شيء عن سلمية
عقاب يحيى
تمهيدات
لسلمية مكوناتها الخاصة التي منحتها العديد من الميزات التي تجعلها علامات واضحة في التركيب، والتي كانت مفاعيلها قوية في بنيتها وسيرورتها، ومجموع خصائصها، وعطائها .
وإذا كان الدخول في التاريخ الموغل يحتاج بحوثاً طويلة، ويُخرجنا عن الهدف من هذه الدراسة، فإن سلمية الحالية مزيج من عبق التاريخ والحداثة، حيث يمتزجان بطريقة اختلاطية يصعب تحديد التخوم بينهما، ففي المخيال” السلموني” انه ليس وليد البارحة، أو منزوع التاريخ، ولم يأت عام 1845 فقط ليسكنها ويعيد إعمارها.. فهو ابنها،ـ وفي حاضنتها الثقافية نما ولو كان بعيداً عنها، ومن الفخر بها نشأ اعتزازه وكبريائه.. فهنا مرقد عديد أئمة الاسماعيلية، ومنها انطلقت الدعوة الفاطمية التي أسست القاهرة، وأقامت تلك الحضارة المترامية لقرابة ال 300 عام، وكذا الدعوة القرمطية التي ينظر إليها كثير اليساريين أنها أبرز دعوات العدالة الاجتماعية في التاريخ ..
ـ بين الفخر والشعور بالظلم، والأقلوية.. ينمو وعي السلموني، فيحاول التغلب على مشاعر كونه أقلوياً بالتعمق في الثقافة، وامتهان السياسة، وممارسة الإبداع، آخذين بالاعتبار أن مفهوم الأقلوية عند السلموني يختلف عن غيره لأسباب متداخلة، كونه لم يفكر يوماً بأن يكون محتكرا للحكم أو منفرداً، أو رئيساً فيه، وكون الثقافة تمنحه بعد الوعي بالوحدة الوطنية والانتماء لبلد واحد، ودور الحركات السياسية في التخفيف من العزلة وعمليات الدمج، ناهيك عن ضعف وقع ومشاعر ومكونات ” المظلومية” خصوصاً وأن وجود زعيم روحي للطائفة أسهم، ولا شك، في إحداث تطورات متلاحقة كان السلموني يتلقفها ويطورها ليكون أكثر فاعلية واندماجاً بمجتمعه السوري، والعروبي . وبإيجاز يمكن ترتيب تلك الخصائص بما يلي :
1 ـ عندما عمّرت سلمية، وكانت الأغلبية الساحقة من الإسماعيليين الوافدين من غرب البلاد : تلك القرى المتداخلة مع القرى العلوية والسنية في الساحل السوري والقدموس ومصياف، مع وجود بسيط جداً لقليل العائلات غير الإسماعيلية، تمّ توزيع الأراضي على جميع القادمين، بما يعني، وبغض النظر عن الفروق في المساحات، والخصوبة، ان الجميع كان ملاكاً، ويعني أيضاً وجود نوع من العدالة والمساواة، وحتى التنافس لمرحلة ما قبل وجود انشراخات طبقية مهمة، وكان التعبير الشائع” كلهم رؤوس بصل” يلخص تلك الاستقلالية القائمة على أساس الملكية . ونلاحظ أن التفاوتات الطبقية جاءت لاحقاً، وتكونت عبر قدوم عديد الفلاحين من الساحل السوري للعمل في الأرض عند الملاك السلموني، والذين كانو في أغلبيتهم الساحقة من الطائفة العلوية… الذين استقر قسم منهم في المنطقة، وبعضهم بنى قرى خالصة منهم، والبعض نجح في توفير بعض الأموال لشراء أرض، أو العمل في مجالات أخرى . أو عبر التمايزات التي حدثت لاحقاً .
2 ـ كانت السلطة السياسية مندمجة مع السلطة الدينية، وممثلة ب”الأمار” بعائلتيهم ” بيت تامر، وبيت ميرزا، المتحالفتين والمتصاهرتين، رغم ما يقال عن الأصول القومية المختلفة لكليهما، ولهذا فالصراع معهما اتخذ بعداً سياسياً، ومذهبياً لاحقاً أكثر منه طبقياً . وهنا يجب ملاحظة حالة شبه نادرة تتمثل بوجيهين متداخلين :
آ ـ أن الطائفة الإسماعيلية تكاد تكون الوحيدة بين الأقليات الإسلامية التي شهدت مخاضات تغيير المذهب من الإسماعيلية إلى السنة، وقد تمكنت تلك الحركة من التسرب إلى عديد الحصون واختراقها، وإلى كثير العائلات وضمّ أفراد منها، وبما جعل كثير العائلات متعددة الولاء المذهبي، حيث تجد في البيت الواحد، أو العائلة من هو إسماعيلي، ومن هو سني يريد إثبات سنيته بمزيد من التشدد وممارسة العبادات بحرفية .
