صالون لضبّاط المخابرات
محمد أبي سمرا
لوحة لتوفيق طارق. في إطلالاتي الأولى عليه، فتنني مشهد البحر في بيروت وأخافني ذلك الخوف الغامض والبعيد، وأنا أقترب من شاطئ الرملة البيضاء، يدي في يد خالتي أمال التي من يدها تذوقتُ أول كوب من “الشوكولا شو” اشترته لي من مقهى سيّار في سيارة فان واقفة قرب الرصيف البحري. كان الوقت نهاراً،لكن مشاهد رصيف بحر بيروت في ذاكرة الطفل الذي كنته، ليلية كلها، صفراء ومترجرجة، كأنها صور على شاشة بعيدة مغبّشة. مشاة قلائل يتحركون في الغبش الضوئي الأصفر المائل الى البرتقالي، ويبتعدون كظلال تتلاشى قرب صف الفانات البرتقالية والصفراء.
فجأة، بعد رشفتين او ثلاث من الشوكولا الساخنة، اندفع القيء من فمي وأخذني الدوار، فوقع الكوب البلاستيكي من يدي مع اندفاع موجة ثانية من القيء الى بلعومي. رمت خالتي كوب القهوة الصغير من يدها الى البحر، وقرّبتني من السياج الحديد، وقالت لي أن أتنشق الهواء عميقاً. حتى اليوم لا ازال اشعر بأنني أتنشق ذلك الهواء البحري الرطب، كلما وصلت الى شاطئ الرملة البيضاء، مخموراً بعد سهراتي البيروتية حتى ساعات متأخرة من الليل، فتندفع من ذاكرتي صور ومشاهد من طفولتي وصباي وفتوّتي في حمص، المدينة الداخلية القاسية في بردها الصقيعي القارس في فصول الشتاء، ويعاودني ذلك الخوف الطفلي الغامض من البحر، برغم إلفتي بيروت وبحرها الذي أعشقه بمزيج من اللوعة المراهقة والمحرّمة المستمدة من عشقي خالتي أمال. كلما اقتربت من شاطئ الرملة البيضاء تدهمني، فجأةً. رائحة قيء، أزيلها من أنفي بإشعال سيجارة أعبّ عميقاً دخانها الساخن وأنفثه، محاولاً أن أستبعد من ذاكرتي صورة متكررة لذلك الخبر القديم الذي سمعته كثيراً في طفولتي: امرأة شقراء شوهدت تخرج من السفارة العراقية في بيروت، حاملةً بيدها “كروزاً” من التبغ، قبل لحظات من انفجار مبنى السفارة. المرأة الشقراء هذه هي جدتي لأمي، على ما سمعت خالاتي، بناتها، يتراوين في جلساتهن الخاصة المستريبة، في بيتنا في حمص، وفي بيوت أمّهن في بيروت، أثناء سجنها سنوات في وزارة الدفاع اللبنانية. لا أعلم لماذا يتهيأ لي أن خالي حسام وخالتي هند تطوّعا في سلك الدفاع المدني بعد دخول امهما السجن، كأنما تكفيراً عن شعورهما الدفين بالذنب حيال ما يعتقدان مع إخوتهما وأخواتهما جميعا، أن أمّهن فعلته بمشاركتها في تفجير السفارة العراقية. ففي الحكايات القاسية والمروعة التي سمعتها منهما عن مشاركتهما في عملية إسعاف الجرحى ونقل جثث القتلى أثناء حرب بيروت النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين، كنت أتخيلهما ينقلان جرحى تفجير السفارة وجثث قتلاه الممزقة والمبعثرة قطعها قرب ركام المبنى. كأنهما بحمية صوفية اندفعا الى عملهما هذا، ممتلئين بالكراهية العائلية لأمهما التي، ما إن خرجت من السجن مع عودة الجيش السوري الى بيروت في العام 1987، حتى استأنفت صلاتها وعلاقاتها بضباط المخابرات السورية الذين راحوا يتوافدون يومياً الى البيوت التي صادروها أو احتلوها وأسكنوها فيها.
