صاحب الكتاب الملعون
علي عبد الرازق في الثياب المدنية.
محمود الزيباوي
في آب 1925، اجتمعت هيئة كبار علماء الأزهر، وأصدرت كتاباً يقضي بطرد الشيخ علي عبد الرازق من زمرتها، وذلك بعد أربعة أشهر من صدور كتابه “الإسلام وأصول الحكم”. أشعل هذا البحث عاصفة لم تهدأ إلى يومنا هذا، وتوالت طبعاته برغم إدانته الرسميّة، وآخرها طبعة صدرت حديثاً ضمن “سلسلة كتاب الدوحة” في قطر. قدّم لهذه الطبعة الجديدة الباحث السوداني حيدر إبرهيم علي، ورأى إن أسئلة المؤلف عن علاقة الدين بالدولة ستظل ماثلة طالما استمر جدال الفكر السياسي الإسلامي حول هوية الدولة من غير حسم قاطع.
ألغى المجلس الوطنى في تركيا السلطنة عام 1922، ثم أعلن بعد عامين إلغاء الخلافة. تهاوت السلطنة العثمانية، وجاء حكم مصطفى كمال أتاتورك أشبه ببداية لعهد جديد غابت عن نظام السلطنة والخلافة، فطمع بعض الملوك والحكّام باحتلال هذا المنصب الشاغر، وفي مقدّمهم الملك فؤاد في مصر، والشريف حسين في الحجاز. في تلك الفترة الانقلابية من التاريخ الإسلامي، وضع الشيخ علي عبد الرازق كتابه “الإسلام وأصول الحكام”، وهو أشبه ببيان من مئة صفحة يتألف من ثلاثة فصول يحوي كل منها ثلاثة أبواب، وعنوانه الفرعي “بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام”.
يستهلّ المؤلّف كتابه باستعراض تفاسير عبارة “خلافة”، وهي في لسان المسلمين “رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي”. ثم ينقل عن الإمام البيضاوي قوله إن الإمامة “عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إقامة القوانين الشرعية، وحفظ حوزة الملة”، وتوضيح ذلك قول ابن خلدون في مقدّمته الشهيرة: “الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به”. يستعيد علي عبد الرازق هنا تعريف ابن خلدون بمنصب الخلافة بوصفه “نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به، تسمّى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماماً”، مذكّراً بقول أبي بكر: “لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله”، وذلك “لأن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب، وأما الحاضر فلا”.
يمضي الكاتب في هذه القراءة الجديدة للخلافة، ويذهب إلى أنّ القرآن يخلو من حديث مباشر وقطعي عنها، و”ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة، ولم يتصدَّ لها، بل السنّة، كالقرآن أيضاً، قد تركتها ولم تتعرض لها”. بعدها، يأتي الحديث عن “الخلافة من الوجهة الاجتماعية”، وفيه يقول: “من الملاحظ البيّن في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود. فلسنا نعرف لهم مؤلفاً في السياسة ولا مترجماً، ولا نعرف لهم بحثاً في شيء من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليلاً لا يُقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون”. يؤكد علي عبد الرازق أن العرب كانوا “أحق بهذا العلم، وأولى من يواليه”، ويتساءل: “فما لهم قد وقفوا حيارى أمام ذلك العلم، وارتدّوا دون مباحثه حسيرين؟ ما لهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو، وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقّبوه المعلم الأول؟ وما لهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات عند اليونان، وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم النحو، وان يروّضوهم برياضة بيدبا الهندي في كتاب كليلة ودمنة، بل رضوا بأن يمزجوا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر، وإيمان وكفر؟”.
يخاطب المؤلف قارئه ويقول: “لم يترك علماؤنا ان يهتموا بعلوم السياسة اهتمامهم بغيرها غفلة منهم عن تلك العلوم، ولا جهلا بخطرها، ولكن السبب في ذلك هو ما نقصه عليك”، ثمّ يستعيد رواية تولّي يزيد الخلافة في زمن الأمويين، ورواية تولّي فيصل بن حسين بن علي الحكم في العراق في الزمن المعاصر، مستدلا من خلال الروايتين “كيف تؤخذ البيعة ويُغتصب القرار”. بهذه الطريقة، سادت الخلافة إلى أن هوت في بغداد على يد المغول، وبقي الإسلام ثلاث سنين من دون خلافة، ثم أنشأ الظاهر بيبرس بيتا للخلافة في مصر، وتكرّرت هذه السياسة في زمن العثمانيين.
