شيموس هيني حفر عميقاً في تاريخ إرلندا/ فخري صالح
فقد العالم الناطق بالإنكليزية آخر شعرائه برحيل الشاعر البريطاني – الإرلندي شيموس هيني (1939 – 2013)، كما فقدت بريطانيا واحداً من أهم شعراء ما بعد الحرب العالمية الثانية ممن ينتمون إلى الجيل الذي فتح عينيه على أهوال الحرب العظمى التي شكّلت راسباً عميقاً في الوعي الشخصي والشعري كذلك. فقد بدأ هيني (المولود في بلدة موسبون، التي تبعد حوالى ثلاثين ميلاً عن مدينة بلفاست) كتابته الشعرية في نهاية خمسينات القرن الماضي مركّزاً على عناصر البيئة والتاريخ الإرلنديين، ما جعله أهمَّ شاعر إرلندي بعد وليم بتلر ييتس، بل يعد في الحقيقة وارث ذلك الشاعر الكبير سواء من حيث العالم الشعري الذي يغوص عميقاً على التقاليد والإرث الارلنديين، أو من حيث محاولته عدم التحول إلى شاعر لحظة سياسية. وجرّ هذا الانسحاب الرمزي من عالم السياسة اليومية والصراع الدموي في إيرلندا الشمالية، الغضب السياسي على وليم بتلر ييتس، وووجِه هيني بالاتهامات نفسها، فاتهم بالخيانة عندما انتقل عام 1972 من بلفاست إلى دبلن عاصمة إرلندا الجنوبية ليعيش هناك، أو عندما ذهب إلى لندن عام 1988 لتسلّم جائزة بريطانية. في ذلك الوقت كان الصراع الدموي قد اندلع بقوة بين الجيش الجمهوري الإرلندي والقوات البريطانية في إرلندا الشمالية مسقط رأس شيموس هيني.
لربما تكون الظروف السياسية التي أحاطت تجربة هيني الشعرية هي التي دفعت عدداً من النقاد إلى الربط بين محادثات السلام البريطانية – الإرلندية التي جرت منتصف التسعينات ومنحه جائزة نوبل للآداب عام 1995. لكن ارتباط اللحظتين السياسية والأدبية لا يقلل من مكانة هيني الشعرية وإبداعه الذي تطور منذ نشر ديوانه الأول عام 1966 عن دار النشر البريطانية الشهيرة «فيبر أند فيبر». ويبدو أن ظروف ولادة هيني لأسرة كاثوليكية في إرلندا الشمالية، ونشأته في مزرعة في مقاطعة ديري، قد حددت عملية تطوره الشعري، كما وجهت حساسيته الأدبية ليصبح شاعراً رعوياً حديثاً تحتل الأرض ومتعلقاتها الحسيّة مركز عمله الشعري.
في صباه فاز هيني بمنحة دراسية لمدرسة القديس كولَمب، ومن ثمّ انتقل إلى جامعة كوين في مدينة بلفاست البروتستانتية بعد حصوله على منحة أخرى تعطى للمتفوقين من أبناء المناطق الريفية. وأصبح في ذلك الوقت الأكبر سناً بين عدد من شعراء الجامعة الشباب، وهم جون مونتاغيو وتوماس كينسيلا وريتشارد ميرفي وديريك ماهون ومايكل لونغلي. وقد لفت هؤلاء الشعراء الشباب الأنظار إليهم وأصبحوا فيما بعد من خيرة شعراء إرلندا المعاصرين. يشير هيني إلى أنه خلال المرحلة الجامعية لم يبدأ كتابة الشعر إلا بعد أن قرأ شعر الجيل الجديد ممثلاً بتيد هيوز وباتريك كافاناه وآر. إس. توماس إضافة إلى زملائه من الشعراء الإرلنديين الشباب. وما بين عامي 1989 – 1994 عمل هيني أستاذاً لمادة الشعر في جامعة أكسفورد وأستاذ كرسي بويلستون للبلاغة والخطابة في جامعة هارفارد.
بدأ هيني ينشر شعره في بداية الستينات، وأصدر عام 1966 ديوانه الأول «موت عالِم طبيعة» الذي تشكل طفولة هيني الريفية الخلفيةَ المحفورة للكثير من قصائده. وتضم المجموعة الأخيرة عدداً من القصائد التي تتخذ من المكان الريفي أو الحيوانات موضوعاً لها، لكن ذلك لا يجعل من هيني شاعراً من شعراء الطبيعة، إذ إن ما يشده في التجربة الريفية هو المجتمع وتقاليده، والطقوس الريفية، ومهارة الحرفيين وأصحاب الصناعات اليدوية. كما أن الموضوعات الرئيسة في عمله الشعري تتمثل بالحفر عميقاً على تجربة النمو والنضج في ذلك الريف الإرلندي. من هنا، تبدو ذكريات الطفولة وتجاربها، وذكريات العائلة كذلك، هي المصدر الفعلي لأفضل قصائد هذه المجموعة ومجموعات شعرية تالية. ومن اللافت أن القصيدة الأولى في هذه المجموعة الشعرية هي في عنوان «حفر» في إشارة واضحة إلى جوهر ما يفعله الشاعر في قصائده، حيث يحفر في ذاكرته كاشفاً عن والده وحياته، ثمّ يغوص عميقاً في حياة جده أيضاً، مشكلاً عالمه الشعري من المادة العائلية اليومية التي سيضفرها مستقبلاً مع جذور التجربة التاريخية الإرلندية.