بعد رحلتي الطويلة الشاقة من حمص الى بيروت طفولتي، وذهابي مع خالتي أمال الى البحر، وعودتنا مساء الى بيت جدّي في شارع الحمراء، كانوا كثيرين في الصالون: جدّتي وأمي وإثنان من اخوالي وخالتاي هند وهيفاء، ورجلان لم أرهما من قبل. حتى اليوم يحضرني أحيانا في لحظات مفاجئة متباعدة ولسبب أجهله، وجه أحدهما بلونه القصديري على ضوء الشموع الكثيرة الموزعة في الصالون عندما دخلت اليه خلف خالتي أمال. كانت الكهرباء مقطوعة في البناية والحي وفي معظم الشوارع التي مررنا فيها راكبين سيارة سرفيس. فصور بيروت الليلية في ذكريات طفولتي وصباي، شحيحة الإنارة وشبحية، والبشر فيها يعيشون تحت سماء واطئة غير مرئية، كأنهم في هوة كبيرة يملأها هدير المولدات. فيما كنا، أنا وخالتي أمال، نصعد درج البناية المظلم لنصل الى بيت جدّتي في الطبقة السادسة، كنت أشعر بأنني أنزل عميقاً في الهوة، فعبقت رائحة دخان التبغ في أنفي وعاودني الغثيان.
شو، عاملين محشي؟! قالت أمال. على شرفك يا ستّ الكل، جاوبها الرجل ذو الوجه القصديري البشع في ضوء الشموع. التفتت الى أمها القاعدة منفردةً وفي ثيابها الرياضية على كنبة، وسألتها: مبيّن عندك وجوه جديدي الليلي، مدام منيرة؟! كنت ولا أزال أعشق نبرة صوت خالتي أمال التهكمية تلك التي تشعّ مثل الثلج في الضوء مع أسنانها في ذاكرتي. برضو على شرفك يا ستّنا، قالت جدتي في لؤمها المطمئن المعتاد، فقام الرجل الغريب الآخر من مكانه على المقعد، وفي حركة استعراضية متباطئة وضع بين شفتيه سيجارة وأشعلها مقترباً من أمال، ومقدّماً إليها السيجارة قائلاً: أعصابك ست أمال، أعصابك، روقي. مين هيدا؟! منّين بيعرف إسمي؟! جاوبت أمال من دون أن تنظر إليه واستمرت في التفاتتها الى أمها التي قالت إنه العقيد فراس، مردِّدةً اسمه ورتبته مرتين أو ثلاثاً.
أنا الواقف قرب خالتي أمال، رحت أحدّق في العقيد في ثيابه المدنية ووجهه الأشقر مثل شعره، وهو يتراجع نحو المقعد، نافثاً الدخان من فمه وفتحتي أنفه في الضوء الشحيح قبل أن يجلس في مكانه. فجأة أنارت المصابيح الكهربائية الصالون، فعلا الصراخ والصفير والتصفيق في نواحي الشارع، ورفع العقيد يديه الى أعلى، فقالت أمال: شو عقيد بالمصارعة أو بالملاكمة؟ فيما كان قميصه الزهري يتلامع في الاضاءة الباهرة، ويظهر طرف مسدسه على خصره، قبل أن يتحسسه بيده قائلاً بلهجة سورية بالغ في مطّ حروفها: عقيد باب السباع من حمص لبيروت، ستّ أمال، باب السباع. في هذه اللحظة، وفيما تلاشى شيئاً فشيئاً هدير المولدات الكهربائية، ركضت أمي نحوي وعانقتني وراحت تقبّلني مردِّدةً: العمى بعيوني، كيف ما شفتك، العمى بعيوني! فيما سمعتُ خالتي أمال تدعو الله متمنيةً أن يعمي عيونها كي لا ترى أحداً بعد اليوم في هذا الصالون. وحين توقفت أمي عن عناقي وتقبيلي، التفتُّ لأرى أمال، فيما هي تسرع في الدخول الى ممر جانبي يفضي الى الغرف الداخلية. كنت أرغب أن أتبعها، لكن أمي ظلت ممسكة يديّ، لتجلسني الى جانبها على المقعد. ما إن جلسنا حتى انقطع التيار الكهربائي مجدداً. كانت الشموع لا تزال مشتعلة، فراحت ترسل أضواءها الشبحية في أرجاء الصالون، وعلت صيحات الاستياء متطاولةً متباعدة في الشارع.
