شهران على انتفاضة الكرامة السورية: الخيار الوحيد هو النصر
د. برهان غليون
يثير التدهور المضطرد في الأوضاع، والتفاقم المتزايد في الازمة السورية، تساؤلات كثيرة لدى الرأي العام السوري عموما، حول حقيقة نوايا النظام الحاكم تجاه مسألة الاصلاح، وموقف الدول العربية والمنظومة الدولية منها، وحول ما حققته الحركة الاحتجاجية السورية حتى الآن، وما يمكن أن تحققه في المستقبل، وحول الاستراتيجيات الأمثل التي ينبغي تطويرها للرد على التحديات الكبيرة والمتعددة التي تواجهها، سواء ما تعلق منها بتصميم السلطات السورية على استخدام القوة بكل أشكالها لوضع حد للمسيرات السلمية، مهما كلف تحقيق هذا الهدف من ضحايا، أو بمخاطر الانزلاق نحو العنف أو الفتن الطائفية التي تقود إليها المواجهة العسكرية التي تفرضها السلطة على المحتجين، أو بالموقف المتردد الذي تقفه الدول الكبرى والدول العربية تجاه مطامح الشعب السوري للوصول إلى الديمقراطية كغيره من الشعوب العربية، سواء أكان ذلك ثمرة الخوف من الفوضى أو عدم الثقة بالمستقبل، أو الحفاظ على مصالح حيوية يمكن ضمانها مع النظام الراهن، بصرف النظر عن سلوكه، أكثر منه مع نظام جديد يلعب فيه الرأي العام السوري دورا أكبر في صياغة الخيارات الاستراتيجية.
يتذرع النظام بالاصلاح ليوقف المسيرات الشعبية ويبرر إطلاق النار على المتظاهرين. ويقول انصاره أعطوه فرصة. ويجيب المحتجون، أن النظام يملك جميع الفرص لو كان جديا بالاصلاح. فماذا لو ان النظام استغل هذين الشهرين لتطبيق برنامج الاصلاح الذي يقول إنه مؤمن به، وترك الناس يعبرون عن أنفسهم كما حصل في تونس ومصر، بدل أن يزج بالبلاد في حرب لا أحد يعرف مخرجها ومآلها، وتوسيع دائرة المناطق المنكوبة التي تحول شعبها إلى لاجيء في وطنه، ولا يعرف كيف يؤمن حياة أبنائه. ألم يكن هذا حلا أفضل وأكثر اتساقا مع خطاب الوطنية وتفاهم الشعب والحكم وتعاونهما؟
والواقع أن تمسك النظام بأي ثمن بوقف المسيرات السلمية والقضاء على حركة الاحتجاج هو الضمانة الوحيدة كي لا يجد نفسه مضطرا إلى القيام بإصلاح جدي يحقق مطالب الشعب، وفي مقدمها الاعتراف بحقوقه، ومشاركته في القرار، وأن يظل هو وحده الذي يقرر نوعية الاصلاح وأسلوبه ورزنامته. وهذا يعني أن يضمن أيضا أن يكون الاصلاح من النوع الذي يوافق مصالحه، وأن يحافظ على استفراده بالقرار والسلطة، غدا كما كان الوضع في الماضي. وهذا هو معنى إصرار النظام على رفض الاعتراف بالشعب كطرف في معادلة السلطة، ومغزى الأوصاف السلبية والمهينة أحيانا التي يستخدمها مناصروا النظام وأجهزة إعلامه لوصف الشعب والمحتجين. فهم في نظرها “حثالة” لا تفهم معنى الكرامة والحرية وهم مجموعة من “الصراصير” التي ينبغي القضاء عليها، وجماعات سلفية مغلقة وغبية لا يمكن أن تشارك في قرار هو من اختصاص النخبة التي يمثلها في نظرهم أصحاب النظام.
من هنا، حتى يخرج من الأزمة بأقل الخسائر، وربما يحفظ أيضا جوهره القائم على تهميش الشعب وإقصائه، لا بد للنظام من كسر شوكة الانتفاضة وزعزعة ايمان الشعب بمقدراته وضرب تصميمه. فإذا نجح في ذلك، يستطيع غدا أن يصوت في البرلمان نفسه، وهو مجموعة من الدمى التي تقوم بتبجيل الرئيس وتنظيم طقوس عبادته، على حزمة من الاصلاحات الشكلية، ويقول هانحن استجبنا للشعب. لكن غياب الشعب، واستعمار المؤسسات، وتسلط الاجهزة الأمنية وسيطرتها الكاملة على السلطة، سوف تضمن الباقي وتفرغ أي قانون أو مرسوم، مهما كان، من أي مضمون.
يراهن النظام السوري بالتأكيد على الموقف العربي الذي لا يزال صامتا حتى اليوم. ولتردد الموقف العربي تجاه قضية الشعب السوري أسباب عديدة، يرتبط بعضها بالاتفاقات والتسويات الضمنية او الرسمية التي تجمع بعض الأطراف مع النظام، وبعضها الآخر بالخوف من التورط في صراع مع نظام يثير الخوف والرعب لدى الجميع.