يحدد هيني منذ البداية مشروعه الشعري، ذلك المشروع الذي يضع هدفاً له أن يمنح صوتاً للصامتين والمقموعين. ومع أن هيني يعمل في كتابه الشعري الأول على تفحص علاقته مع تاريخ بلاده وماضي عائلته، إلا أن التطور الأساسي الذي حدث في شعره يتمثل في ذلك الانتقال الحاد الذي نشاهده في شعره بدءاً من عام 1967 بعد أن قرأ لأول مرة كتاب عالم الآثار الإرلندي بي. في. غلوب «أهل المستنقعات» The Bog People. أحدث ذلك الكتاب في شعر هيني تأثيراً عميقاً يماثل الأثر الذي أحدثه كتاب جيسي وستون «من الطقس إلى الرومانس» في شعر تي. إس. إليوت. لقد فتح كتاب «أهل المستنقعات» عينيه على المستويات العميقة لتطابق التاريخ والأسطورة.
يقول هيني عن ذلك الكتاب إنه: «يركز بصورة أساسية على أجساد الرجال والنساء التي وجدت محفوظة في مستنقعات أراضي الجوت عارية، أو مشنوقة، أو مقطوعة الأعناق، ترقد أسفل نبات الخُثّ نصف المتفحم منذ العصر الحديد المبكر. ويجادل المؤلف بصورة مقنعة أن مجموعة من هذه الأجساد، وعلى الأخص إنسان تولند الذي يُحتفظ برأسه في آروس في متحف سيلكيبيرغ، وقد كان جزءاً من طقس تضحية للإلهة الأم، إلهة الأرض التي كانت في حاجة إلى عرسان جدد، تقطع رؤوسها كل شتاء لتتزاوج معها في الربيع».
يمكننا أن نلحظ، من ثمّ، التأثير العميق لهذا الاكتشاف الآثاري في مجموعات هيني الشعرية التي أصدرها بعد عام 1966. فهو يتخذ من سكان المستنقعات نموذجاً بدئياً، حيث تمتزج في ذهن الشاعر صور هؤلاء الضحايا التي لا تنسى مع صور الأعمال الوحشية التي ترتكب في الماضي والحاضر في طقوس الصراع السياسي والديني في إرلندا، كما يشير هيني نفسه. والمجموعات الشعرية «باب يفضي إلى العتمة» (1969) و «شتاء نحو الخارج» (1972) و «شمال» (1975)، تستمد من هذا الفهم الخاص بطقس التضحية الماضي والمعاصر مادَّتَها الشعرية التي منحت شعر هيني خصوصيته وعمقه. ويمكننا من خلال عناوين هذه المجموعات أن نحدد موضوعات هيني الشعرية: الطبيعة، الفصول والخطر الذي يتهدد الحياة الإرلندية في المناطق الريفية، في الماضي والحاضرِ الذي يسود فيه عدم الاستقرار السياسي.
إن صورة الأرض الإرلندية، التي تشربت دم الماضي واحتوت عظامه، تصبح رمزاً أساسياً في شعر هيني. وبهذه الطريقة تدخل الصراعات السياسية المريرة لإرلندا المعاصرة شعره من باب الاهتمام بالماضي ورموزه وعوالمه الدموية، في محاولة من الشاعر التملص من التعبير المباشر عن مشكلات شعبه. وهو يتجنب بذلك تبسيط هذه المشكلات المعقدة، ويثبت في الوقت نفسه أنه ظل، منذ عام 1970، يدور حول مسألة جوهرية في داخله لا يستطيع القبض عليها، وهي مشكلة علاقة الشاعر المعاصر بالقضايا السياسية الراهنة لوطنه. وتعود هذه الحيرة والارتباك إلى عدم قدرة الشاعر على سجن نفسه في قالب الرؤى التبسيطية للصراعات بين البشر والشعوب، وعدم رغبته في تحويل شعره إلى معرض للآراء السياسية التي ترضي فريقاً وتغضب آخر.
إن هيني، على رغم ما يبدو من انشغاله بماضي إرلندا التاريخي وأساطيرها وطقوسها، شاعر معاصر بكل ما في الكلمة من معنى، وليس توجهه إلى الماضي إلا محاولة لفهم الحاضر والقبض على جوهر صراعاته. وهو يبدو، في معظم شعره، مهموماً بالحصار الذي يفرضه عليه دوره كشاعر مهتم بصورة عميقة بالمشكلات السياسية لإرلندا المعاصرة. وتظهر هذه المشكلات بصورة لا تخطئه العين في قصائده التي كتبها بعد مجموعته «شمال»، خصوصاً في «عمل ميداني» (1979) و «جزيرة المحطة» (1984).
