شياطين حمص المتربصة عند مجرى النهر
شوقي بزيع
لكل مدينة من المدن نكهتها الخاصة ومذاقها المختلف وإشاراتها التي نلتقطها نحن الوافدين من الخارج بعين الحذر أو الافتنان، التوجس أو الاشتهاء، والرغبة أو النفور. ثمة مدن تنغلق على ذاتها كالقلاع أو الأصداف، ومدن تفتح ذراعيها لكل زائر أو عابر سبيل، ومدن تبدو لأول وهلة عدائية وثقيلة الوطأة حتى إذا سبر الزائر أغوارها وامتلك مفاتيحها السرية بدأت ألغازها بالانكشاف وأسفرت بالتدريج عن جمالاتها المغوية. ثمة مدن تلفظنا دائما إلى خارجها، وأخرى تشعر الوافد إليها بأنه ملك متوج بذهب الحرية والزهو وافتراع الغامض الشهي، تماما كتلك المدينة التي ما ان يقضي ملكها نحبه في «ألف ليلة وليلة» حتى يهرع سكانها خارج الأسوار وينتظروا أول من يصادفونه من الوافدين ليحتفلوا بقدومه وينصّبوه ملكاً على مدينتهم.
لعل الذين شبّهوا المدن بالنساء لم يبتعدوا كثيراً عن الحقيقة. فلا مدينة تشبه الأخرى ولا امرأة كذلك. فمن هنا وهناك تنبعث روائح وأخلاط ورعشات وصلات متغايرة بالمكان والزمان والفرح والقتامة والحواس الخمس. وكما لكل امرأة مزاجها ولغزها ومفاتيحها السرية وإيقاعها الجسدي والروحي فلكل مدينة أيضاً ما يتصادى مع هذه الصفات والمزايا وما يستدعي شغفاً بالإقامة أو نفوراً منها. وإذا كانت المدن التي نقيم فيها تتحول بحكم العادة والاستقرار إلى كنف أمومي يشعرنا بالطمأنينة، التي لا تخلو أحياناً من الضجر والرتابة، فإن المدن الأخرى تكتسب صفات الإناث المغضيات على «كنوزهن» المحتجبة والمتصلات أبداً ببريق اللهفة والحسرة ونداء المجهول. وحين أطلقت على مجموعتي الشعرية الأخيرة اسم «مدن الآخرين» كنت أعبّر في الحقيقة عن شغفي العميق بالمدن التي يتوهج جمالها بعيداً عن مرمى العين وعن السحر الذي لا ينفد لما هو غير ممتلك في المدن والأماكن والنساء واللغات ومواطئ الأرواح والأقدام. كأن تلك المدن نظيرة للقصائد نفسها في ما تنطوي عليه من أسرار وتهيؤات ولقىً غائرة كالكنوز في تضاعيف النسيان.
ولأن لا مدينة تشبه الأخرى، فهناك مدن كثيرة زرتها من قبل ورغبت في الكتابة عنها، على ما بينها من تغاير وفروق شاسعة، كما هو حال دمشق والقاهرة وأسوان وصنعاء وعمان والرباط ومراكش وبني حلال وطهران ولوغانو ولوتسرن وروما وأثينا ولندن وباريس. لكن تلك الرغبة لم تأخذ طريقها إلى التحقق بفعل الكسل أو التهيب أو عدم التقاط اللحظة في أوانها المناسب. وإذا كانت كل واحدة من هذه المدن تشكل مشروعاً لقصيدة غائرة في الظن تنتظر زيارة أخرى أو انبثاقا مفاجئا من قرارة النفس فإن المدينة التي تلح عليّ فكرة الكتابة عنها في هذه الآونة هي مدينة حمص السورية التي وجدتني منجذباً إليها بقوة مجهولة المصدر منذ زيارتي الأولى لها مشاركاً قبل عشرين سنة في مهرجانها الشعري الذي تقيمه رابطة الخريجين الجامعيين في شهر تموز من كل عام. واللافت في هذا السياق ان زياراتي العديدة اللاحقة للمدينة لم تخفف على الإطلاق من تعلقي بها، كما يحدث في العادة مع الكثير من المدن، بل وجدتني عاما بعد عام مصعوقا بتلك الكهرباء الروحية المزمنة التي تلمع أسلاكها من وراء الحدود الشمالية للبنان مشعلة في حناياي أكثر البروق صلة بالألفة والحنين كما بالرغبة العارمة في الكتابة.