لكن مهما كان الموقف العربي فهو ليس العامل الرئيسي الذي يحدد مصير التحول السوري. فكما كان عليه الحال في تونس ومصر والبلاد العربية الأخرى، يتوقف المستقبل، بما في ذلك تغير الموقف الدولي لصالح التغيير، على الديناميكية الداخلية التي تعبر عنها الانتفاضة، وعلى تصميم الشعب السوري وقدرته على التضحية من أجل الظفر بمطالبه. وقد أظهر حتى الآن روحا بطولية لم يحصل أن وجدت في أي من الانتفاضات العربية السابقة، ولا يزال مصرا، على الانتصار. بل لقد زاده عنف السلطة اقتناعا بحتمية التغيير وضرورته، حفظا لكرامة أبنائه الذين يهانون كل يوم ويستهزأ بمصالحهم وعقولهم، وصونا لمستقبل شبابه، وتأكيدا لحقه في أن يكون سيد وطنه وشؤونه.
وهو يدرك أن الوقوف الآن في منتصف الطريق لا يقدم له شيئا ولكنه يذهب بتضحياته أدراج الرياح، ويقدم نصرا لنظام ظالم وقاس لن يتردد في الاستفادة منه لتوسيع دائرة البطش والتنكيل بالشعب، وقطع الطريق على أي امل في التغيير لمستقبل بعيد. وبعكس ما يبشر به بعض البسطاء والسذج، لم يتعلم النظام من الثورة التي قامت ضده درسا ايجابيا يدفعه إلى القيام بإصلاحات أكثر في المستقبل، ولكنه ولد من رحمه، في شهري مواجهته الماضيين للشعب الأعزل، نظاما فاشيا جديدا، لن يتردد في قتل الأفراد واغتيالهم وقهر إرادة الجمهور بأقسى وسائل العنف، كما يفعل الآن تماما. لقد أصبح القتل أسهل عليه من الكلام، كما هو واضح، ولديه من وسائل القتل الكثير. سيمكنه هذا الاستخدام المكثف للعنف من أن يركب على ظهر الشعب ويهينه ويسومه من العذاب ما لم يحلم في عمله من قبل. سيكون بامتياز نظام العنف والعقاب الجماعي، والتنكيل بالمثقفين والسياسيين، تماما كما يحصل اليوم من قتل بالجملة، واتهامات بالجملة، واعتقالات بالجملة، وعقوبات جماعية للمدن والأحياء. وسوف تتحول الجمهورية الملكية التي صار إليها النظام إلى إقطاعة قرسطوية يملك فيها السيد الاقطاعي، سيد الوطن، الأرض ويحول جميع من يعمل ويعيش فيها إلى أقنان تابعين ومأمورين.
لكن، بصرف النظر عن المواقف العربية والدولية، وسلوكيات النظام المشينة تجاه شعبه، حققت حركة الاحتجاج السورية مكاسب هائلة بالمقارنة مع ما كانت عليه الأوضاع قبل شهرين. وليس كسر حاجز الخوف هو الوحيد الذي يتصدر هذه المكاسب ولكن، أكثر من ذلك، تاكيد وجود الشعب نفسه من خلال حركة الاحتجاج، بوصفه فاعلا سياسيا، ودخول مئات ألوف وربما ملايين السوريين الذين كانوا قد استقالوا من السياسة واستسلموا للأمر الواقع إلى المعترك السياسي، وانخراطهم في نشاطات معارضة شتى لا تقتصر على المشاركة في المسيرات. فالناس المتعاطفون مع حركة الاحتجاج أكثر بكثير من المساهمين فيها، وهم لا يكفون عن إعلان تأييدهم وتمسكهم بمشروع التغيير وإحلال نظام ديمقراطي محل نظام احتكار السلطة السابق. بل ربما امكن القول إن فكرة حتمية التحول نحو نظام ديمقراطي قد ولدت في حركة الاحتجاج هذه ولم يكن هناك كثير من السوريين يعتقدون أن ذلك ممكنا او متصورا في الامد القريب. اليوم يعرف السوريون جميعا، بما فيهم فئات واسعة داخل دائرة مؤيدي النظام، حقيقة النظام السياسي الذي يعيشون في ظله ومخاطره على حياة الأفراد ووحدة البلاد واستقرارها. وقد خبروا تفكير قادته والدرجة المتدنية لإدراكهم لمضمون مسؤولياتهم، وحرصهم على حياة مواطنيهم ومصالحهم، من خلال الرصاص الحي الذي لا تزال القوى التابعة للنظام تطلقه على السكان العزل والأبرياء منذ شهرين كاملين، وكل يوم من دون توقف. هكذا بعد القطيعة مع الخوف نشهد اليوم قطيعة متزايدة لمختلف فئات الشعب والرأي العام مع النظام، وتقيؤه من قبل قسم كبير من أنصاره ومؤيديه السابقين.