في ليلة أخرى من لياليَّ تلك في بيروت، ربما بعد ثلاثة اشهر أو خمسة، كنت جالساً بينهن على شرفة الصالون: جدّتي وأمي وخالاتي، وأمال متهيئة للخروج في فستان السهرة الذي لا يزال ملمس قماشه النيئ يلهب يديّ ووجهي وروحي، كبرد الثلج على الجبل في نهار صيفي. وحدي في العتمة الليلية الخفيفة على الشرفة، تخيلت أني أبصر بريق ما ينحسر عنه ذلك الفستان الاسود من فخذي أمال في الكولون الذي يشفّ سواده الرقيق عن بشرة ينبعث منها نور قمري أشربه بعينيَّ من عنقها وكتفيها العاريتين، فيما هي تتنقل بين الصالون والشرفة. تسألها جدّتي في صوتها اللئيم: شو، بأيّ بار بدّك تسهري الليلة، ومع أي لبناني عكروت؟! مش سامعا القصف نازل ع الاشرفية وعَ جبل لبنان؟! مبسوطة بكلابك تبع اللي عم يقصفوا، ما هيك؟ تصرخ خالتي أمال، وتدخل مسرعة الى الصالون. فجأةً وسط شتائمهن المتبادلة مع أمهن تصدح من آلة التسجيل في الصالون أغنية: رح نبقى هون – مهما العالم قالوا – ما منترك عون وما منرضى بدالو. تهبّ جدتي واقفة عن كرسيها بينهن على الشرفة، صارخة: وين نايكن عون، وين، يا شراميط؟! مش أحسن من كلاب مخابراتك اللي فاتحتيلهن كرخاني ببيتك يا مدام منيرة؟! تصرخ خالتي هند وتسبق أمها في الدخول الى الصالون، قافزةً الى كنبة، فتنزع عن الجدار فوقها صورة مؤطرة مزججة لحافظ الاسد، ثم تقذفها الى الارض، صارخة: خنازير، خنازير، فانبعث عن ارتطام الصورة وتناثر شظايا زجاجها دويّ أسكتهن جميعاً عن الصراخ والشتائم، بينما ظلت الاغنية تصدح من آلة التسجيل عقب الدويّ، فهجمت جدّتي على المسجلة، ورفعتها عالياً عن الطاولة في زاوية الصالون، ثم قذفتها أرضاً، فتلت هنيهة الصمت الخاطفة صرخات متتالية أقرب الى عويل أطلقته جدّتي مع شعشة نور المصابيح الكهربائية، فجأةً، في ارجاء الصالون، فإذا بدم ينذف من قدميها ويلطخ البلاط. قبل أن تولول هلعة بأن ينقلوها الى المستشفى، دوّى انفجار قذيفة بعيد. في البهو الصغير خلف الباب ربطت أمي وأمال ساقيها بمنديلين، وحملتاها الى المصعد، فبقيت مع خالتي الصغرى هيفاء وحدنا في البيت.
بعدما كنست هيفاء شظايا الزجاج من أرض الصالون، ومسحت بقع دم أمها عن البلاط بصورة حافظ الاسد، ثم رمتها، مع الشظايا، في سلة المهملات، جلبت من غرفة النوم آلة تسجيل وشغّلتها، فصدحت لجورج وسّوف تلك الاغنية التي تخالط، كإيقاع خلفي، ذكريات طفولتي في بيروت وبيت جدتي. كنت أتخيل خالتي أمال ترقص على إيقاع هذه الأغنية التي يقول مطلعها “الهوا سلطان، الهوا سلطان”، ومنها استمد وسّوف لقبه “سلطان الطرب”. أتخيّل أمال مراهقتي ترقص في مرابع بيروت الليلية، كما رأيتها ترقص مرةً أمام المرآة في غرفتها، قبل خروجها الى إحدى سهراتها تلك، بعد شجارها وتشاتمها مع جدّتي.