قبل أن أزور حمص في أوائل التسعينيات كان اسمها بالنسبة لي يرتبط بصورة ديك الجن، الشاعر العباسي الذي أحب فتاة رائعة الجمال تسمى «ورد» ثم اقترن بها بعد طول تمنع من أهلها الذين ينتمون إلى ديانة أخرى غير ديانة الشاعر. لكن القصة لم تبلغ مع الزواج نهايتها السعيدة بل ما لبثت الغيرة أن نهشت قلب العاشق المستهام وقادته في سورة غضب جنوني إلى قتل حبيبته ذبحاً بالسيف، ومن ثم إحراقها بعد ذلك ليصنع من رمادها كأساً يحتسي بواسطته خمرة الندم والأسى وتبكيت الذات حتى لحظة رحيله عن العالم. كنت قد قرأت بدهشة وفضول شديدين تلك السيرة التي يتداخل فيها الحب والموت تداخل النصل والعنق، ورغبت بقوة أن أشاهد بالعيان مسرح تلك العلاقة الغريبة التي احتضنتها بساتين الميماس قبل أكثر من ألف عام من الزمن، والتي شيعتها مياه نهر العاصي بعويلها الدهري. لذلك فإن أول ما فعلته بعد ليلة الشعر الأولى في حمص هو زيارة المتنزه الذي يحمل اسم ديك الجن على ضفة العاصي وإرهاف السمع إلى الترجيعات البعيدة لصوتي العاشقين المستهامين وضحكاتهما التي ينبعث رنينها الطفولي من سفوح الزمن وقيعانه. بات ذلك المتنزه علامة حمص الفارقة على امتداد عقدين من الزمن والنصب التذكاري لدماء «ورد» المراقة على مذبح العشق المريض، والذي لا بد من تفقّده في كل زيارة لي إلى حمص ومع كل وقفة على منبرها الشعري.
الأمر الآخر الذي شدني بقوة إلى حمص هو رياحها التي لا تكف عن الهبوب على مدار الساعات والأيام والتي يطالعك لفحها المشبوب منذ ان تغادر تل كلخ وصولاً إلى المدينة وما يليها من السهول والمفازات. الأصدقاء الحمصيون الذين سألتهم عن الظاهرة قالوا بأن سببها يعود إلى وقوع حمص على المرمى الدائم للرياح القادمة من المتوسط والتي تنفذ إلى المدينة عبر «فتحة لبنان» التي تفصل بين سلسلة جبال عكار وبين هضاب طرطوس واللاذقية، بحيث تتحول عقدة المواصلات الأبرز في الشمال السوري إلى ممر إجباري للريح التي تلطم البيوت والوجوه والسهول، بقدر ما تلطم الأشجار المحيطة بالمدينة وتجبرها على الانحناء باتجاه الأرض. فعبر شعاع يتجاوز طوله عشرات الكيلومترات لا نكاد نرى من الجهات الأربع شجرة مستقيمة الجذع إلى الأعلى بل نلمح أشجاراً محنية الظهور كما لو أنها نساء مفجوعات يَنُحْنَ على قامة «ورد» المقصوفة في ريعانها، بما يذكّر بقول الكاتب الفرنسي ميلوز: «الرياح العاتية تعوي بأسماء النساء الميتات منذ زمن طويل».
كل ذلك وسواه يجعل من حمص حالة شعرية بامتياز ومنجماً للاستعارات غير قابل للنفاد بحيث لا نكاد نلمح أحداً في حمص لا ينظم الشعر او يحفظه او يتذوقه، وهذا أضعف الإيمان. ثمة ما يؤكد هنا عبقرية المكان الذي يتضافر نهره وبحيرته وسهوله وأشجاره ورياحه العاتية لكي تؤلف معاً مدينة استثنائية وبالغة الغرابة والتميز. ولعل غنى الجغرافيا ذاك هو الذي جعل المدينة قبلة لأنظار الفاتحين عبر العصور ودفع بالقائد الإسلامي خالد بن الوليد لكي يتخذها بعد فتحه لها مكاناً لإقامته ومثوى لرقاده الأخير. وقد انعكست عبقرية المكان وفرادته في طباع الحمصيين وتكوينهم النفسي الذي وسمته عبر الزمن روح النكتة والدعابة وانتشال الضحك من قاع الألم أو المأساة. فلقد كان لافتتان الحماصنة بالحياة وولعهم بها الأثر الأكبر في تحايلهم على الموت ومخاتلتهم له عبر بديهة جماعية يخالها البعض نوعاً من البساطة التي تقارب السذاجة فيما هي في عمقها وجه من وجوه الذكاء اللماح والقدرة المفرطة على الخروج من مآزق الزمن وتحدياته.