فإذا كان النظام يحظى قبل شهرين بألف بالمئة من السلطة، ويحتكر القرار في كل الشؤون المدنية والسياسية، من حق التعبير عن الرأي إلى حق التنظيم إلى حق السير في مسيرات والتظاهر ورواية الاحداث والتاريخ عبر الإعلام، فقد خسر اليوم على الأقل نصف هذه السلطة، وفرض الشعب مشاركته، رغم الاستخدام المكثف للعنف، في الكلام والتعبير والتنظيم والتظاهر والإعلام ورواية الأحداث. بل فرض على الرأي العام العالمي نفسه التطلع بإعجاب لملحمة الحرية التي يكتبها الشعب السوري بدماء أبنائه البررة. ولن يمكن للنظام الذي فقد كل رصيده السياسي في الداخل والخارج على السواء، وأصبح يسير على قدم واحدة، هي الآلة القمعية، أن يستمر طويلا في مواجهة المصير المحتوم. ولن تكف كفة المعارضة الشعبية عن النمو على حساب كفة النظام الذي يخسر كل يوم فئات جديدة من أنصاره السابقين بسبب ما يستخدمه من وسائل لا قانونية ولا شرعية ولا أخلاقية في مواجهة حركة الاحتجاج الشعبية السلمية والتي اعترف هو نفسه في البداية بطابع مطالبها الشرعي قبل أن ينقض عليها باسم مكافحة الارهاب وقطع الطريق على إقامة الإمارات الاسلامية التي هي من صنع خياله وأجهزته الضعيفة وغير المهنية.
ليست حركة الاحتجاج الشعبية هي التي تواجه اليوم أزمة إذن، بالرغم مما تعرضت له من ضربات وآلاف الشهداء والمعتلقلين، وإنما من يواجه الأزمة ويدخل في الحيط هو النظام. فقد دفعته معركته الخاسرة ضد شعبه إلى أن يتجرد من جميع أقنتعه السياسية والقانونية والأخلاقية، وأن يلبس لبوس ميليشيات القرون الوسطى ويحارب بسيوفها العارية إلا من البحث عن الربح والغنيمة. وبمقدار ما طلق السياسة وامتشق سلاح العنف، فقد أي أمل في أن يستعيد مكانته كنظام سياسي. ومن غير الممكن أن يربح ثقة شعبه بممارسة المزيد من القتل والكذب والخداع.
من هنا إن الرد على تصعيد النظام للعنف لا يكون أولا إلا بمواصلة مسيرات الاحتجاج حتى يفقد النظام ايمانه بإمكانية القضاء على الاحتجاج بالعنف، مع ضرورة إعادة تنظيم هذه المسيرات لتجنب أكثر ما يمكن من الخسائر في الأرواح، وثانيا بالعمل على تطمين قطاعات الرأي العام السوري التي لا تزال خائفة من الانخراط في المسيرات الشعبية، بالرغم من ايمانها بضرورة التغيير، ورفضها لسياسات النظام الراهنة واستراتيجياته الامنية اللاإنسانية. ولن يمكن تحقيق هذين الهدفين من دون سد الثغرة التي لا تزال تشجع النظام على الابتزاز بالعنف والاستفادة من سلاح الإرهاب، وتثير القلق عند قطاعات الرأي العام السوري الواسعة، ولا تساهم في طمأنة الرأي العام الدولي على مستقبل الاستقرار والسلام الأهلي في سورية. وهذه الثغرة ليست شيئا آخر سوى غياب هيئة سياسية قوية تعكس مطالب الحركة الاحتجاجية وتبلورها وتتمتع بما ينبغي من الصدقية لدى الشعب ولدى الراي العام الدولي. وهذا ما يستدعي العمل على لم شمل المعارضة السورية، من حركات احتجاجية شبابية ومستقلين وأعضاء في أحزاب، في إطار مبادرة واحدة تعبر عن وحدة الشعب ووحدة المطالب الديمقراطية معا.
بتحقيق ذلك لن يبقى أمام النظام خيارا آخر سوى أن يلقي سلاح العنف، ويقبل بفتح مفاوضات جدية لن تكون ممكنة إلا إذا كان هدفها الواضح منذ البداية الخروج من صيغة النظام القائمة على الاحتكار والفساد وبطش الأجهزة الأمنية، والانتقال نحو نظام ديمقراطي تعددي يضمن لجميع أبناء سورية حقوقهم ويؤمنهم على حرياتهم ومستقبل أبنائهم. ولن يكون الحوار عندئذ على اجندة السلطة الرامية إلى تعزيز النظام القائم، وإنما سيتمحور حول الاتفاق على آليات الانتقال ورزنامته وعلى القرارات والاصلاحات المؤدية لذلك.