في «قنديل الزعرور» (1987) و «إبصار الأشياء» (1991) يدخل شيموس هيني أرضاً تخيلية جديدة. قصائده هنا، خصوصاً في «قنديل الزعرور»، تستقصي موضوع الفقدان، الفقدان بعامة وفقدان والدة الشاعر بخاصة (التي توفيت عام 1984). وهو يتأمل في الوقت نفسه وعيه ككاتب، ويعود بالطبع إلى ذكريات الطفولة والنضج، إلى حياة العائلة وأرض المستنقعات التي عبر عن أسطورتها في شعره. من هنا، يبدو عالمه الشعري متماسكاً حول موضوعات أساسية، إذ إنه يتشكل حول صور تتطور من عمل شعري إلى آخر. وهو يثبت من خلال تواصل تجربته الشعرية أنه بالفعل حفار يقوم بالكشف عن ماضي شعبه وجذوره التاريخية من خلال الكتابة.
أصدر هيني أكثر من مجموعة شعرية وكتاب نقدي ومسرحية بعد حصوله على نوبل، ولاقت هذه الكتب اهتماماً نقدياً ملحوظاً، ورواجاً بين القراء. لكن موضوعات هيني الأثيرة التي تدور حول إرث إرلندا القديم وتاريخها الرعوي، ظلت مركز الاهتمام في شعره، كما في مجموعاته «ضوء الكهرباء» (2001) و «المقاطعة والدائرة» (2006) التي نال عليها جائزة تي. إس. إليوت في السنة نفسها. لقد ظل هيني، الذي أعاد ترجمة القصيدة الملحمية «بيوولف» الأنغلو – ساكسونية الشهيرة المجهولة المؤلف ترجمة جديدة عام 1999، شاعر إرلندا الذي يجدل تاريخها وأساطيرها ورموزها القديمة بالتأثيرات الأنغلو – ساكسونية وحكايات عائلته الريفية وأحزانها الشخصية. إنه شاعر رعوي معاصر من طراز رفيع.
قصيدتان من شيموس هيني
كير الحداد
ما أعرفه باب واحد يفضي إلى الظلام.
وفي الخارج توجد محاور عجلات ودواليب عتيقة وطارات حديد تصدأ،
وفي الداخل حلقة سندان مطروقة قصيرة الانحدار،
ثم مروحة الشرر غير المتوقعة
أو الهسيس الصادر عن حذوة حصان جديدة تصير صلبة في الماء.
ينبغي أن يكون السندان في مكان ما في الوسط،
مدبباً مثل قرن وحيد القرن، في مربع ما هناك،
ثابتاً لا يتحرك: مذبحاً
يضحّي بنفسه شكلاً وموسيقى.
أحياناً كان يميل مستنداً، بمريلته الجلدية والشعرات في أنفه، إلى حافة الباب
مستعيداً أصوات قرقعة حوافر الأحصنة إذ تلمع صفوف الإشارات الضوئية،
ثم يصر بأسنانه ويهرع إلى الداخل، صافقاً وراءه الباب
ليطرق الحديد الحقيقي وينفخ في الكير.
التابع
بمحراث يجره حصان حرث أبي الأرض،
كتفاه تكورتا مثل شراع مشدود
بين مقبضي المحراث وثلم الحقل.
والحصانان جاهدا مستجيبين للسانه الذي يطقطق.
بمهارته وخبرته كان يثبت الذراع الجانبية
ويثبت شفرة المحراث الفولاذية المدببة اللامعة.
كان المرج يمتد دون انقطاع على مرمى البصر.
وفي المساحة غير المحروثة من الحقل كان الفريق
الذي يتصبب عرقاً يروح ويجيء قاطعاً الأرض
بعزم وقوة. عينه كانت تضيق وتستدير،
وتحسب مساحة ثلم الحقل بدقة لافتة.
كنت أتعثر فوق آثار نعليه على أرض الحقل،
وأسقط أحياناً فوق أرض المرج المحروثة،
كان أحياناً يردفني خلفه
منحنياً إلى الأمام ومعتدلاً بقامته في مشيته المتهادية.
كنت أتحرق شوقاً لكي أكبر وأتمكن من حراثة الحقل،
أن أغلق عيناً واحدة وأشد ذراعي.
لكن كل ما فعلته هو أنني تبعته
متوارياً في ظله الكبير وهو يعبر المزرعة.
كنت شيئاً مزعجاً، يتعثر، ويقع،
يلغو ويثرثر في العادة. أما الآن
فإن أبي هو الذي يتعثر خلفي،
لكنه لن ينجح في اللحاق بي.
الحياة