حتى الآن أحاول أن أفهم طبيعة علاقة جدّتي ببناتها وشجاراتها العنيفة والمتصلة معهن حتى اليوم. بلغت هذه الشجارات ذروتها في الحقبة الاخيرة من حروب لبنان أواخر ثمانينات القرن العشرين، في الجولة الطويلة التي سُميت “حرب التحرير” ما بين الجيش السوري والجيش اللبناني بقيادة ميشال عون. خالاتي وأخوالي ولدوا جميعاً وتربّوا في بيروت، وذاكرتهم وقيمهم بيروتية، ونشأوا وشبّوا على كراهية بيروتية حائرة وملتبسة ومكتومة لسوريا الاسد وجيشها ومخابراتها. وهي كراهية هاجعة وملجومة وتتغذّى من نفور بيروتي إسلامي وعروبي متوارث من الدولة اللبنانية وجيشها، ومن عداء مستجدّ لميليشات “القوات اللبنانية” المسيحية في زمن الحرب. وتخالط الكراهية والعداء هذين مشاعر تضامن وولاء إسلامية وعروبية موروثة حيال الفلسطينيين وميليشياتهم المسلحة، للاحتماء والاستقواء بها ضد الميليشيات المسيحية في معمعة الحروب المتناسلة. لكن غزو الجيش الاسرائيلي لبنان صيف 1982، واقتلاعه المسلحين الفلسطينيين من بيروت، ترك أهلها نهباً لشعور بالعراء واليتم والخوف طوال عهد الرئيس أمين الجميل (1982 – 1988)، فيما احتربت الميليشيات الشيعية والدرزية الأسدية الإمرة والولاء، للسيطرة على “مدينتهم” بيروت.
في معمعة هذه المشاعر والنعرات شبّ أخوالي وخالاتي وعاشت جدّتي في كنف بيئة بيروتية شعبية وتقليدية منكفئة، وصدّع محافظتَها تذررٌ وقلق واضطراب وتفلّت من العلاقات والقيم الاجتماعية والأسرية في زمن الحرب. لكن هذه المعمعة لا تشكل أكثر من إطار لطبيعة الحرب العائلية بين جدّتي وبناتها اللواتي نفرن من ولاء أمّهن لسوريا الأسد وضباط مخابراتها الذين أقامت معهم علاقات مريبة يختلط الأمني فيها بغوايات الجنس، وحوّلت صالون بيتها ملفى لهم أو مرتعاً، يستعرضون فيه بناتها، طامحين الى اتخاذهن محظيات أو عشيقات، فامتزج الأمن والجنس والإثم في دبيب الحرب الأسرية في بيتٍ معظم نزلائه فتيات تجمعهن ولادتهن من أم واحدة ورجال غائبين. وقد يكون “تلبنن” خالاتي الذي أتاحته ولادتهن ونشأتهن في بيروت، عاملاً أساسياً في دبيب هذه الحرب الأسرية الداخلية، على إيقاع حرب أهلية خارجية عامة في لبنان.
دائماً أحدس أن جمال خالتي أمال، وعشقي إياها ذلك العشق المراهق والملتهب، مصدرهما العميق والبعيد هو ما تحمل عليه الإقامة والعيش في بيروت من خفة وتحرر وانطلاق. وهذه صنيعة نمط حياة لبنانية، تتيح للأشخاص بهذه الدرجة أو تلك، أن يمتلكوا أمزجة وأهواء يمكنهم مباشرتها واختبارها على مسارح الحياة الاجتماعية. من بين خالاتي، أمال هي التي امتلكت أكثر من أخواتها مثل هذين المزاج والهوى وباشرت اختبارهما في حياتها وعلاقاتها، وضدّ أمها التي استقوت بشبكة علاقاتها الآثمة مع ضباط المخابرات، مستفيدةً مما يتيحه الاجتماع اللبناني من حرية وفوضوية حربية متمادية شاركت سوريا الأسد في صناعتها وتأجيجها. هذا يعني أن جدّتي “تلبننت” أيضاً، لكن على مثال ما استباحت سوريا الأسد لبنان وجعلته مسرحاً لتسلطها وآثامها، التي نفرت منها أمال وأخواتها نفورهن من أمّهن. لكن نفور أمال هذا ينطوي على تمرد هو صنيعة جمالها جمالاً حراً، سافراً ومنطلقاً وغير خائف من سفوره، تُداخله طاقة وإرادة شخصيتان على التمرد.
النهار