صبحي حديدي باحثًا في “شِعريّات التعاقد العسير”/ عمر شبانة
رغم أن النقد لا يحتمل الانحياز، مع أو ضد، إلا أن انحياز صبحي حديدي في كتاباته يبدو مقبولا، بل مرغوبًا فيه، ما دام انحيازًا للجمال والحرية والحبّ، وهذا ما يبدو في مجمل كتاباته، وهو لا يخفي ذلك أبدًا، بل لعلّه صارم في هذا الانحياز، فإذا تناول تجربة شاعر/ مبدع ما، فإنه يغوص في هذه التجربة حتى نهايات الشغف والحب، وإلى درجة تجعل القارئ يتساءل ما إذا كانت هذه التجربة تخلو من العثرات والهفوات؟ هنا قراءة في أحدث ما صدر له.
“التعاقد العسير” و”ألق التجريب وأرق القراءة” هما العنوانان الرئيس والفرعي لكتاب الناقد صبحي حديدي، الصادر أخيراً عن “دار الأهلية للنشر والتوزيع” في عمّان، وبحسب هذين العنوانين، يسعى المؤلف، كما جاء في تمهيده لكتابه، إلى “مقاربة المشهد الشعريّ العربي الجديد من زاوية مركزية: ما ينظّم ألقَ التجريب الذي يشدّ الشاعر إلى خياراته الشكلية والجمالية، وأرَقَ القراءة الذي يستحوذ على القارئ ضمن طبائع الاستقبال”، حيث العلاقة بين الشاعر وبين القارئ تقوم على نوع من التعاقد، يُعتقد أن لكلا الطرفين حضوره في إنتاج “الشعريّات” ذات الحساسية الجديدة، لذلك فإن “التعاقد عسير” بين الطرفين.
الكتاب الذي صدر ضمن نصف دزينة من مؤلفات حديدي وترجماته الصادرة حديثًا هو مجموع دراسات منفردة ومتباعدة زمنيًا، تسعى إلى إقامة حوار الناقد مع القارئ، بعد أن يكون هذا القارئ عاش تجربة الحوار مع الشاعر/ المبدع، وهو حوار لا بد له أن ينتج قراءات جديدة وكثيرة للنصّ الإبداعي، على الأقل نوعين من القراءة؛ الأولى هي قراءة الناقد، وهي قراءة تذوقيّة- تحليليّة، والثانية قراءة/ قراءات القرّاء التي قد تبلغ بعدد ما ينفد من نسخ الكتاب، وهي تذوقيّة- تذوقية.
في هذا الكتاب، كما في كتاب آخر صدر متزامنًا معه، وهو “زوال لا يزول.. قراءة في شعرّيات باقية”، نحن حيال تجارب وعناوين لا يجمعها الكثير من “المشترك”. ولو أخذنا الفصل الأول أنموذجًا، لوجدنا في المقدمات، أربع دراسات بعناوين متفرّقة، هي: “تأمّلات في الشعرية العربية المعاصرة”، “الموضوع الغنائي وقصيدة النثر العربية”، “قصيدة المرأة في الخليج العربي: الموضوعات، الأشكال، والمؤثرات”، و”حداثة الشعر المغربي المعاصر: جدل شجرة النسب”.
تعايش بين الأشكال
ابتداءً، وبلا دخول في التفاصيل، وفي ما يتعلق بالمشهد الشعريّ العربيّ الراهن، فإن حديدي يرى أن هذا المشهد “في حالة اصطراع خفيّ نشط للغاية. لكنه بالغ الهدوء والعمق، وذلك يجعل شروط بقائه، مثل ديناميّات تنامي تياراته المختلفة وتعايشها، على درجة رفيعة من الإغناء التعبيريّ والجدل التعايشي، دون وئام كاذب، وبالكثير من التلاقح الموضوعيّ للأساليب والأشكال تارة، والتأقلم الذاتي النابع من حاجات الحياة الجمالية طورًا”.
وسواء تعلق الأمر بالدراسات التي تتناول الظواهر واالقضايا الشعرية، أم ارتبط بقراءة تجارب فردية لشعراء، فإننا حيال قراءات معمّقة، بأبعاد شموليّة. وهو ما يمكن إبرازه في بعض الأمثلة. ففي “تأمّلات في الشعرية العربية المعاصرة”، يعرض نماذج من فهم “الإيقاع الموسيقيّ”، تأخذ هذا الإيقاع إلى ما هو أبعد/ أكبر بكثير من أيّ نظام وزنيّ في الشعر، من خلال نموذج موزون لدرويش، ونموذج نثريّ لأنسي الحاجّ، ليرى أن المتلقّي يجد نفسه أمام ذائقتين، موزونة ونثرية، وإيقاعين متقابلين لكن من دون أن يعني هذا التقابل مواجهة بينهما، فهو “تقابل صحيّ للغاية”، رغم أن كلّ إيقاع ينتمي إلى نظام مختلف عن نظام الآخر.