ب ـ هذه الحركة السياسية ـ العقيدية اتخذت طابعاً تقدمياً على العموم، خلافاً للمعروف عن حركات السنة السياسية التي تجنح، غالباً، نحو لمحافظة والتقليد، واليمين، وكان للجندي محمد( والد الدكتور سامي الجندي وأخونه) دور القيادة فيها، والتي أول ما انتشرت في صفوف شباب متعلم، أو يمارس الوظيفة، ثم دعّمهم وجود أولئك النازحين من القدموس ـ بعد المجازر التي شهدتها القدموس ضمن الصراعات البينية ـ المذهبية مع العلويين ـ والذين يتبعون المذهب الجعفري الأقرب للسنة منه إلى الإسماعيلية”الإمامية”، والأمر نفسه ينطبق على أهل مصياف .
3 ـ ورغم هذا الانقسام وما احتواه من تنافسات، وصراعات..وحساسيات.. إلا أن العلاقة السلمونية بقيت الأقوى وكأنها الهوية العامة لجميع سكان البلد الذين يفتخرون بسلمونيتهم، بغض النظر عن المذهب الذي يعتنقون، ولذلك أيضاً لا تقف المذهبية ـ على الأغلب ـ عائقاً في الزواج المشترك بين أهل البلد، بينما نراه صعباً، ونادراً مع الآخر من مدينة أخرى، أو مذهب آخر.. وهو ماكان مجال تندر .. وحكايات كثيرة عن حدود الروابط، وموقع المذهبية في الانقسام .مع إضافة أن صفة السلموني تعني ـ خارج البلدة ـ آلياً أن الموصوف إسماعيلي حتى لو كان من أشد الناس سنية، وممارسة للعقائد السنية، وعلى سبيل المثال فعبد الكريم الجندي ابن العائلة السنية المعروفة هو بنظر عموم السوريين إسماعيلي، ورمز لنفوذ الإسماعيلية في الحكم” البعثي” .. وهكذا غيره ..بما كان يؤدي إلى شيء من قلقلة واختلاطات عند هؤلاء الذين عاشوا خارج البلدة ..
4 ـ إن استناد المذهب الإسماعيلي إلى تراث ثقافي غني، وعميق، خاصة في الجانب الفلسفي، وافتخار أصحابه بما أنجزوه في هذا المجال، والتعامل معه من قبل الفئات المثقفة، ووجود زعيم للمذهب مقيم في العالم المتقدم، ويملك إمكانات مالية كبيرة، والموقع الجغرافي على حدود البادية، ووجود البلدة وسط بحيرات سنية كبيرة من جميع الجهات..أوجبت، وخلقت ما يمكن اعتباره :
آ ـ الحاجة الكبيرة للتعاون في مواجهة الآخر الطامع، أو المعتدي، ونعرف هنا أن السبب الرئيس ل”فرمان” السلطان العثماني بإعادة إعمار سلمية كان درء هجمات البدو على المدن (حماة وحمص) والحواضر المحيطة بهما، وكان السلموني القادم من الجبال، المسلح بما يعتبره خط الفداء الذي مارسه الأجداد، والافتخار بالشجاعة، يدرك أن عليه كي يعيش، ويستقر، ويوفر الأمن والأمان لا بد له من التعاون مع الغير، والإقدام والشجاعة لفرض الوجود والهيبة مع البدو وغزواتهم، لذلك فإن “حكاية راعي العوجة” الحقيقية، وما أعقبها من هدنة مع البدو تجد خلاصة ذلك العمل الكبير الذي قام به الرعيل الأول لوقف هجمات البدو وردعهم، وفرض الاحترام عليهم، والتي تعني : الشجاعة، والوفاء بالعهد، والتزام كل طرف لحدّه. وبالتالي فإن التفرغ لهجمات البدو، وإحراز الفوز عليهم في عديد المواجهات التي حدثت، أقامت هدنة مع أصحاب المدن في حماة، وخاصة مع حمص، قائمة على الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة .
ب ـ خاصية وجود زعيم الطائفة في أوربة.. سمحت بتأسيس المدارس بوقت مبكر، والحض على التعليم، فانتشرت المدارس، ومنها المدرسة الزراعية الأولى في سورية، وارتفعت نسبة المتعلمين، والموظفين .
