شهادات من جحيم المعتقلات السورية
الثورة على لسان أنثاها
صبر درويش
«تفضلي معنا بلا شوشرة» يصرخ رجل الأمن بعد اقتحامه، هو وباقي أفراد الدورية، المكتب الذي تعمل فيه السيدة عتاب.
في الحقيقة، لا توجد أرقام إحصائية دقيقة حول عدد المعتقلين في السجون السورية، إلا أن الرقم المتداول يقترب من المائتي ألف معتقل. يتوزع على كافة الفئات العمرية، بدءاً بالأطفال دون سن الخامسة عشرة، وصولاً إلى الكهول، كما أن الاعتقال طال النساء أيضاً إلى جانب الرجال، ولو بأعداد أقل بكثير، وبذلك يكون الاعتقال قد طال أغلب أفراد المجتمع السوري من دون استثناء.
داخل أقبية المعتقل عالم آخر، عالم يصحّ أن نسميه بالجحيم؛ تقول عتاب: «بعد أن أصبحت داخل السيارة قام رجال الأمن بمصادرة جميع أشيائي الشخصية، ومن ثم قاموا بعصب عيني، عندها علمت بأنني ذاهبة إلى المجهول.. بعد أن وصلنا إلى أحد الأفرع الأمنية تم تقييد يدي، فيما ظلت عيناي معصوبتين، وأجبرت على الوقوف ووجهي للحائط لمدة أربع ساعات، بعدها أدخلوني إلى غرفة التحقيق. هناك قام المحقق بطرح بعض الأسئلة عليّ، وعندما لم يلقَ الإجابة التي ترضيه باشر بالصراخ وتوجيه أقذع الألفاظ لي، وأمر عناصره بضربي على يدي، وعلى بعض الأماكن الأخرى من جسدي. وعندما لم يجدِ ذلك نفعاً، قاموا برميي في إحدى الزنازين، حيث الإضاءة الخافتة ورائحة أوجاع من مروا قبلي تملأ المكان.. وبقيت هناك ثلاثة أيام».
تقول عتاب إنها شخصياً لم تتعرض لتعذيب شديد بالمعنى الجسدي للكلمة، إلا أن سماعها لأصوات التعذيب القادم من الخارج، وأصوات الأنين، والتوسلات.. كل هذا كاد يصيبها بالجنون. تقول: «بكيت وبكيت لا لشعوري بالاشتياق لعائلتي ولعالمي المفقود، بل على هؤلاء الشبان الرائعين، الذين كانوا يخضعون للتعذيب لساعات مطولة لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم طالبوا بالحرية.. كنت أتساءل كيف لهؤلاء أن يختزنوا كل هذا الحقد؟ ألم يكونوا أطفالاً في يوم من الأيام؟ ألم يرضعوا حليباً من أمهاتهم؟» تتابع بسخرية مريرة.
تشير أغلب الشهادات التي حصلنا عليها إلى أن الوضع في المعتقلات السورية يقترب من مفهوم «جرائم ضد الإنسانية» فهنا، داخل هذه الأقبية، لم يعد من تمييز على مستوى التعذيب، كبيراً كان المعتقل أو صغيراً، رجلاً أو امرأة. يقول أبو الحكم، وهو ممن أفرج عنهم مؤخراً: «رأيتهم بأم عيني، رأيتهم كيف أجبروا النساء على ارتداء البيجامات كي يخضعوهن للتعذيب، حتى إنني صادفت إحدى المعتقلات وقد وضعوها في «الدولاب» وبدأوا بجلدها».
ليس التعذيب داخل المعتقلات السورية بالشيء الجديد حقاً، فمن خبر مرحلة الثمانينيات يدرك تماماً الخبرة التي اكتسبتها أجهزة المخابرات السورية في قمع الناشطين السياسيين؛ إلا أن الجديد نسبياً- في المرحلة الراهنة يتجسد في الوحشية المنفلتة من عقالها، التي راحت تتعامل فيها أجهزة الأمن مع المعتقلين، في ظل صمت عالمي ودولي، راح يشجّع النظام السوري على الإيغال في سلوكه الوحشي.