هذا على مستوى الإيقاعات وتعايشها.. وعلى هذا النحو يصحّ الأمر في مستويات أخرى، كما يتضح من “تأمّلاته” في حقل “الشعريّة العربية المعاصرة”. فعلى هذا النحو يتناول الفرق بين الشعر العربي في مطالع القرن العشرين، مع الشاعر إسماعيل صبري وقوله “أين من يفتح الكتاب ويقرا”، وبين الشعر في نهايات القرن نفسه، مع نوري الجرّاح وقوله “… سنطلب الشعر ولو في التيبت”، مقارنا بين الحالين، حال الخروج من سُبات امتدّ قرونًا، وحال سُبات نقيض عاشها التجديد، ليرى هوّة بين “انحطاط أكثر مما ينبغي، وتجديد أكثر مما يحتمل الواقع”، وهوّة بين الشاعر والقارئ. وعند هذه النقطة يمتزج البحث الجماليّ/ الشعريّ بالفكريّ امتزاجًا حميدًا.
الشاعرة الخليجية المتحررة
وتحت العنوان “قصيدة المرأة في الخليج العربي: الموضوعات، الأشكال، والمؤثرات”، يناقش الناقد حديدي عددًا من التجارب الشعرية الراهنة، ليتبين إن كانت تتقاطع أو تتباين في الخصائص الأسلوبية لكلّ من الشاعرات اللاتي يتناول تجاربهنّ، فيؤكد، أوّلًا، أن الشعر في منطقة الخليج العربي ينفرد عن سواه في بقية البلدان العربية، بوجود عدد هائل من الشاعرات ممّن حقّقن درجات من التقدم والتجديد إلخ. وهي تجارب يصفها بأنها بدأت “ثوريّة”، بسبب انتقالها سريعًا إلى التحديث والأشكال الحداثية، دون المرور بمراحل انتقالية، فهي إذن تجارب “انعتاقية”. وأبرز هذه التجارب تتمثل في الشاعرات: حمدة خميس، ميسون صقر التي يخصّها الناقد بقراءة خاصة، وثريا العريض، سعديّة مفرّح، ظبية خميس، فوزية السندي، فوزية أبو خالد، أشجان الهندي، وزكية مال الله. وهو يعرض لهذه التجارب ضمن عناوين فرعية تتعلق باللغة والمكان والجسد والأشكال والمؤثرات.
العلاقة بين الأجيال
يقف الناقد على “حداثة الشعر المغربي المعاصر: جدل شجرة النسب”. وبعد عرض ببليوغرافيا تبين صدور 564 مجموعة شعرية بين العامين 1936 و2000، يعلن أن تطورًا “كميًّا” ملموسًا على هذا الشعر بدأ في الستينيات ثم تضاعف منذ السبعينيات وصولا إلى التسعينيات.. وكانت الستينيات شهدت تجارب الشعراء أحمد المجاطي والخمار الكنوني والطبال والسرغيني..إلخ. ففي قصيدة التفعيلة، برز الهم الوطني العام والهاجس الوجودي الفردي، كما برزت تأثيرات شعر المشرق العربي، ثم كانت القطيعة والنقلة الحداثية في السبعينيات مع محمد بنيس واخريّف والأشعري، وجاءت الإضافات التي تمّت في شعر الثمانينيات مع الشعراء حسن نجمي وصلاح بوسريف والوزّاني وفاء العمراني وغيرهم، وأخيرًا وقفة أمام خلافات الأجيال والتأثير والتأثّر، ما أنتج الخلاف على “شجرة النسب”، وقتل الأب الشعري، وعدم اعتراف الأجيال الجديدة بتأثير أسلافها.
قراءات وتجارب منفردة
يعرض الفصل الثاني، قراءات في عدد من التجارب الشعرية العربية؛ ثماني عشرة تجربة، بدءًا من تجربة الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب “معنى الكون كلّه”، وصولًا إلى تجربة الشاعر الأردني أمجد ناصر “هاجس الشكل وشعرية الارتقاء”، وما بينهما تجارب لشعراء “مكرّسين” لو جاز التخصيص، سواء في قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، مثل: حسن عبد الله، ميسون صقر، سليم بركات، عباس بيضون، نوري الجرّاح، كاظم جهاد، قاسم حداد، سيف الرحبي، وليد خازندار، عناية جابر، لينا الطيبي. وعلى أهمية التحليل والقراءة التطبيقية لهذه التجارب، فإن المقدّمات النظرية لا تقلّ أهمية عنها، خصوصًا لما نلحظه من عملية “جدل” و”حوار” بين النظري والتطبيقي في هذه القراءات، فهذه تنبع من تلك، والعكس صحيح. وأتناول بفقرات بعض من “قرأهم” الناقد.