ج ـ التراث الغني، والطبيعة الجغرافية ما بين الوسط والبادية، وموقع البلعاس بطبيعته الخلابة، ومغاوره، وبطمه وسنديانه وشيحه، وامتداد سهول سلمية الواسعة، والخضرة المنتشرة التي تتغذى بأقنية” رومانية” قديمة كثيرة.. سمح بتوفير الأرض الخصبة لانتشار الثقافة العامة، والاهتمام بالأدب بكل فروعه، خاصة الشعر، فبرز عديد الشعراء الذين تركوا بصمتهم الخاصة في الشعر والأدب السوريين، إضافة إلى الاهتمام بالقراءة والبحث، وعموم فروع الثقافة .
د ـ هذه البيئة التي لا تستند إلى حالة عشائرية، حيث العائلة هي الإطار، وفرت الشروط المناسبة لتلقف مشروع النهوض القومي التحرري، والانخراط الواسع في العمل السياسي ..
*******
سلمية والسياسة والأحزاب :
لم تكن سلمية بعيدة عن الحراك السياسي التي عرفته بلادنا في بواكير النهوض الذي اتخذ طابعه القومي، التحرري من السيطرة العثمانية، وإن كانت مشاركتها المباشرة فيه ليست بارزة بالنظر إلى قلة المثقفين المتواجدين في العاصمة والمدن الكبرى أيامها ، وخلال مرحلة الاستعمار الفرنسي بدا الانقسام واضحاً بين اتجاهين، الأول يحاول التحالف مع المستعمر، وطلب حمايته من منطلقات طائفية، أقلوية، والآخر ناهضه، وساهم في الثورة السورية بشكل مباشر ، خاصة في ثورة حماة التي أسهم فيها عدد من رجالات سلمية .
الصراع، أو حركة التسنين التي أشرنا إليها كانت في جوهرها سياسية بامتياز، لهذا وفي وقت كانت القوى السائدة (الأمار) منخرطة في الكتلة الوطنية وانقساماتها اللاحقة : حزب الشعب، والحزب الوطني، وكان نائب سلمية في البرلمان منهم لمدة طويلة، كما وصل السيد مصطفى ميرزا الوزارة ـ وزير للزراعة ـ بينما نجح البعث أثناء فترة الانفصال بانتزاع نائب له في الريف، وكانت المرة الأولى التي يفقد فيها الأمار مقعدا آخر لهم، بينما نجح مرشحهم في سلمية المدينة بعد تنافس كبير مع مرشح البعث ..
لنقل أن مجموعة تلك المكونات، سمحت لأبناء سلمية بالانخراط الواسع والكبير في الأحزاب السياسية، بدءاً من الحزب الشيوعي الذي وجد له عديد الأنصار، ونما في شهر عسله أواخر الخمسينات، إلى القومي السوري الذي انتشر كالنار في هشيم مناسب، إلى البعث ودوره الساحق على مستوى البلدة، إلى حزب العمل الشيوعي، وبعض المكونات الأخرى.. بحيث عجّت سلمية بالأحزاب، والتنافس، ثم نجح البعث في ترجيح كفته ليصبح أقواها ـ قبل الوصول للحكم ـ
عموماً، شهية أبناء الأقليات القومية والدينية والمذهبية مفتوحة كثيراً على العمل السياسي لاعتبار أعتقده رئيساً، أنهم بانخراطهم فيه يحققون ذاتهم من جهة، واندماجهم في مجتمعهم من جهة أخرى، خاصة وأن الوضع الاقتصادي، والافتقار إلى مصادر للدخل، وإلى وجود صناعة أو تجارة أو حركة نشيطة اقتصادية.. تجعل من السياسة ميداناً مفتوحاً لتلبية كل النزوعات المجتمعية والبشرية . ونرى، على سبيل التذكير، أن الأقليات القومية غالبا ما انخرطت في الأحزاب الشيوعية والماركسية المافوق قومية، حيث تجد في الأممية إطاراً جامعاً لها، بينما اتجهت الأقليات الدينية المسيحية والإسلامية نحو كل من القومي السوري، والبعث، ولاحقاً : المكتب السياسي للحزب الشيوعي، وحزب العمل الشيوعي.