يعود علي عبد الرازق إلى عصر النبوة، ويتطرّق إلى مبدأ نظام الحكم فيه، ويقول: “المسألة الآن هل أن النبي كان صاحب دولة سياسية ورئيس حكومة كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وحدة دينية أم لا؟”. يستنتج الباحث أن الإسلام “رسالة لا حكم، ودين لا دولة”، وأنّ النبي “ما كان إلا رسولا لدعوة خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وإنه لم يكن للنبي ملك ولا حكومة، وإنه لم يقم بتأسيس مملكة”، فالقرآن يمنع أن يكون النبي “حفيظاً على الناس، ولا وكيلاً، ولا جباراً ولا مسيطراً، وأن يكون له حق إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين: ومن لم يكن حفيظا ولا مسيطرا فليس بملك، لأن لوازم الملك السيطرة العامة والجبروت، سلطاناً غير محدود”.
يجزم الكاتب أن الرسول “لم يكن ملكا، ولم يطلب الملك، ولا توجهت نفسه عليه السلام إليه”. ثم يضيف مخاطباً القارئ: “لا يرينك هذا الذي ترى أحيانا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك والدولة، فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان صلى الله عليه وسلّم يلجأ إليها، تثبيتا للدين وتأييدا للدعوة”، “وليس عجيبا أن يكون الجهاد وسيلة من تلك الوسائل، هو وسيلة عنيفة وقاسية، ولكن ما يدريك، فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان، وربما وجب التخريب ليتم العمران”.
وداع العمامة
أثار كتاب “الإسلام وأصول الحكم” ضجة عارمة، وتكمن أهميته في الأسئلة التي طرحها، والتي لا تزال مفتوحة. خرج الكاتب من عائلة صعيدية عريقة في المنيا، وجمع بين الدراسة في الأزهر الشريف والدراسة في الجامعة المصرية، ثم التحق بجامعة أكسفورد لدراسة الاقتصاد بعد تخرجه من الأزهر وحصوله على شهادة “العالمية”، غير أنه اضطر للعودة إلى مصر بعد ثلاث سنوات بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، وعُيّن قاضياً شرعياً، واستمرّ في هذا العمل حتى صدور كتابه الذي صنع شهرته. تجاوز قاضي الشرع في كتابه هذا، الحدود التي تفرضها التقاليد الموروثة، ورأى أن الخلافة تحولت ملكاً لأنها “لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت، إلا في النادر، قوة مادية مسلحة”، وأضاف في ما يشبه الدعوة الى الثورة: “من الطبيعي في أولئك المسلمين الذين يدينون بالحرية رأياً، ويسلكون مذاهبها عملاً، ويأنفون الخضوع إلا لله رب العالمين، ويناجون ربّهم بذلك الاعتقاد في كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل، في خمسة أوقاتهم للصلاة، من الطبيعي في أولئك الأباة الأحرار أن يأنفوا الخضوع لرجل منهم أو من غيرهم ذلك الخضوع الذي يطالب به الملوك رعيتهم، إلا خضوعاً للقوة، ونزولاً على حكم السيف القاهر”.
في 12 آب 1925، اجتمعت هيئة كبار العلماء، وكان عدد أعضائها أربعة وعشرين عالماً، وأصدرت كتابا تأديبياً يأمر بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرتها، وذلك بعد أربعة أشهر من صدور “الإسلام وأصول الحكم”. اتهم هذا البيان الكاتب بـ”جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا”، كما دان زعمه أن مهمة النبي “كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ”. توالت الردود على أطروحة علي عبد الرازق منذ صدور الكتاب إلى زمننا. كتب الشيخ محمد الخضر حسين “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم” وأهداه الى خزانة الملك فؤاد. وقامت مجموعة من الشيوخ بتأليف رد دفاعي حاد، منهم الشيخ رشيد رضا والشيخ بخيت. في المقابل، أصدر مفتي المالكية بالديار التونسية السيد محمد الطاهر بن عاشور كتيّباً ساجل فيه الشيخ عبد الرازق في كلّ باب من فصول الكتاب، وجاء هذا الكتيّب تحت عنوان “نقد علميّ لكتاب الإسلام وأصول الحكم”.
خرج السجال من حلقة رجال الدين، وكان لأهل السياسة رأيهم في هذه القضية. دان الزعيم الكبير سعد زغلول الكتاب بشدّة وقال: “لقد قرأت كثيرا للمستشرقين ولسواهم، فما وجدت ممن طعن منهم في الإسلام بحدة كهذه الحدة في التعبير على نحو ما كتب الشيخ علي عبد الرازق. لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدّعي أن الإسلام ليس مدنياً، ولا هو بنظام يصلح للحكم؟ فأية ناحية مدنية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام؟ هل البيع أو الإجارة أو الهبة أو أي نوع آخر من المعاملات؟ ألم يدرس شيئاً من هذا في الأزهر؟ أو لم يقرأ أن أمماً كثيرة حكمت بقواعد الإسلام عهوداً طويلة كانت أنضر العصور، وأن أمماً لا تزال تحكم بهذه القواعد وهي آمنة مطمئنة، فكيف لا يكون الإسلام مدنياً ودين حكم؟”. في المقابل، اتخذ حزب “الأحرار الدستوريون” موقفاً شجاعاً في الدفاع عن صاحب الكتاب الملعون، وتمثل هذا الموقف في رفض وزير العدل عبد العزيز فهمي توقيع قرار فصل الشيخ علي عبد الرازق من وظيفته، وقوله في هذا الشأن: “أحضرت هذا الكتاب وقرأته مرة أخرى، فلم أجد فيه أدنى فكرة يؤاخذ عليها مؤلفه. ثقل على ذمتي أن أنفّذ هذا الحكم الذي هو ذاته باطل لصدوره من هيئة غير مختصة بالقضاء، وفي جريمة الخطأ في الرأي من عالم مسلم يشيد بالإسلام. وكل ما في الأمر أن من يتهمونه يتأولون في أقواله ويولّدون منها تهماً ما أنزل الله بها من سلطان”. تمسّك الوزير بموقفه، مما تسبّب بإقالته من منصبه، واستقال احتجاجا على هذا القرار التعسفي ثلاثة من الوزراء، وتمّ فصل الشيخ علي عبد الرازق بعدها. حديثاً، استعاد رفعت السعيد هذه الواقعة في كتابه “الزعامات السياسية المصرية”، وكتب معلّقاً: “نتأمل الأسماء والمواقف وندهش. فكأنّ مصر كانت مجبرة على المفاضلة بين من يتمسكون بحرية الوطن ويهدرون حرية المواطن، أو من يهدرون حرية الوطن ويتمسكون بحرية الرأي والفكر والتعبير ليس للشعب وإنما للخاصة”.
أُخرج الشيخ علي عبد الرازق من “زمرة العلماء”، وجُرّد من عمامته، فسافر إلى أوروبا، وكتب من باريس في 21 تشرين الأول 1926 مقالة في “وداع العمامة” نشرتها مجلة “السياسة” التي كان يصدرها “الأحرار الدستوريون”، وفيها ردّ الشيخ المخلوع على منتقديه وقال: “ليس يزهدني في العمامة أن يتغير الذوق في الناس فيروا جمالها قبحاً وتشويهاً، ولا أنها كانت الرأس فاستحالت ذنباً، وكانت كمالاً فاستحالت عيباً، وكانت جلالاً فأمست هوناً”، “لكن يزهدني في العمامة ما هو شر من كل ذلك، وشر من كل شر. يا لقومي حملوا العمائم ولم يكونوا لها أهلا، فأضاعوا كرامتها لأنهم ليست لهم كرامة، وأضاعوا حرمتها لأنهم ليست لهم حرمة، ضيّعوها وكانوا مفسدين. لم يضيّع العمامة قوم يستبدلون بها غيرها، وإنّما ضيّعتها تلك الرؤوس تحملها وليس لها موضع، فتنزلها منازل الضعة، وتهوي بها إلى مطارح الهوان. ألا فخذوا بحق العمائم من تلك الرؤوس إن كنتم فاعلين، وعندها فالتمسوا الثأر يا حماة العمائم”.
الحركة الثانية
بعد ربع قرن، عاد علي عبد الرازق إلى مشيخة الأزهر، ودخل من جديد “زمرة العلماء”، ثم عُيّن وزيراً للأوقاف، كما شغل عضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ ومجمع اللغة العربية، وبدا أنه خرج من المعركة التي أشعلها منتصراً. في دراسة نُشرت عام 1946 كتبها طه حسين بالفرنسية، وفيها تناول “الاتجاهات الدينية” التي ظهرت في الأدبيات المصرية في الثلاثينات، استعاد عميد الأدب العربي معركة “الإسلام وأصول الحكم”، ورأى فيها تتويجاً للحركة التي صنعها في البدء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وبفضلها استعاد الفكر الإسلامي “شيئاً من تلك الحرية التي تمتع بها كاملة في القرون الخمسة الأولى للهجرة”. بعد هذه “الحركة الأولى”، جاءت “الحركة الثانية” في العشرينات اثر انبعاث الحركة الوطنية في عام 1918، وتمثلت بإنجازات عدة في المجال الاجتماعي كما في الحقل الأدبي. استقلّ المجتمع، واستقلّ الفكر، وتمثّل هذا الاستقلال بصدور كتاب علي عبد الرازق عن الخلافة. يذكر طه حسين أنّ هذا الكتاب أثار السلطات العامة وشيوخ الأزهر، وأن مؤلّفه فُصل من وظيفته كقاض شرعي، وبعد مرور عشرين سنة، “لم يعد أحد يعتقد أن الخلافة نظام ديني، حتى بين الذين أدانوا علي عبد الرازق من قبل”.
النهار