يبدأ الفصل الثاني بتقديم جانب من تجربة الشاعر زهير أبو شايب يتمثل في مجموعته الشعرية “سيرة العشب” (2011)، التي تتصدر غلافَها عبارة النفري “وقال لي أنت معنى الكون كلّه”، فيرى في صوته “الصوتَ الذي يُفرد لنفسه مساحةً غير محتلّة من قبل في أرشيف ذاكرتنا القريبة بالذات”، خصوصًا لجهة طغيان النبرة الفلسفيّة التي تشكل العلامة الفارقة في تجربة أبو شايب، إذ “يندر أن نجد في الشعر العربيّ المعاصر هذا الإغراق الشامل في مشهدية ميتافيزيقية- نفسانيّة قائمة على موقف الشاعر من الوجود، وعلى تصالح أو تأزّم علاقته بعناصر محددة في شبكات ذلك الوجود: الجسد، الظلّ، الطبيعة، الكون..إلخ”.
تجربتان
أما الدراسة الأطول في هذا الكتاب، والمخصّصة لسليم بركات “فتنة المعجم وإسار الدلالة”، فبعد التعريف بالبيئة الطبيعية والثقافية التي نشأ فيها بركات، يطوف حديدي في تجربة بركات الشعرية، منذ بدايته حتى ما يسميه “الشكل المفتوح” في هذه التجربة، هذا الشكل الذي “كان من أبرز الاستراتيجيّات الأسلوبيّة التي استقرّ عليها سليم بركات…”. ويختم حديدي عن شعر بركات بأنه “ضخّ حياة جديدة في المشهد الشعريّ العربيّ المعاصر..”.
وبالوصول إلى المقال الأخير في الكتاب “أمجد ناصر..”، يعلن الناقد بوضوح “لديّ في العمق العديد من الأسباب التي جعلتني أنحاز، بحماس صريح إلى شعر ناصر”، وهو انحياز يمكن تفهّمه، نظرًا لأنّ الناقد هنا لا يكتب إلا عمّا “يعجبه”، إذ نادرًا ما نجده يضع أية “مآخذ” على من يكتب عنهم. وبخصوص تجربة الشاعر أمجد ناصر فـ”هي بين الأبرز والأكثر نضجًا وانفتاحًا وتجدّدًا في الجيل الشعريّ العريض والتعدّديّ والغنيّ الذي صعد، منذ السبعينات، وحمل هاجس العبور الشائك من النثر الشعريّ، كما أطلقه وأشاعه ثمّ خلّفه جيلُ الماغوط وأنسي الحاج و..إلخ”، وصولًا إلى ناصر نفسه.
ويعدّد حديدي أبرز سمات قصيدة ناصر، منذ بدايته مع “التفعيلة” في ديوانه “مديح لمقهى آخر” ثم انتقاله إلى قصيدة النثر، وما تميّزت به هذه القصيدة من “أنفاس” بدوية ورعوية، مرورًا بالإيروتيكي في هذه التجربة، ثم وصولًا إلى الهامشيّ واليوميّ والدراميّ فيها.. ومحاولات “الانتقال بشكل قصيدة النثر العربية المعاصرة إلى مصاف أخرى أشدّ رقيًّا وأكثر مشقّة وتعقيدًا في تقديري، وأعلى قدرة على تخليص الشكل من سُكونيّته وجموده، بُغية بناء تعاقُد صحيّ مع قارئ لا يضلّ طريقه إلى الشعر الحقيقيّ”.
* إضافة إلى هذا الكتاب، صدر للناقد كتاب “زوال لا يزول: قراءة في شعريّات باقية”، وعدد من الكتب المترجمة هي: روايتان للياباني ياسوناري كاواباتا هما “ضجيج الجبل” و”أستاذ ال غو”، ورواية كين كيسي “طيران فوق عش الوقواق”، وكتاب المستشرق البريطاني مونتغمري وات “الفكر السياسي الإسلامي”.. وكلّها من منشورات دار الأهلية، عمّان
عنوان الكتاب: التعاقد العسير” و”ألق التجريب وأرق القراءة المؤلف: صبحي حديدي
ضفة ثالثة