خميرة المستقبل
لن يتسع المقام للحديث المسهب عن المدينة المترعة بالأخيلة التي تسند ظهرها إلى جبال لبنان الغربية فيما تمد بصرها باتجاه الداخل المفتوح على الصحراء وتموجاتها الرملية اللاهبة. ولن يتسع المقام للحديث عن تألق المدينة التي أنجبت زمن الرومان كلاً من الامبراطورين الشهيرين الكسندر سيفيريس وجوليا دومنا، أو عن انكساراتها المقابلة في غير مفصل من مفاصل التاريخ. لكن ما لا يمكن إغفاله هو تلك الحادثة الشهيرة التي وقعت للمدينة مع القائد المغولي تيمورلنك في نهاية القرن الرابع عشر. فعندما اجتاحت جيوش تيمورلنك سائر بلاد الشرق ووصلت طلائعها إلى مشارف حمص تاركة وراءها مدناً محروقة ومدمرة بالكامل خرج أهل حمص إلى الشوارع متظاهرين بالجنون وعلقوا في رؤوسهم القباقيب وأخذوا يقرعون بكامل طاقتهم على صحون نحاسية كادت تصيب الجحافل الغازية بالصمم. ولم يكتف الحماصنة بذلك بل أشاعوا بين الجنود الزاحفين ان كل من يشرب من مياه العاصي يصاب مثلهم بالجنون! وهو ما حدا بتيمورلنك إلى المرور بالمدينة مروراً سريعاً ومغادرتها مع جيوشه هرباً من الشياطين المتربصة به عند مجرى النهر. ولأن الواقعة تلك حدثت يوم أربعاء فقد أصبح ذلك اليوم عيد حمص الأسبوعي الذي تعم فيه البهجة وتُرتجل النكات احتفاء بنجاة المدينة من المذبحة.
تلك الشياطين التي هرب منها القائد المغولي هي نفسها التي ترفد مخيلات أهل حمص بأسباب الإبداع والتوقد الذهني والنقمة على السائد. وفي ذلك التحالف الفريد بين اندفاعة الرياح وحركة النهر المعاكس لمجرى الأنهار كلها ما يفسر نفور الناس من الرتابة أو التأسن والاستنقاع العقلي وافتتانهم المقابل بكل ما هو مختلف ومباغت وغير مألوف. كأن أهل المدينة في طبعهم الغرائبي يزيلون الفوارق الضئيلة بين انتمائهم السوري ونزوعهم السوريالي، إذا صح ان يكون الجناس البديعي عابراً للغات. وما يفعلونه الآن هو تأكيد جديد على ضيقهم بالاستبداد والظلم والتهميش وانتصارهم لحق الإنسان في الحرية والكرامة، ولحق البراعم في التفتح والمياه في الجريان والعقول في اجتراح الأفكار. وبما ان الناس لم تتفتق أذهانهم عن حيلة جديدة تجنبهم ذلك الهول الفجائعي الذي يكاد يحول مدينتهم إلى أنقاض فإنهم لا يجدون مفراً هذه المرة من استيلاد مستقبلهم عبر أنهار الدم المراق والبيوت المبقورة الأحشاء والأجساد المطحونة تحت حديد المجنزرات.
في مخاض حمص المثخن بالكوابيس لا أعرف من ظل من الكتاب والشعراء والأصدقاء العاديين الذين عرفتهم على قيد الحياة. لا أعرف ماذا حل بفندق حمص الكبير الذي طالما احتضننا بين حناياه ولا بمتنزهات الفردوس والدوار وديك الجن، لكنني أعرف بالمقابل بأن حمص الآن تصنع خميرة المستقبل وأتمنى لو أستطيع ان أضيف تفصيلا صغيراً إلى قصيدتها الفاتنة التي ستظل أبداً قيد لإانجاز.
السفير