شهيد حلب/ أمجد ناصر
يتوالى تدمير حلب، أقدم الحواضر في العالم، من أجل كرسي، مصلحة سياسية، طبقة، أقلية، أكثرية، أيَّاً يكن السبب، لكنه لا يدنو، في كتاب الضمير، من حذاء طفلٍ مات تحت الردم، ولا استغاثة ضعيفٍ أمام القدرة الكلية للقتل والتدمير. لا أدري كم بقي واقفاً من هذه الحاضرة التي يعكف الغرباء والدخلاء والأهل على تدميرها بلا رحمة. كم بقي منك، يا حلب، لم يطوه الدمار، ولم يواره الموت تحت التراب؟ لا أدري. أكتب من بعيد. ولكني قادر، على الرغم من البعد، أن أرى أعمدة الدخان تتصاعد من قلب المدينة وأطرافها.
وأنا أقلّب في المتاهة التي تسمى “الإنترنت”، أو المكتبة الكونية، كما تخيلها بورخيس، بحثاً عن تاريخ حلب، على وقع البراميل والصواريخ التي حوّلتها ركاماً، وجدت إشارةً إلى كتاب لعبد الرحمن بدوي “شخصيات قلقة في الإسلام”، وهذه الإشارة أوصلتني إلى كتابٍ آخر لهادي العلوي “ينقض” كتاب بدوي، “شخصيات غير قلقة في الاسلام”، وهما كتابان قرأتهما من قبل، ولم يعودا موجوديْن عندي بعد “تنقّل” المنازل، وربما القلوب. هكذا وجدُتني، وجهاً لوجه، مع السهروردي وهو يُساق إلى قلعة حلب، ويُحبس هناك بأمرٍ من الملك الظاهر، ابن صلاح الدين، فيُحكم عليه بالموت جوعاً (وهذا حكمٌ لا يليق بالسهروردي الذي يتبلغ بتمرة وكسرة خبز في اليوم).
والسهروردي اسمٌ بين أسماء عديدة كبيرة، قصدت الحاضرة السورية، المكلّلة بغبار الموت الآن، لتنهل منها العلم، أو لتقيم فيها. وفي تلك الأيام، قاصد حلب، المعرفي، كأنَّه قاصد باريس، أو لندن. ليس اسم السهروردي بشيوع اسم ابن الفارض، ولا بلمعان اسم ابن عربي، ولا بالحضور المقلقل لاسم الحلاج، مع أنه عتبة الثاني إلى “وحدة الوجود” وسليل الثالث في”التوحيد” و”الشهادة”. أظن أنَّ ضعف حضوره في ثقافتنا العربية يرجع إلى سببين: كونه أقرب إلى الفيلسوف وطارح الأفكار منه إلى الصوفي “الدرويش”، مع أنه ذو باع في الدروشة والخوارق. والسبب الثاني، الشبهات التي حامت حوله، وأدت إلى مقتله على يد شخصيةٍ تحظى بإجماعٍ عربيٍّ وإسلامي نادر، وبمنزلةٍ غربيةٍ خاصة.
قد يكون هذان هما السببان اللذان جعلا اسم السهروردي أقل حضوراً مما أضافه نتاجُه إلى الإرث الصوفي العربي ـ الإسلامي، فاسمه يحضر عندنا مقروناً، أبداً، بلقبه “المقتول”، وعندما نعرف أن الذي أمر بقتله هو صلاح الدين شخصياً، لا نتساءل عن “خطأ” صلاح الدين، بل عن الخطأ الذي ارتكبه السهروردي، لكي يقتله محرّر القدس.
تجعلنا الهالة الكبيرة المحيطة بصلاح الدين نميل، قطعاً، إلى الظنّ أن المتصوف هو من اجتلب القتل على نفسه لـ”كبيرةٍ أتاها”، لا صلاح الدين الذي أدار عليه آلة القتل. لكن، أيّ “كبيرةٍ” هذه؟
المؤرخون، والإخباريون، العرب الذين ترجموا للسهروردي، أو تناولوا الواقعة: ياقوت الحموي، ابن أبي أصيبعة، الحافظ الذهبي، العماد الأصفهاني، يتفقون على نقطةٍ واحدة: مناظراته مع فقهاء حلب التي ابتدأت بالإعجاب به، نظراً لغزارة علمه، وعمق معرفته، لتنتهي بإحاطته بالشبهات، وصولاً إلى قتله. فقد تبين لهم، على ما يبدو، أن مذهبه الإشراقي الذي يدعو، من بين ما يدعو له، إلى التقريب بين الأديان، لا يوافق الظروف الدينية والسياسية لتلك اللحظة التي كانت فيها الحروب مع الفرنجه تتجه إلى طورٍ حاسم. لكن، لا أحد يجزم بالسبب. ربما علينا أن نتذكّر أن مقتل السهروردي حصل في فترةٍ غير مريحةٍ في حياة صلاح الدين الأيوبي، وحربه مع الفرنجه، فقد جاءت قضية السهروردي إثر سقوط عكا بيد الفرنجة، بعد ثلاث سنين من الحصار، كان خلالها صلاح الدين، كما يقول السير هاملتون جيب، “يخوض نزاعاً مزدوجاً”: الخارجي مع الفرنجة، والداخلي مع النزعات الانقسامية وتقلبات الجيوش الإقطاعية.
في هذا الإطار السياسي، وجدت قضية السهروردي، وهو يوضح وإنْ كان لا يبرّر، كيف ولماذا قتل السهروردي الذي لم يكن أكثر خطراً على صلاح الدين من “الحشاشين” الذين عمد إلى تحييدهم في حربه ضد الصليبيين، بدل إعلان الحرب عليهم. هذا اسمٌ واحد، وواقعة واحدة، من أسماء حلب ووقائعها التي تستعصي على الحصر، حلب التي ستهزم البرابرة وتخرج، حيَّةً، من تحت الردم.
وأختم بأبياتٍ يُقال إنَّ السهروردي ارتجلها قبل موته:
قل لأصحابٍ رأوني ميتاً/ فبكوني إذ رأوني حزنــا
لا تظنوني بأني ميت/ ليس ذا الميت والله أنا
أنا عصفورٌ وهـذا قفصي/ طرت عنه فتخلى رهـنا
العربي الجديد