ـ في سلمية كان القومي السوري سابقاً لحركة الاشتراكيين العرب بزعامة الأستاذ أكرم الحوراني ابن مدينة حماة، والبعث، ولأنه، كان أيامها، أقرب إلى التنظيمات النازية، ويعتمد الانضباط الشديد، ويمارس طقوساً جاذبة، خاصة للشباب، نجح في استقطاب أعداد كبيرة من شباب ورجالات سلمية، وفرض نفسه منافساً قوياً للبعث الذي تأسس لاحقاً ببضعة سنوات، وبرزت منه بعض القيادات والشباب المثقف، وخاض الانتخابات بزخم .. لكن “قصة” اغتيال العقيد عدنان المالكي وما أعقبها من تصفية للحزب، وانتقاله إلى السرية.. أدّت إلى انحساره الملحوظ .. فكان ذلك عاملاً إضافيا لانتشار البعث بشكل كاسح .
ـ البعث كأهم الحركات القومية التي حاولت وراثة المشروع القومي النهضوي الذي عرف البعثرة والتشقق بعد الاستقلال، وانشقاقات الكتلة الوطنية، وعجز البرجوازية الوطنية عن حسم وحل الإشكالات الكبرى، وموقع فلسطين وتداعيات هزيمة 1948، وغيرها من العوامل . ولا شك أن لدور ودعوات الأستاذ أكرم الحوراني التحررية، القومية، ومناهضة الإقطاع والظلم أثرها الكبير في برعمة وعي سياسي جديد كان الشباب المتعلم والمتنور عطشاً لتلقفه، وعندما قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق 1941، وتطوع فيها عديد القوميين، واتضحت خيوط اغتصاب فلسطين بتآمر ثنائي فرنسي ـ إنكليزي.. ارتفع منسوب الوعي والحماس القوميين، حتى إذا ما بات المشروع الصهيوني على مرمى حجر من التحقيق، وقامت حرب ال 1948 التهبت المشاعر، وتطوع عدد كبير من سلمية مع ابن حماة قائد جيش الإنقاذ فوزي القاوقجي.. وعاد عديدهم ليروي تآمر الحكومات العربية على فلسطين، وبعض ما شاهد، ومارس، وسمع لترتفع وتيرة الحماس القومي حتى عنان السماء، وكان البعث الحاضن الأكبر لها .
يعتبر الدكتور سامي الجندي من الرعيل الأول للبعثيين، فدراسته لطب الأسنان بدمشق سمحت له اللقاء بقادة البعث : ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وذلك الرهط من القوميين المتحمسين للوحدة وتحرير فلسطين.. وسط مرجل سورية الذي كان يعجّ بالانقلابات العسكرية والحراك السياسي الخصب.. فأسس في سلمية النواة الأولى للبعث . ويمكن القول بموضوعية، أن شخصية الرجل، وبنية المثقف السلموني، وجذوره وعشقه للحرية، والاستقلالية.. أدّت إلى بناء تنظيم تبرز فيه المبدئية واضحة بعيداً عن الاستزلام، والارتباط بشخص القائد أو الزعيم.. تلك الظواهر الملحوظة في عدد من الحالات والمناطق، كما وبرزت، على العموم، حالات الانضباط والاهتمام بالثقافة.. بما كان يسم أبناء سلمية ـ بشكل عام ـ وعلى مستوى القطر بشدة الالتزام والمبدئية والوعي والثقافة، دون إغفال جيوب الانتهازية، والتعشبق، والهزال، والسطحية عند كثيرين أيضاً . ويجب التأكيد أن اندماج البعث والاشتراكي العربي دعّم انتشار البعث، خاصة وأن للأستاذ أكرم الحوراني علاقات مباشرة بعديد السياسيين من سلمية الذين صاروا في إطار تنظيمي واحد .
ـ عندما وافقت قيادة الحزب على حله عربوناً للوحدة.. كان وقع القرار صادماً جداً في شباب سلمية، ومخيّبا لطموحاتهم وأهدافهم الكبيرة في وحدة الوطن وتحقيق أماني الأمة من المحيط للخليج.. فيئس وبطّل كثير، بينما فئة قليلة ظلت مستمرة في تنظيم ” الاتحاد القومي” الذي أنشأه عبد الناصر، ومنهم الدكتور سامي الجندي، والتي اعتبرت مشاركته علامة سوداء في تاريخه، وكان لها انعكاسها اللاحق على علاقته برفاقه.. بينما ارتفعت وتيرة النقد المعمم للقيادة التاريخية، ثم بلور عديد هؤلاء الشباب ما يعرف بتنظيم القطريين، الذي كان من أبرز قيادته في سلمية : عبد الكريم محفوض ـ عبد الكريم الضحاك ـ محمد حيدر ـ عبد العزيز شربا ـ رسلان علوش.. والذي نجح في استقطاب أهم العناصر البعثية في سلمية، خاصة من طلاب الثانوية، ومن ذلك الرعيل الثاني في الحزب .
