئي من الأسفل للأعلى ومن اليمين لليسار”.

وضعت اليود وحشت الحفرة العميقة بالقطن وخاطت، ثم أعطته حقنة “دكلوفين”. أخذتها من جيران آخرين.

وفي بيته بإصلاحية جنوب تركيا -حيث ينتظر إجراء عملية جراحية لتركيب فكين اصطناعيين- روى لنا عز كيف كسر القائد العسكري صباحا قبل الإعدام -بعد “محاكمة” خاطفة- طرف بطاقة هويته في قرار أكيد بإعدامه “وفق تقاليد نظام الأسد”، وكيف أنقذه الجاكيت الألماني كما يبدو إذ لو لم يسرق لما فك قيده ولمات في مكان الإعدام، وكيف غاب عنه الوعي تماما بعد إطلاق النار عليه، وأن ناسا شاهدوه وهو يترنح تحت القصف ليسلم روحه بجانب المسجد فأرسلوا أحدا لتغطيته، وحمايته من الذباب.

في فروع الأمن السورية… نساءٌ رهينات/ مـالـك أبـو خـيـر

الكثير من النساء مازالوا حتى اليوم رهائن في فروع الأمن السوري يعشن حياة قاسية تحت الأرض في سجون لا تدخلها أشعة الشمس ولا الهواء. (وكالات)

دمشق ـ يتم أخذهن كرهينة ويزجّ بهن في أقبية فروع الأمن السورية تحت الضرب والتعذيب والاغتصاب، ومن دون سبب وجيه، فقط لأن أزواجهن أو أحد إخواتهن مطلوبون لتلك الفروع ولم يتم إلقاء القبض عليهم. تعيش هؤلاء الفتيات قصة اعتقال لا تختلف وحشية وفظاعة عن قصص الاعتقال في السجون النازية، حيث يمارس عليهن أقسى أنواع الضرب والتعذيب، ويتم اغتصابهن، ثم الاتصال من هواتفهن المحمولة بأقربائهن من الأشخاص المطلوبين ويسمعونهم ما يتعرضن له من تعذيب كأداة للضغط عليهم لتسليم أنفسهم.

فروع الأمن السورية لم تترك وسيلة يمكن استخدامها للقمع إلا واستخدمتها، لكن موضوع الرهائن لعلّه الأشدّ قساوة بحق المعتقلات، اللواتي وإن لم يقم الشخص المطلوب بتسليم نفسه فإن مصيرهن يكون إما الهلاك في الفرع او التحويل الى القضاء بتهم قد لا يخرجن من السجن بسببها لسنوات طويلة.

“منى” من ريف دمشق، زوجها كان مطلوباً لأحد الفروع الأمنية، لكونه مقاتلاً في الجيش الحر وله خبرة في صناعة العبوات المتفجّرة وتركيبها، وهو نسف عدة حواجز للنظام في منطقته. حين ذهبت الى احدى المناطق التابعة للنظام تم إلقاء القبض عليها، وبدأت رحلة عذاب استمرت شهرين. تروي منى ما حصل قائلة: “وُضعتُ ضمن زنزانة منفردة طوال أربعة أيام متواصلة حيث كان يتم تعذيبي كل يوم لمدة ثلاثة ايام متواصلة لتقديم معلومات عن أسلوب عمل زوجي، وعمّن كان يعمل معه، وإذا كان أحد منهم يسكن ضمن مناطق تابعة للنظام، ومن ثم قاموا بالاتصال بزوجي من هاتفي المحمول وتم تعذيبي لكي يسمع صوتي بأبشع الطرق والألفاظ، طالبين منه تسليم نفسه مقابل الافراج عني”.

وأضافت منى: “بعد خمسة أيام قام زوجي بتسليم نفسه للفرع الذي أوقفت فيه، ولم يطلقوا سراحي كما وعدوه، بل عذّبوني أمامه وقاموا باغتصابي ومارسوا عليه أبشع أنواع التعذيب حتى فارق الحياة، ومن ثم أطلقوا سراحي بعد مقتله بعشرة أيام”.

قليلات هنّ النسوة اللواتي يتحدثن عن تجاربهن، وتحديداً من تعرضن للاغتصاب لكون تجربتهن هي الأصعب، وقد يصعب على من هو على غير علم بأسلوب عمل أجهزة الأمن السورية، تصديق حجم المعاناة والقسوة التي تم استخدامها ضدهن.

“أميرة” من حمص تم اختطافها بكمين عن طريق أحد أقاربها، وتم تسليمها الى فرع الأمن لحجم الدور الذي يلعبه شقيقها في الجيش الحر. “تم تعليقي من يدي بقيود من حديد على الحائط، وأنا شبه عارية ضمن وسيلة تعذيب تعرف باسم (الشبح) لمدة تجاوزت عشرة أيام”، قالت أميرة، وأضافت: “تعرّضت للاغتصاب عدة مرات، ومن ثم بدأ تعذيب ممنهج، فقاموا بحلاقة شعري بشكل كامل وعذبوني بالكهرباء حتى فقدت القدرة على السمع، وكل ذلك كي أخبرهم عن مكان إقامة أخي أو أي عنوان يساعد في القبض عليه، وبقيت نحو عشرة أشهر متواصلة حتى أتى السجّان وطلب مني الذهاب معه الى المحقق الذي اخبرني أنه لم يعد بحاجة إليّ لأني أخي قُتل في المعارك”.

الكثير من النساء مازالوا حتى اليوم رهائن في فروع الأمن السوري، يعشن حياة قاسية تحت الأرض في سجون لا تدخلها أشعة الشمس ولا الهواء، وضمن ظروف صحية قاسية، ومنهن من توفين وفق شهادات من اللواتي خرجن ضمن صفقة التبادل الأخيرة، وأكدن أن العديد من النساء فارقن الحياة نتيجة لسوء وضعهن الصحي وعدم توفر أي رعاية صحية لهن نتيجة لحجم التعذيب الذي تعرضن له.

موقع لبنان ناو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى