صادق جلال العظم مُكرَّماً في “الأميركية”: اشتباكات جيليّة وحدَثية/ رشا الأطرش
كأن صادق جلال العظم بيننا. حتى بعد وفاته، ما زال المفكر السوري يثير جدلاً، يستفز مناقضيه في السياسة، ويحفز ناقديه، ومريديه في التنظير. ولعلّ المؤتمر الذي نظمته الجامعة الأميركية في بيروت، تحت عنوان “تكريم صادق جلال العظم، أفكاره وإرثه”، بدأ فعلياً في جلسته الأخيرة، حيث كانت المرحلة الأخيرة من حياة العظم، بداية نقاش كان الأكثر سخونة خلال يوم التكريم الطويل.
في هذه الجلسة، كان الباحث والصحافي ربيع بركات، صوتاً ممثلاً لكثيرين مثله في الأوساط السياسية والنخبوية اللبنانية والسورية، بل وربما لجيل من المثقفين الشباب الذين يُعمِلون أدواتهم المعرفية “الحديثة” لإثبات صحّة مواقف تعود جذورها إلى نصف قرن على الأقل، إنما “بنعومة” تنظيرية تسعى إلى “تنفيس” موقف العظم المؤيد بجرأة ووضوح للثورة السورية، بالاستعانة بتفاصيل قلما تفضي إلى شيء سوى الرطانة.
فبركات بدأ من محاولة تعريف الثورة، معتبراً أنها تُعرَّف بنتائجها، مشككاً في نتائج ما يحصل في سوريا: ثورة؟ أم حرب أهلية؟ والتدخل الخارجي، إذا ما تغاضينا عن المصالح، هل هو حتمي في إعانة كل الثورات كما قال العظم (أو يفترض أنه قال) في إحدى مقابلاته؟ اعتبر بركات إن إصرار العظم على أن ما يدور في سوريا ليس حرباً أهلية، هو ضعيف.. لأنه لا تعريف في القانون الدولي للحرب الأهلية، بل هناك فقط مصطلح “نزاع داخلي مسلّح”، مضيفاً أن هناك قتلى في جانب مقاتلي النظام ومدنييه، تماماً كما في جانب المعارضة!
ولو أن بركات قَبِل بواقع أن الطائفة يمكنها أن تكون هوية سياسية ونضالية، لا سيما في بقعتنا من العالم، من دون أن يرعبه المُحرَّم المُحنَّط المتمحور حول رفض كل خطاب من هذا النوع باعتباره، حُكماً، طائفياً وتمييزياً، لكان استطاع قراءة العظم، أو حتى الاشتباك معه، بشكل أعمق وأجدى. وطبعاً، كان لا بد لبركات من التوقف عند ما اعتبره “تشخيصاً هوياتياً” لدى العظم، لا سيما في كلامه عن “العلوية السياسية”، في حين أن “بُنية النظام السوري تأثرت أيضاً بشبكة عشائرية ومحيط عائلي وحزب ايديولوجي”، كما قال (بشيء من السذاجة غير البريئة). وذروة الكلام، كانت عن “توقعات” العظم التي خابت، في شأن سوريا ومصر و”داعش”… والتي اعتبر بركات أن عدم تحققها “يثبت” مشكلة في التشخيص وطرح الحلول لدى العظم، الذي، في رأي بركات، انجرف في “حالة التحشيد والتعبئة”. وأكثر من ذلك، فإن تدني الحس النقدي ساهم في وصول الأزمة السورية إلى ما وصلت إليه، بحسب بركات.
بشار حيدر يبدّد الدخان..
وهنا، جاءت مداخلة أستاذ الفلسفة في “الأميركية”، بشار حيدر، الذي كُلَّف بدور المناقش في الجلسة، لتُجلي الكثير من دخان التفلسف، بسهولة ووضوح، معدّداً النقاط التالية:
أولاً، لو أن عدد القتلى بين الجانبين (النظام والمعارضة السورية) متساوٍ، لاختلف الموقف الأخلاقي، لكن بحثاً سريعاً في “غوغل” يظهر عدد الضحايا وحجم الدمار في حلب الشرقية، وخان شيخون، وغيرهما، في مقابل دمشق أو حتى حلب الغربية الخاضعة لسيطرة النظام.
ثانياً، ثمة بُعد أهلي للحرب لا أحد ينكره، ومصطلح العلوية السياسية عند العظم هو اعتراف بالجانب الأهلي من الحرب، في حين أن الجانب غير الأهلي هو الدولة التي ما زال لها ممثل رسمي في الأمم المتحدة، وما زالت قادرة على نَيل دعم دول أخرى، وحتى مساعدات المجتمع الدولي لمناطق المعارضة لا تمر إلا عبر النظام. ومع ذلك، فهذا لا يلغي طابع الثورة. فهناك نظام يملك قدرة قتل غير متوافرة عند الطرف الآخر، في حين أنه في لبنان وحربه الأهلية (حيث جرت المقارنة مع المارونية السياسية)، كان هناك تكافؤ في القدرة التدميرية بين الأطراف.
ثالثاً، الهوية الطائفية أيضاً لا تُنفى، وليست كل حرب أهلية خالية من ظالم ومظلوم. في جنوب إفريقيا، كان الانقسام عرقياً، وكان هناك طرف مظلوم، كما أن هناك طائفة مظلومة الآن في سوريا. المارونية السياسية في لبنان، تهيمن، لكنها كما تعترف بنفسها، مجبرة على الاعتراف بالآخرين ضمن تركيبة النظام الطائفي. لكن العلوية السياسية استأثرت بالقسوة والدم والعنف.
رابعاً، ليس كل تدخل خارجي خاطئاً، رغم أنه بالفعل ليس حتمية لكل الثورات. فالتدخل الخارجي في شمال العراق لحماية الأكراد من صدام حسين، كان مطلوباً فعلاً، وجعل منطقتهم، حتى الآن، اكثر استقراراً من سائر البلاد. وما زال الشيعة في جنوب العراق يلومون الأميركيين حتى اليوم لأنهم لم يتدخلوا لنجدتهم من صدّام، لا سيما بعد إيحاءات أميركية أن “ثوروا ونحن معكم”.
خامساً، قال بشار حيدر، وبكل بساطة، إن التنبؤ ليس المهم، بل الموقف الأخلاقي، “يمكنني أن أتنبأ بفوز هيلاري كلينتون ولا أصيب، لكن هذا لا يعني أن تأييدي لها في الانتخابات كان خاطئاً”… كما أن “غياب الحس النقدي” ليس هو ما دمّر حلب واقترف مجزّرة في خان شيخون.
وفي الجلسة نفسها، تحدث نائب مدير واحدة الترجمة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-فرع بيروت، ثائر ديب، عما اعتبره “ثقافوية” في مقدمة طبعة العام 2007 من كتاب العظم “النقد الذاتي بعد الهزيمة”، حيث استشهد العظم بنزار قباني وسعد الله ونوس وأدونيس، محيلاً إلى أنهم كلهم ثقافويون في الفهم الملتبس “للسلطان” ، وكأن الهزيمة كانت مفاجأة لا سيرورة. وانتقد ديب، العظم، مجدداً، على مصطلح “العلوية السياسية”، على اعتبار أنه رأى “الثقافة كهوية تطلق مخالب البشر”. وفي رأي ديب أن العظم لم يفهم ما قاله حسين مروة إن العرب ليسوا جنساً أو نوعاً، رافضاً تحميل مروة مسؤولية الهزيمة لجماعة دون الكل، وأضاف: “يكاد نص الكتاب يتوسل الإقناع وتقديم البديل، لا التحليل الجدي لعلاقات القوة والسلطة، فتوارى الفيلسوف لمصلحة الناقد الاجتماعي”. وهذا ما علّق عليه حيدر بأنه لا يجب إهمال الهوية كعامل مؤثر، وإن لم تكن جوهرية، لكنها تصبح عاملاً فاعلاً في ظرف تاريخي وسياسي، أكان في السِّلم أو الحرب.
الجيل والحدث
ليس جديداً على الجامعة الأميركية في بيروت الاحتفاء برموز الثقافة العربية، إذ كرّمت مؤخراً كلاً من قسطنطين زريق وسعد الله ونوس، وأخيراً صادق العظم.. لكن اللافت في تكريم الأخير، يكمن في ما تعدّى استعراض الأفكار المفتاحية لمشروع العظم، الثقافي والفكري والسياسي. إذ بدت ممتعة متابعة خيطَين حريريين، دقيقَين وقويين، ربطا الكثير من مداخلات الأكاديميين والمثقفين والكتّاب العارفين بشغل العظم، بعُمق ومن قرب: خيط جِيليّ، وخيط حدثيّ هو الذي تمظهر بوضوح في جلسة بركات-ديب-حيدر إذ تطرقت بشكل مباشر إلى الحدث السوري الراهن، إضافة إلى الحدثيّ في ما يتعلق بموقع الفلسفة والنقد وفهم الاستبداد والاستشراق، الآن وهنا، أكثر من الأمس الذي عاشه العظم.
أما في المنحى الجيليّ، فقد عبّرت أكثر من مداخلة عن التماهي والاشتباك، في آن معاً، بين العظم من جهة، وأكثر من جيل قرأه وتأثر بأفكاره وهضمها ثم استعادها نقدياً أو تبنّياً، من جهة ثانية. ولعل الأجيال الممثَّلة في دينامية التماهي/الاشتباك هذه، بعضها من مُجايلي العظم نفسها، لكن الغالبية ممّن يصغرونه سناً، كانوا شباباً صاعدين إبان هزيمة 1967، ووعوا ما سبقها من مدّ تحررّي واستقلالي ويساري وقومي وعروبي، وما تلاها من ثورة إسلامية في إيران وحروب عقائدية وأهلية، بكل إشكاليات وعُقَد المرحلة العربية والإسلامية هذه.
وفي السياق نفسه، بيّنت أكثر من مداخلة فضل العظم على باحثين ومثقفين، إذ مدّهم بالأدوات والجرأة والثقة، من أجل تفكيك أساطير عديدة لأساطين الفلسفة والدِّين، لعل أبرزها “استشراق” إدوارد سعيد و”قدسية” العبادة والإسلام.
سوزان كساب: الفلسفة والنقد
ها هي الأكاديمية إليزابيث سوزان كساب ترى في مراجعة أفكار العظم مناسبة للتساؤل حول الرابط بين الفلسفة والنقد. تقول إن السردية العربية غالباً ما تعتبر هزيمة 67 نقطة بداية للفكر النقدي العربي، وطبعاً يُذكر هنا كتاب “النقد الذاتي بعد الهزيمة”. لكن، في رأي كساب، أن الفكر النقدي العالمثالثي نشأ في مراحل “ما بعد الاستقلال” (وهو تعبير فضّلته على “ما بعد الكولونيالية”). إذ بدأ الأفارقة، والأميركيون الجنوبيون، والعرب وغيرهم، يسألون: رغبتنا واضحة في “فكر ذاتي” بدلاً من أفكار الغرب، لكن ما هي هذه “الذات”؟ “الهوية”؟ يفترض أننا قادرون الآن على إنتاج الفلسفة الخاصة بنا، بأميركا الجنوبية مثلاً، لكن ما هو الأصيل، وما هو التقليد؟ ربما يكون العالم العربي/الإسلامي مختلفاً قليلاً بمعنى أنه تخفّف من هذا الهاجس، بالاتكاء إلى تراثه في هذا المجال، ابن رشد وابن سينا.. لكن ما هي الفلسفة العربية المعاصرة؟ وما هو الاستقلال الفلسفي؟ تؤكد كساب، كما يليق بأستاذة فلسفة، أنها لا تملك أجوبة، لكن الأسئلة في حد ذاتها أفكار، وصادق العظم، بريادته النقدية عربياً، يصلح كمعضلة: هل هو فيلسوف معاصر؟
حازم صاغية والاستبداد دِيناً
أما الصحافي والكاتب حازم صاغية، فآثر، في استحضار علمانية العظم، أن يركز على مصطلح فصل الدين عن الدولة بدلاً من العلمنة، ذلك أنها تتضمن هدف توسيع الحرية والطلب عليها، وهي ليست بالضرورة ضد الدين إنما بمعزل عنه. وذكّر أنه ليس من باب الصدفة أن مفهوم intellectual وُلد بعد فصل الكنيسة عن الدولة في فرنسا العام 1905، والحكم ببراءة درايفوس العام 1906، إذ أن هذا المفهوم تعدى فكرة “المثقف العضوي” إلى آخر يصدّق بأن شعبه قد لا يكون دوماً على حق، أو قوميته، أو دينه، وبالتالي هو مثقف منحاز للحقيقة.
ومن الجو هذا، يذهب صاغية إلى مستوى ثان من فصل الدين عن الدولة، وهو إحلال دين سياسي محله، كما فعلت الفاشية والشيوعية وسواهما، بحيث تهيمن الدولة على الدين ومؤسساته وتتسع فرص الاستبداد، وبدلاً من تعدد المستويات، تُدمج المستويات، وهذه هي التوتاليتارية. وليس مفاجئاً القول إن العالم العربي ينتمي إلى النموذج الثاني الذي يستعير من الدين طرق اشتغاله: القصاص، العقاب، الطرد، الفصل، الترفيع، الزعيم الأوحد، خلق إنسان جديد، التأريخ من الصفر، والأهم هي القضية التي، إن انتصرت، حلّ الخلاص (القومي، الاشتراكي، العرقي…)، بدلاً من أن تكون الحياة مشكلة في ذاتها والبشر يطورون أدواتهم للتعاطي معها، ذلك أن الحياة تصبح الحل والنضال. إضافة إلى استبعاد السياسات الوطنية، إذ لا يُترك للسوري أن يفكر في سوريا، أو للعراقي أن يفكر في العراق.
والحال، بحسب صاغية، أنه كان صعباً القول، في هذه الحالة، أننا نريد تغيير المجتمع بمعزل عن السلطة السياسية في حين أن تدخلات الأخيرة مستفحلة هكذا، إذ يصبح الفكر التغييري من دون تغيير السلطة، كمن يلعب كرة القدم من دون رسم حدود الملعب.. ويقول صاغية إن العظم كان ابن تلك المرحلة، وكان من أقوى وأنشط الأصوات في تناوله ظواهر مجتمعية وهدم الخرافة، إضافة إلى “النقد الذاتي بعد الهزيمة” والدفاع عن حق سلمان رشدي في التعبير والإبداع… ويرى صاغية إن المشكلة ليست في ما قاله العظم، بل في ما لم يقله، أو ما لم يستطع قوله.. وصولاً إلى الثورات العربية الأخيرة، خصوصاً في سوريا، مضيفاً إن العظم كان من قلّة قليلة أيدت الثورة، كما لو أنها تفجّر المكبوت السياسي الذي طال كبته، والذي كان الراحل قد انضمّ إلى “ربيع دمشق” بحثاً عن مخرج له، وهو مكبوت جيل كامل أو أكثر.
ياسين الحاج صالح و”مثقفو القراءة”
المسألة الجيليّة تبيّنت أيضاً في مداخلة الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، في اتصال مباشر عبر “سكايب” من اسطنبول. لكنها هنا نوعان من الجيليّة: تلك التي اختار الحاج صالح الإشارة إليها وهي، بحسب وصفه، “انتماء العظم إلى جيل ما يمكن تسميته مثقفي القراءة. مثقفون يقرأون كتباً بلغات غربية أو مترجمة إلى العربية ويتكوّنون بقراءاتهم هذه، ولدى صادق وكثيرين منهم تأهيلاً أكاديمياً مرموقاً. لكن حياتهم خلت بقدر كبير من المعاناة الاجتماعية والسياسية، خلافاً لمعظم مواطنيهم”. والثانية، هي، على الأرجح، المضمرة في كلام الحاج صالح إذ قارن بين جيله هو، وجيل العظم، وربما بينه كشخص، كمثقف ومناضل ومنظّر للثورة السورية، وبين العظم كمثقف أيضاً لكن الحاج صالح لا يعتبر أنه انخرط كفاية في فِكر هذه الثورة، على الأرض، ميدانياً. وهذا ما رآه العديد ممن حضروا المؤتمر، تجنياً غير مُقنِع على العظم، إذ لا يأخذ في الاعتبار فوارق الزمن بين كتابَتي الرجلين، ولا الظروف السياسية والثقافية المتباينة. وشعر كثيرون إن الحاج صالح لم يكن مضطراً لإجراء المقارنة هذه، إذ وضع نفسه وتجربته (السجنية والميدانية وبالتالي الفكرية التي تستحق المتابعة والاحترام)، ولو من دون الإفصاح بذلك، في مقابل العظم، الذي كان يمكن أن يشتبك معه من ضمن سياقاته.
قال الحاج صالح: “يحدث أن يقرأ المرء نصوصاً لمثقفين من جيل أساتذتنا، فيدهش من أنهم يقولون الأشياء ذاتها التي يقولونها منذ 30 عاماً، بالأسلوب المجرد ذاته، بالعمومية والهرب من التفاصيل ذاتهما، بغياب أي تجارب حية ذاته.. هذا اسمه رفض للتغير وللتاريخ. وهو مسلك سلفي، حتى لو وعى ذاته ضد السلفية وكان معادياً لها”.
وقال: “نحن في العالم ومن العالم، والعالم منا وفينا، ومنهج العظم الذي يعتنق نسقاً تاريخياً للمعقولات، مرتبطاً بأفكار المادية والتقدم، يبقينا في موقع خاص، منفصل عن العالم، بدل أن يدرجنا فيه ويزجنا في صراعاته، وفي عملية صنع المستقبلات المشتركة البديلة. هذا المنهج يبدو مناسباً من أجل التعبئة، لكن التعبئة تفترض مثالاً ناجزاً منتهياً، نهاية للتاريخ أو محطة توقف، نغذ السير نحوها”. وأضاف: “في الثورة السورية أخذ صادق موقفاً شجاعاً، لكنه لم يُنظّر له. انحاز إلى كفاح مواطنيه ووقف بقوة ضد نظام التمييز والطغيان المحلي. رفض حصر الانشغال في الإسلاميين الذي برزوا على واجهة الصراع السوري بقوة، رغم أن مقدمات تفكيره كان يمكن أن تقود إلى هذا الموقع. لم يتح له أثناء الثورة، أوربما لم يشأ، أن يعمل على تطوير أدوات أكثر تركيباً. كان الرجل في الخامسة والسبعين وقت تفجرت الثورة”..
واختتم قائلاً: “ما قد يكون أجدى اليوم هو الاشتباك مع شروط اليوم الواقعية ومتاحه الفكري، وتطوير أدوات تفكير ونقد تستوعب تجاربنا الرهيبة الراهنة، والعمل أيضاً من أجل سياسات مضادة للقتل والتمييز، كما للتدهور العالمي في الحريات والعدالة الاجتماعية والسياسية”.
ساري حنفي و”ما بعد الاستبداد”
وفي الحدثيّ/الجيليّ أيضاً، بدأ أستاذ العلوم الاجتماعية في “الأميركية”، ساري حنفي، بفكرة لافتة، وهي أنه لا يتفق مع ما نقرأه مراراً في الصحف عن “تخلي المثقف عن دوره في توجيه وعقلنة الرأي العام”، بل يؤمن بعقلنة المسار التغييري طويل الأمد. ولذلك، تجرأ حنفي على اشتقاق مصطلح جديد من “ما بعد الكولونيالية”، هو “ما بعد الاستبداد”، بوحي من العظم. فمنهج ما بعد الكولونيالية، الذي أسسه إدوارد سعيد وغاياتري سبيفاك وهومي بابا، أواخر السبعينات، غالباً ما يركَّز على الثنائيات أو المبالغة في دور الامبريالية، في حين أن كاتبَي “الامبراطوية”، هارت ونيغري، تحدثا عن “فكر امبريالي”، لا امبريالية دولة بعينها. ذكر حنفي أن نقده الأساس للعظم كان في موضوع الديموقراطية، لكنه تلمّس كيف أن الراحل وضعها كمطلب أساس في أجندته السياسية أواخر التسعينات. وإذا كان البحث الاجتماعي يُدار امبريقياً أو مقارنتياً أو سيستماتيكياً، فإن المنهج الأخير لطالما كان غائباً عربياً بسبب الاستبداد. إذ، وبفعل الرقابة الذاتية عند الكتّاب والمثقفين، يبقى نقد المجتمع فضفاضاً وغير محدد. أوربما يغرق في التفاصيل النخبوية والأكاديمية إلى حد يفصلها عن الرأي العام، كما هو الحال مثلاً في 25 مؤتمراً وندوة عقدت في الجامعة الأميركية عن الثورات العربية ومواضيع في فلكها، كما قال، والتي لم تستضف إسلامياً سوى مرة واحدة فقط.
خالد الحروب الذي تجرّأ.. بفضل العظم
أما أستاذ التاريخ والعلوم السياسية، خالد الحروب، فلخّص النقاط الأساسية التي نخر بها صادق العظم، نظرية الاستشراق لدى إدوارد سعيد، نخراً. بدءاً من احتباس سعيد في النصوص الأدبية وغير الأدبية، واستخدامه لها كمنظار وحيد لتحليل رؤية الشرق والغرب، مهملاً التاريخ والسياسة والاقتصاد والنفوذ.. مروراً بأن الاستشراق ليس قديماً بِقدَم الإغريق، بل هو تحول تاريخي نتج في مرحلة معينة وقد يزول أو يخفت وهو ليس صيرورة بلا نهاية.. وصولاً إلى الاعتراض الأهم للعظم على الفكرية السعيدية بأن أي ثقافة حتماً لن تفهم ثقافة أخرى لأنها مقيدة بأدواتها وبالتالي لا بد أن يكون فهمها مشوهاً. فقال العظم إن هذه الفكرة، لو كانت صحيحة، ستُبطل العتب السعيدي على الغرب في رؤيته “الاستشراقية” لأنها لا تكون غلطته بل هي النتيجة الحتمية لدى الجميع، معتبراً إن النظرية مغرقة في الخطأ، إذ أن هناك مشتركات إنسانية تتعدى الثقافة.
لكن الحروب لم يلخص مآخذ العظم على سعيد لمجرد العرض، بل قدّم لذلك بأنه لطالما شعر بأن هناك خللاً ما في “استشراق” سعيد، لكنه لم يكن يملك الجرأة على منازلة قامة محتفى بها إلى الحد الذي ناله إدوارد سعيد. غير أن العظم أهداه أدوات العمل، ليس في ما يتعلق بالاستشراق فحسب، بل “كمثقف مشاكس، لم يبق في برجه العاجي”، وكنافذة على إيديولوجيا الاستشراق التي “اخترعناها نحن”، وطبّقنا استشراقاً معكوساً، وما زلنا نقول إننا “مختلفون”، ما يناسب الغرب لا يناسبنا، وبالضبط بسبب “ثقافتنا” التي نحبس أنفسنا فيها ونؤبّد حبسنا. فالحرية ليست لنا، ولا الديموقراطية، أو في أحسن الأحوال، نحن لسنا جاهزين لها، كما أقنعنا أنفسنا مراراً.
والحال، كيفما قلّبنا مجريات يوم تكريم صادق العظم في “الأميركية”، لا بد أن نُصاب بالشعور نفسه: مَن فكَّرَ ما مات.
المدن
اعتذار متأخر من رئيس الجامعة الأمريكية عن «التخلي عنه»: عودة صادق جلال العظم إلى بيروت… وباحثون ناقشوا مشروعه الفكري/ يوسف بزي
في العام 1968 كان صادق جلال العظم أستاذاً في الجامعة الأمريكية ببيروت، حين نشبت أزمة كتابه الشهير «نقد الفكر الديني» وإحالته إلى المحاكمة. صحيح أن بيروت دافعت عنه، عندما ردّت محكمة المطبوعات الدعوى المقامة ضدّ الكتاب وضدّ المؤلّف وضدّ ناشر الكتاب (دار الطليعة)، إلا أن الجامعة الأمريكية نفسها تقاعست في الدفاع عن العظم، ما جعله يغادرها سريعاً.
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، وتعاظم الخطر الأمني عليه، لجأ إلى بيروت وإلى مسكنه بجوار الجامعة الأمريكية، متحركاً ذهاباً وإياباً إلى جامعات هولندا وألمانيا، قبل أن يشعر بأن العاصمة اللبنانية باتت أيضاً غير آمنة، ليستقر في برلين حتى وفاته قبل أشهر.
هكذا، كان ثمة جرح خفي وطعم مرارة في علاقة العظم مع بيروت وجامعتها الأمريكية. فعلى الرغم من أن هذه المدينة وفرت له فضاء الحرية والتعبير، وفيها ومنها نشر أهم كتبه ونتاجه الفكري، إلا أنها امتنعت عن حمايته وحرمته من الشعور بالحصانة والاحتضان.
اعتذار متأخر
صباح يوم الجمعة الماضي (21 نيسان الحالي)، داخل قاعة «الكولدج هول»، وقف رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت، فضلو خوري ليعلن اعتذاره عن «عدم دفاع الجامعة الأمريكية في بيروت عن المفكر صادق جلال العظم في الماضي كعضو في هيئة التدريس فيها، حينما اضطهد بسبب شجاعته الفكرية»، منوهاً بشخص صادق جلال العظم وفكره «المؤثر والشجاع والصادق»، مشيراً إلى مبادئ الجامعة القائمة على «أهمية الحوار والنقاش الحر»، قائلاً: «نريد أن نستضيف نقاشا مفتوحا من دون اللجوء إلى العنف أو التهديد بالعنف، ومن دون التسبب في شعور البعض بالاضطهاد أو القمع. ولكن الأفكار يجب أن يتم اختبارها، إثباتها، اعتمادها أو رفضها، استناداً إلى صلاحيتها. نريد خلق هذا المجال الجريء للطلاب لاستكشاف حدود معرفتهم وحدود شخصياتهم. ونريد لهم أن يتشاركوا ذلك المجال مع زملائهم الذين قد يكونون قد جاؤوا من الجانب الآخر من العالم..».
بدورها، عميدة كلية الآداب والعلوم في الجامعة ناديا الشيخ، أكدت أنّ «الميزة التي يسودها تقريباً هذا الحدث هي شهادة على القيم التي تؤيدها الجامعة الأمريكية في بيروت. في حين أننا لسنا معصومين، فإن التزامات الجامعة الأمريكية في بيروت الراسخة بعمق ستنتصر دائماً».
كان هذا الاعتذار البليغ بحضور نخبة بيروت الثقافية والأكاديمية، التي اجتمعت على امتداد نهار كامل (من التاسعة صباحاً وحتى الثامنة مساء) لإحياء مؤتمر تكريم صادق جلال العظم في أفكاره وإرثه. وكان وجود الإبن، عمرو العظم، منح هذا اللقاء بعداً عاطفياً وحميماً، ليعلن نية مؤسسة صادق جلال العظم، ووفقاً لرغبة الراحل، بالتبرع بمجموعة من الأوراق ومقتطفات الصحف والوثائق الأصلية التي كان لها علاقة في كتابة «نقد الفكر الديني» والقضية المرتبطة بذلك، بالإضافة إلى المحاضرات والأنشطة الثقافية ومراجعات الكتب وكل ما كتب عن هذا الموضوع، لمكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت، وكذلك عن عزمها على إرسال عدد من الكتب والمجلات التي كانت جزءا من مكتبته الخاصة في دمشق إلى مكتبة الجامعة».
هذا المؤتمر التكريمي والرصين، نظمه قسم الفلسفة في الجامعة، بالتعاون مع أقسام العلوم الاجتماعية وعلم الإنسان، الدراسات الإعلامية، مركز الفنون والإنسانيات، مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية. وشارك فيه 23 باحثاً.
تراثه الفلسفي والنقدي
كان من الواضح أن المناسبة أبعد من مجرد «تكريم»، نظراً إلى احتشاد عدد الأوراق والمساهمات الفكرية والنقدية المقدمة للمؤتمر، المكثف في مضمونه وبرنامجه الزمني، والذي تمحور على أربعة جلسات، عدا الجلسة الافتتاحية. الجلسة الأولى كانت بعنوان «تراث صادق جلال العظم الفلسفي» التي أدارها ريمون براسيه، وتحدث فيها ناصيف نصار، مثمّناً اختيار العظم للغة العربية رغم اتقانه للإنكليزية في كتابة أعماله الفلسفية، مع ما يعني ذلك من صعوبات هائلة تواجهها الكتابة الفلسفية بالعربية. ومدح نصار لغة العظم «المطواعة والمرنة والمتدفقة بحيوية». وأشار إلى أن العظم، رغم التنوع الشديد في اهتماماته وأعماله وأبحاثه فقد كان انحيازه صريحاً ودائماً إلى «الحداثة وحركة الحداثة.. وبالتحديد الحداثة الأوروبية. لم يكن انحيازاً أعمى، لأنه اعتقد أن الحضارة الأوروبية الحديثة هي السائدة وبالتالي كل تفكير هو موقف منها».
وينبّه ناصيف إلى أن السمة الأساسية للعظم أنه «مفكر نقدي بامتياز.. إسهامه النقدي عميق وبمراجع نظرية واضحة. وفي إطار الماركسية، اعتمد مفهوماً خاصاً للنقد ووظيفته. ليس نقداً كانطياً ولا ماركسياً ولا هو نقد أدبي، ومفتوح على الاحتمالات، ما يمكن تسميته: النقد المحترف».
أستاذة الفلسفة المرموقة إليزابيت سوزان كساب قدمت ورقة بعنوان «صادق جلال العظم والنقلة النقدية في الفكر العربي المعاصر: هل كانت هذه النقلة فلسفية؟». برأي كساب أن سؤال «ما هي القيمة المضافة التي تستطيع الفلسفة تقديمه إلى الفكر النقدي» يبقى بلا إجابة واضحة. لكنها تقول: «شخصية العظم تناسب السؤال. فهو لديه تكوين فلسفي قوي وكتابات فلسفية. فهل نجد في أدائه رابطاً بين تكوينه الفلسفي وممارسته للفكر النقدي؟ تستطرد قائلة أن السردية السائدة أن لحظة الهزيمة عام 1967 هي لحظة الانعطاف النقدي، لكن برأيها أن هذا الفكر ابتدأ قبل الهزيمة واستمر بعدها. وتشير إلى شبه أو نمط واحد ساد في كل من أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي، في الفكر النقدي «ما بعد الاستقلال» لا «ما بعد الكولونيالية». ففي تاريخية هذا الفكر كانت الفترة الأولى سهلة وواضحة طالما أنها ترفع شعار التحرر أو الاستقلال أو السعي إلى «فكر ذاتي»، لكن بعد الاستقلال وممارسة السيادة اتضح أن هذا المسعى اصطدم بصعوبة المواءمة بين هذه المفاهيم والواقع.
فمثلاً ما هي الهوية؟ ما الأفريقي أو العربي؟ نجد أنفسنا أمام فكرة غير واضحة. ما معنى التحرر من الاستعمار وما معنى «الفكر الذاتي»؟ وتستنتج قائلة: «في هذا المسار يأتي دور الفلسفة والنظرة إلى الفلسفة. كانت المعضلة في أمريكا اللاتينية هي التخلص من النقل والتقليد عن الفلسفة الأوروبية. كيف يمكن الفكاك مما تكتبه باريس؟ أما في أفريقيا فكان التحدي «إثبات المقدرة على التفكير» طالما أن الأفارقة ليس لديهم تراثاً فلسفياً. أما العرب الذين لديهم تراث فلسفي واضح فكانت المشكلة لديهم «أن نفكر اليوم». وعلى هذا كان السؤال: ما معنى فلسفة عربية معاصرة؟ وما معنى الاستقلال الفلسفي؟». باختصار، تشير كساب إلى أن القيمة الفلسفية لا تتعلق بمسعى إنتاج فلسفة ذاتية بل بـ»النضوج الحضاري»، وأن صادق جلال العظم لعب دوراً نقدياً بالغ الأهمية والتقدير، لكنه لم يتورط في «التنظير الفلسفي للنقد».
مواجهة الاستبداد
صالح جعفر آغا، قدم ورقة بحثية بعنوان «العظم حول كانط والزمن» محللاً وقارئاً أول كتاب أصدره صادق العظم عن الفيلسوف الألماني ونظريته في الزمن، وكيف اقترح العظم تطوير وتجاوز مقولات كانط حول علاقتنا بالزمان والمكان، وكيفية حل التناقض الظاهر في تلك المقولات اتصالاً بأرسطو. ويتساءل آغا عن صمت العظم وابتعاده عن كانط فيما بعد، متحدثاً عن أسباب تحولاته كمفكر اتجه باهتماماته نحو تداخل السياسة والمسائل الثقافية.
الجلسة الثانية كانت بعنوان «الجدل حول العلمانية» أدارتها سونيا ميشار- أتاسي. تحدث فيها أولاً الكاتب حازم صاغية عن «العلمانية والاستبداد»، شارحاً المحطات التاريخية لفكرة العلمانية بوصفها تيارين أساسيين، الأول ينطلق من مسعى توسيع نطاق الحرية، «حرية الضمير». والثاني يحاول إحلال «دين مدني» محل الدين بما يعني توسيع سلطة الدولة (ولأهمية هذه الورقة وإشكاليتها الراهنة، ننشر على حدة معظم ما جاء فيها).
جاءت ورقة أستاذ الفلسفة في الجامعة الأمريكية ببيروت، وضاح نصر «حول تساؤل صادق العظم عن إمكانية علمنة الإسلام»، في قراءة أكاديمية دقيقة للنص الديني الإسلامي من جهة ولأفكار العظم في كتابه «نقد الفكر الديني» خصوصاً، متمعناً في مسألة علاقة الإسلام بالدولة والحياة الدنيوية ومجالات التدخل ودور التفكير العقلاني.
تفكيك الاسطورة
وعلى نحو بالغ الحماسة والشجاعة، قرأت أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية نائلة أبي نادر، ورقة بعنوان «في تفكيك الأسطورة عند صادق جلال العظم»، قائلة: «يمكن أن نتلمّس من خلال قراءة ما أنتجه العظم أن النقد هو المسيّر الأساس لفكره، وهو النهج الذي بنى عليه طروحاته. في سياق درسه للفكر الديني، نجده يتجرّأ على مقاربة الأسطورة كظاهرة راسخة تبلورت في مختلف الخطابات الدينية العابقة أصلاً بالرموز. هذا ما كان درسه مفكرون كثر إن في مجال علم اللاهوت وعلم التفسير، أو في الهرمينوطيقا، أو الأنتروبولوجيا الدينية، أو في سياق تفكيك العقل الديني ودراسة كيفية اشتغاله من زاوية نقدية. لكن ما يلفت الانتباه هو أن العظم كان من القلائل الذين تطرقوا الى هذه المسألة بالعربية منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي. من هنا يمكن أن نطرح الأسئلة الآتية:
ما الذي دفع العظم الى مثل هذا النقد؟ لماذا الأسطورة على وجه الخصوص؟
هل إن ما نشره العظم في هذا الخصوص أصاب الهدف وتمّ تلقّيه بموضوعية؟
وهل يمكن أن نعتبر أن ما قام به مقدمة علمية حديثة لتأسيس نهجٍ نقديٍّ للفكر الديني؟
هل من فرصة لمتابعة المسير بعد ما نشهده اليوم من عودة العنف باسم الدين، وتكفير الآخر المختلف، واستباحة حرية الفكر والضمير؟
وبما أن الدين في أحد معانيه، حسب العظم، هو «قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا وتؤثّر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي وتحدّد طرق تفكيرنا وردود فعلنا نحو العالم الذي نعيش فيه وتشكّل جزءاً لا يتجزّأ من سلوكنا وعاداتنا التي نشأنا عليها»، من هنا ضرورة النظر فيه من وجهة نقدية. ما يهمنا هنا يقتصر على ما أشار اليه العظم من أن الدين يحتوي على مجموعة من «القصص والأساطير والروايات» التي تتناول موضوع البدايات والنهايات في ما يخصّ الانسان والكون. لذا نجد العظم سيعمل على نقد هذا المضمون لمعنى الدين.
انطلاقاً من هذه الخلفية، تحلل أبي نادر بجرأة بالغة مقاربة العظم لتراجيديا إبليس في كتابه «نقد الفكر الديني» بالمقارنة مع أصول التراجيديا اليونانية والتراث الاسطوري والأدبي. وتنتهي إلى خلاصة مفادها: «إن نقد العظم للفكر الديني يلتقي مع ما ذكره هو عن أدب سلمان رشدي. إنه يبغي الذهاب الى أبعد، وطرح الأسئلة الأعمق، وإعادة النظر في الكثير من المفاهيم الثابتة، والتفسيرات الجامدة. أراد فعلاً أن يوقظ التساؤل في ذهن الانسان العربي. عمل من خلال إعادة النظر في صورة ابليس على تحرير النص الرمزي من القراءة الأحادية التي تُسقِط معنى محدداً على النص فتحصره فيه. هذا ما اشتغل عليه محمد أركون ونصر حامد أبو زيد أيضاً، كل وفق منهجه النقدي».
أما الكاتب والباحث السعودي نواف القديمي، في ورقته «العظم: بين فهم العلمانية وفهم الإسلامية» فقد انتقد مواقف المفكر الراحل من «الحالة الإسلامية» مبرهناً من خلال حواراته الصحافية ومقالاته كيف أن العظم لم يبذل جهداً حقيقياً في معرفة التنوع الكبير الذي يتسم به الإسلام السياسي المعاصر، كما لم ينتبه إلى الجهود الفكرية المتقدمة التي قامت بها الحركات الإسلامية المختلفة. وكيف أن العظم كأغلبية المثقفين العلمانيين يختزلون الإسلام السياسي إما في تنظيم «التكفير والهجرة» سابقاً أو في «داعش» حالياً.
الاستشراق معكوسا
بعد استراحة غداء قصيرة، جاءت الجلسة الثالثة بعنوان «الإستشراق معكوساً» بإدارة ابرهارد كنليه، تحدث فيها عبر «السكايب» الكاتب والمفكر السوري ياسين الحاج صالح، متناولاً الإشكالية السجالية التي نشبت بين العظم وإدوارد سعيد، في ورقة بعنوان «الاستشراق، الاستشراق المعكوس وسياسة المثقف». وأهم ما جاء فيها: «يحرك نقد صادق جلال العظم لكتاب الاستشراق لإدوارد سعيد حرص على الكونية، على صلاحية عابرة للثقافات لمقولات الفكر المادي والعقلاني الحديث. يخشى صادق أن من شأن نقد الاستشراق أن يُسوغ «الشرق»، الشرق الأبدي الذي لا يتغير ولا يكف عن مماثلة ذاته، وبخاصة نزعات «الاستشراق المعكوس» التي وجدها منتعشة بين قوميين وإسلاميين، ومثقفين حديثي التكوين مثل أدونيس وآخرين. الاستشراق، يقول صادق موافقاً سعيد والعروي، ينزع إلى إضفاء صبغة جوهرية غير تاريخية على الشرق، لكن الاستشراق المعكوس يفعل الشيء ذاته، وإن اختلف الحكم. هذا يُفقِد المثقف أدوات نظرية مهمة يتعقل عبرها واقع مجتمعه المعاصر، تطورت في المجتمعات الأكثر تقدماً، وأكثر من ذلك يحول بينه وبين تطوير السياسات الأنسب لتقدم هذا المجتمع».
يضيف ياسين الحاج صالح: «هناك مشكلة. المصادرة على ولاية كونية لمفاهيم المادية والتاريخ والتفكير العلمي والتقدم تلغي تاريخ المجتمعات غير الغربية، أعني تجارب الإنسان وصراعاته المعاصرة، وليس مورايثه الأقدم فقط. لا ينبغي أن يكون المرء مستشرقاً معكوساً حتى يُقِرّ بذلك. في الوقت نفسه لا يكفي الكلام المرسل على الإبداع على طريقة أدونيس، أو ما يسميه صادق ميتافيزيقا الإبداع، حتى نستطيع تنظيم إدارك واقعنا وصراعاتنا وتوجيه العمل التغييري فيها على نحو مثمر. هناك حاجة إلى ثورة في الأدوات النظرية، في الإنسانيات والاجتماعيات من أجل معرفة أفضل بواقعنا وواقع العالم اليوم. هذه الحاجة عامة. لدينا وفي الغرب.
صادق لم يتناول هذه القضية ولم يخصص له جانباً من تفكيره. غاية ما يمكن أن نجده عنده كلام يحيل على وحدة العالم التي تحققت على يد الامبريالية في القرن التاسع عشر والعشرين. لكن هذه الوحدة صراعية تكوينياً، تكتنفها توترات وعنف وحروب وأحقاد وتمييز، يتعذر أن لا تترك آثاراً متنوعة على عالم المقولات والمعقولات والأفكار. يحصل أن يقول إننا أخذنا من الغرب مدركات الجمهورية والاستفتاء وكرة القدم وعقدة أوديب ومحو الأمية والتعليم الإلزامي والخطة الخمسية والنساء والارتقاء… إلخ. لكن هذا لأن تفكيره كان يترك في حقل لا يقابل هذا الأخذ من الغرب غير دعوة الأصالة والاستشراق المعكوس، وتغيب عنه بالمقابل الحاجة إلى نقد عالم اليوم وتغييره ومشاركتنا فيهما من مواقع تحررية لا يرضيها حال العالم اليوم وحالنا في العالم اليوم.
نحن في العالم ومن العالم والعالم منا وفينا، ومنهج صادق الذي يعتنق نسقاً تاريخياً للمعقولات مرتبطاً بأفكار المادية والتقدم يبقينا في موقع خاص، منفصل عن العالم، بدل أن يدرجنا فيه ويزجنا في صراعاته، وفي عملية صنع المستقبلات المشتركة البديلة. هذا المنهج يبدو مناسبا من أجل التعبئة، لكن التعبئة تفترض مثالاً ناجزاً منتهياً، نهاية للتاريخ أو محطة توقف، نغذ السير نحوها. هذه المحطة غير موجودة، والمنهج يحرمنا من العالم ومن التاريخ. هذا بالمناسبة ليس الحال في الغرب ذاته، لم يتوقف التاريخ هناك عن أفكار التنوير وحداثة القرن التاسع عشر. التراجع خطوة إلى الوراء نحو أسس الفكر والمجتمع والدولة الحديثة، الليبرالية والديمقراطية والفردانية والعقلانية، ليس حلاً. فكما أن الانهيار العملي للشيوعية يحكم على من يثابرون على مقولاتها النظرية بأن يكرروا التجربة نفسها، أي يلغوا تاريخهم الذاتي وتاريخ بلدانهم، فإن الأمر ذاته صحيح بخصوص المثابرة على ما اعتبرها صادق مقولات الفكر والاجتماع الحديث. بدل التراجع، وإن يكن تكتيكياً، يلزم التقدم نحو تفكير جديد يدمج تجربة الانهيار السياسي للشيوعية التي اعتنق صادق أسسها النظرية، وأكثر منها الانفتاح على أشكال السيطرة والاستغلال والتضليل، والصراع، الجديدة. وفي مثل أوضاعنا اليوم، تفكير يستوعب تجارب السوريين الرهيبة: الاعتقال والتعذيب والقتل والحصار والتجويع والتهجير، واللجوء، والموت العنيف، والعنف الديني والهيئات الشرعية والتغييب القسري…، والثورة والحرب، والطائفية والعنصرية، مما يتعذر الكلام على ثقافة وسياسة في سورية ومحيط أوسع دون تناولها والتفكير المتعمق فيها». ويختم: «انحاز صادق إلى نضال السوريين من دون نظرية. هذا وضع مفتوح على اتجاهين. فإما أن نتخلى عن الانحياز إلى الثورة لنصون المعقولات القديمة، أو نرفد الانحياز إلى الثورة بثورة في النظرية وأدوات التفكير. الثورة والحرب محفزان على التفجر الثقافي والفكري، والبعد العالمي للثورة السورية محفز على التفكير في شؤون العالم. لا التوقف في موقع بعينه ينفع، ولا التراجع المؤقت. السير إلى الإمام وحده ما يمكن أن يكون سياسة لمثقف جديد».
مابعد الكولونيالية والاستبداد
أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة الأمريكية، الباحث ساري حنفي، كانت لديه ورقة متقنة بعنوان «تحولات اتجاه ما بعد الكولونيالية في العالم العربي: نحو مقاربة ما بعد الاستبدادية»، فيبدأ بالقول مثنياً «على شريحة هامة من مثقفي اليسار (أكاديميين وكتّاب وصحافيين) الذين لعبوا، وما يزالون، دوراً محورياً في توجيه الرأي العام العربي في صيرورة مابعد الانتفاضات العربية وعقلنة المسار التغييري طويل الأمد الناتج عنها. طبعا جغرافيا يختلف الوضع من دولة لأخرى: فهوامش التفكير المتاحة تاريخيا ًفي بلدان مثل تونس والمغرب ولبنان اتاحت هذه المرافقة أكثر من دول أخرى. إذاً، أنا ضد النوح على حائط المبكى وجلد الذات بأن هذه الانتفاضات كانت بدون مثقفين ثوريين مرافقين لها. وأنا أيضاً ضد التعميم المفرط والسوداوي عن وضع المثقفين الذي نجده في الأدبيات والاعلام خاصة في السنوات الخمسة الأخيرة. أنا مع تحليل دقيق يعتمد على تصنيف المثقفين الى فئات: منهم من استطاع أن يلعب أدواراً نقدية هامة، وآخرون فشلوا كليا أو جزئيا في هذه المهمة». وينتقد حنفي شريحة كبيرة من اليسار العربي الذي اختزل قراءة الواقع العربي باستخدام المقاربة بعد الكولونيالية، مضيفاً: «.. ولن أتجرأ أن أعرّف اليسار فيما إذا كان موجودا حسيا أم رمزيا وتاريخيا».
تتركز مساهمة حنفي على «فهم الآليات المعرفية والابستمولوجية المستخدمة من قبل شريحة واسعة من اليسار العربي والعالمي»، مقترحاً «إضافة مقاربة أخرى سأسميها المقاربة بعد-الاستبدادية. وبتكامل هاتين المقاربتين يمكن أن يكون هناك أمل في خلق أرضية مشتركة بين المثقفين العرب يسارا ويمينا ومتدينين للعمل سويا لدفع القضايا الملحة العربية في الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية». الورقة غنية في سردها الكاشف لآليات التفكير الثقافي العربي وتحولاته ومسؤوليات المثقفين العرب في أحوال الاستبداد.
الباحث خالد حروب، سرد بالتفصيل وناقش معظم حيثيات السجال الفكري الذي صاحب «الجدل حول الإستشراق بين صادق وسعيد»، بدقة وأمانة، طارحاً الأرضية المشتركة والخلاصات النقدية لهذا السجال. وهو أيضاً ما فعله أيضاً الباحث السوري عدي الزعبي بورقته «دفاعاً عن القيم المشتركة: قراءة في الإستشراق والاستشراق المعكوس»، متكئاً أيضاً على أفكار نعوم تشومسكي.
النقد الذاتي بعد الهزيمة
الجلسة الرابعة الختامية التي أدارها أستاذ التاريخ عبد الرحيم أبو حسين، كانت منتظرة بفضول من معظم الحاضرين، كون المساهميْن فيها هما الباحث اللبناني ربيع بركات والباحث السوري ثائر ديب، كما أن هذه الجلسة كانت مفتوحة على النقاش بإدارة أستاذ الفلسفة بشار حيدر.
يمكن القول أن ربيع بركات في ورقته «الأزمة السورية: التناقض بين الفرضيات والاستنتاجات» يحاول فيها إثبات فشل العظم، ومعه المثقفين الذين انحازوا للثورة، في المواءمة بين توقعاتهم وبين المآل الذي انتهت إليه الثورة. بالطبع بدت الورقة مكتوبة بـ»دم بارد» طالما أن الباحث لم يشأ أصلاً وصف ما حدث بـ»الثورة» وتكلم عن أنها ربما حرب أهلية لأن الخسائر البشرية برأيه متساوية بين الطرفين. فلم يقل «الحرب السورية» ولا «المأساة السورية» أو «النكبة السورية» أو «الكارثة» بل فضّل كلمة «أزمة». وعليه يمكننا أن نستشف الموقف الأخلاقي (أو اللاأخلاقي) للباحث في ورقته الفقيرة التي تعيب على صادق العظم ربما أنه لم يكن «عرّافاً» جيداً. وقد رد عليه بشار حيدر بما معناه أن توقعنا لتحرير فلسطين وإن فشل فهذا لا يلغي صوابية الموقف الأخلاقي من حق الفلسطينيين بتحرير وطنهم! أما الطامة الكبرى في ورقة بركات فإنه إذ يعيب على العظم مقولة ضرورة التدخل الخارجي للنجاح في إسقاط النظام، ويسكت تماماً عن طلب النظام نفسه للتدخل الخارجي.
المفاجأة كانت في ورقة ثائر ديب، فقد أتت على غير المتوقع من تاريخ مواقفه وآرائه ومقالاته تجاه صادق العظم. كانت ورقته «النقد الثقافوي للسياسة والمجتمع: النقد الذاتي بعد الهزيمة نموذجاً» غاية في الذكاء والتوازن. تناول ما أسماه «خصلةً سائدة في الفكر والثقافة السوريين عموماً، لا سيما النوع الناقد والمعارض منهما، تتمثّل في إقامتهما النقد والمعارضة على أساس ثقافويّ يردّ الظواهر إلى تقاليد وصفات ثقافية معينة ويركزها إليها». ويتخذ من كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، وهو كتاب يعود إلى النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، نموذجاً لهذه الخصلة أو الظاهرة: «أنّ هذه الخاصية في حال من الاستمرار والدوام في آخر نتاجات العظم، لم يقو عليها ما تمتّع به الراحل من حسّ نقدي رفيع ومن إعلاء لشأن النقد الطليق في إنتاج المعرفة». بدا نقد ديب لـ»النقد الثقافوي» قريب على نحو مباغت من أفكار ياسين الحاج صالح وبعيد إلى حد التناقض مع أفكار أدونيس مثلاً. كانت هذه الورقة «مفاجأة ثقافية» إذا جاز التعبير.
على كل حال، مع هذا المؤتمر، وقبله كان تكريم سعدالله ونوس وقسطنطين زريق، إضافة إلى مؤتمرات أدبية وفلسفية والكثير من البرامج الثقافية التي تقوم بها الجامعة الأمريكية، وخصوصاً كليات وأقسام العلوم الإنسانية فيها، بما يتجاوز تأثيرها أسوارها الأكاديمية، تبدو هذه الجامعة اليوم وقد عاد إليها صادق جلال العظم، عادت لتلعب دورها التاريخي في بيروت والمنطقة.
القدس العربي