ـ عندما قام” التنظيم القومي” بدعم من تنظيم العراق، وهو التنظيم التابع لقيادة الحزب، كان صغيراً، محدود العدد، وأهم من برز فيه مصطفى رستم، وأحمد كحلة، ثم التحق به تباعاً عدد من البعثيين المعروفين : محمد شيحاوي ـ توفيق هابيل .. وآخرين..وكانت مرحلة للعمل السري، والتنافس الشديد والشرس بينه وبين التنظيم” القطري”.. والذي استمر حتى عودة” القطريين” للحزب على دفعتين . وكنت في التنظيم القومي اساساً وإن كان معظم أصدقائي في المدرسة من التنظيم القطري كحسين خلف ومحمد الحموي، وطلعت أمين، وحسن قاسم، ومحمود عزو.. وكثيرين آخرين واصلنا العمل سوية حتى فرقتنا سنوات الغربة، أو سفر البعض للخارج .
ـ لشخصية مصطفى رستم دورها المهم في استقرار وموقع شعبة الحزب، بما تمتع به من هدوء، وبساطة، ووضوح رؤية، وصدق، ووعي اعتبر متقدماً عن السائد، ومسلك يضع المبادئ في موقع التجسيد، ولأني كتبت عنه عدداً من المقالات التي ستعودون إليها، سأكتفي بهذا القدر. وبرز على صعيد الجيش عبد الكريم الجندي الذي يعتبر من أهم اركان حركة 8 آذار وقيادات المرحلة..وكتبت عنه أيضاً..كما برزت عديد الإطارات المهمة.. كأحمد كحلة، وسامي هابيل، وغيرهما كثير .
ـ لعبت شعبة سلمية دوراً حيوياً في حركة 23 شباط، 1966 قبيلها وبعدها، انطلاقاً من قوة وضخامة الشعبة والعدد الكبير من الأعضاء العاملين فيها، ولميولها اليسارية الواضحة، وعلاقتها المتميزة بمصطفى رستم، عضو القيادة القطرية، في تلك الفترة، ولهذا لم يكن عدد من اتخذ موقفاً معارضاً منها كبيراً، ولم يشتمل إطارات مهمة، عدا بضعة منهم كان جوزيف الشعار المحسوب على اليسار من أبرزهم، بينما بدت الصورة مخالفة على صعيد الضباط من سلمية الذين صفي معظمهم تحت عنوان : ” جماعة أمين الحافظ” وكان معظمهم من البعثيين الأشداء، وممن ساهم بشكل مباشر في حركة 8 آذار.. ففقد الحزب بهم قوة جيدة كان التزامها الحزبي عنوانها، وسلطت أضواء المسؤولية على عبد الكريم الجندي لتحميله وزر ما حصل .
ـ نظرياً وعندما داس الطاغية الأسد على أعلى مؤسسة في الحزب( المؤتمر القومي) تشرين الثاني 1970 كانت الأغلبية من البعثيين ضده، لكن تهاوى الوضع بفعل عوامل كثيرة، وإن ظلت نسبة معتبرة منهم حافظت على موقفها المعارض، وشاركت في العمل السري.. وكنت من هؤلاء الذين تولوا قيادة العمل السري سنوات، بكل المخاضات، وصولاً إلى التخفي والمطاردة، والهجرة بمهمة طالت لثلاث عقود، وهذا حديث يطول .
ـ هناك عوامل كثيرة جعلت البيئة السلموينة معارضة بشكل عام، وكسمة واضحة.. منها أثر وموقع العمل السياسي في تشكيل شخصية ووعي الناس، ومستوى المبدئية والمصداقية، ومنها ما يعود إلى جذور الصراعات البينية بين الإسماعيليين والعلويين، والتي يعشش بعضها في الذاكرة القريبة عند بعض الأوساط.. لذلك دخل الاعتقال عدد كبير من ابناء سلمية، بعثيين بكثرة، ومن حزب العمل الشيوعي، والمكتب السياسي للحزب الشيوعي( حزب الشعب حاليا)، ومن الناصريين، وإسلاميين، ومستقلين، ومثقفين.. وغيرهم بما جعلها فعلاً من أهم مناطق سورية معارضة سياسية للنظام على مر العقود . لهذا فانخراطها بالثورة منذ الأيام الأولى، وحالتها الاستثناء.. لم تكن مفاجئة، فالمنطقي، والطبيعي أن المنطقة عطشى للحرية، ومؤمنة بضرورة إسقاط النظام وبناء النظام الديمقراطي التداولي ..