يحدثنا أبو الحكم بمرارة واضحة: «ما رأيته كان شيئاً مثيراً للرعب، ترى الأظافر كيف تتطاير من شدة الضرب، تتكسّر أطراف الأصابع، تتشوّه الوجوه بفعل التعذيب، تتأذى الأماكن الحساسة من الجسد كالأعضاء التناسلية، أو حلمتي الثديين.. يجري اغتصاب الرجال بعصي وأدوات مخصصة لذلك على مرأى من الجميع، ومن يبقى صامداً ولا يفارق الحياة يصبح الموت مطلباً له لأنه أفضل من هذا الجحيم».
لا شيء يدعو إلى التشكيك في هذا الوصف، فعشرات الشهادات، بل المئات منها، راحت تؤكد الوحشية التي تمارسها الأجهزة الأمنية على المعتقلين، والغاية من كل ذلك كسر روح هؤلاء الشبان وتدمير إراداتهم؛ والعمل هذا يقوم وفق أسس منهجية فبعد أن تنتهي فترة التحقيق، والتعذيب الجسدي المرافق له، تبدأ عملية ما دعوته في مكان آخر «بالتعذيب الناعم».
بعد انتهاء التحقيق يحشر العشرات من المعتقلين داخل غرفة صغيرة، وبسبب الازدحام الشديد يصبح كل شيء هناك يعمل وفق مبدأ «الورديات»، إذ لا مكان يتسع لجلوس أو نوم الجميع، فيتناوب المعتقلون على ذلك، هناك من ينام وهناك من يجلس ومن يبقى واقفاً. في بعض الأحيان لا تتجاوز حصة الفرد من النوم ساعة واحدة على مدار اليوم. الوقت هناك يمر ببطء شديد، والعالم يتضاءل حتى يكاد يتلاشى.. إنه عالم من التفاصيل المميتة.
يقول أبو الحكم: «كان الخروج إلى الحمام يشكل عبئاً كبيراً علينا، فمن جهة يستمر السجانون بضربنا ونحن في طريقنا إلى الحمام، ومن جهة أخرى لا يسمح للمعتقل بالدخول لأكثر من عشرين ثانية، فنضطر، وبسبب حالات الإمساك الدائمة، إلى وضع خرطوم المياه في فتحة الشرج، حتى ينزل كل شيء وبشكل سريع». يرتجّ صوت أبو الحكم وهو يحدثنا، ويقول: «هناك الكثير من التفاصيل الأخرى التي يصعب عليّ روايتها، والحديث عنها».
تتنوع أساليب التعذيب الناعم، إذ يقول أحد المعتقلين: «في إحدى المرات وضعوا لنا على ما يبدو مادة مسهلة في الطعام، وخلال دقائق قليلة بدأت تظهر حالات الإسهال، وبما أننا كنا ممنوعين من الخروج إلى الحمامات، رحنا نفرغ حاجاتنا بقمصاننا الداخلية أو أي كنزة أو قميص يمكن ربطه واستخدامه. بعدها رحنا نكوّم تلك المخلفات بالقرب من الباب، كانت القذارة والروائح الكريهة شيء يصعب تحمله، وكثيرون منا أصيبوا بالجفاف نتيجة ذلك».
كل ما ذكرناه لا يعدو كونه غيضاً من فيض، ومن المؤكد أن كل تلك التفاصيل ستوثّق على أيدي خبراء ومختصين، ولكن من المؤكد أيضاً أن تجربة الاعتقال في السجون السورية تجربة لن تنسى بالنسبة لمن كتب له النجاة منها. إنها تفاصيل سترافق المعتقلين لسنوات طويلة.
إنها جريمة عابرة للسنوات والأجيال.
المستقبل