غرناطة- محمّد محمّد الخطّابي: إحدى عشرة رسالة مخطوطة تنشر لأوّل مرّة لغابرييل غارسيا ماركيز ضمن كتاب صدر مؤخرا في إسبانيا وأمريكا اللاتينية عن ‘دار النشر مطبوعات ب ‘(يوجد مقرّها في كلّ من مدريد وبرشلونة ولها فروع في مختلف بلدان أمريكا الجنوبية) للكاتب الكولومبي’ بلينيو أبولييّو ميندوسا تحت عنوان ‘غابو..رسائل وذكريات’.
يقول ماركيز في إحدى هذه الرسائل الموجّهة لصديقه أبوليو ميندوسا: ( إذا كان الكاتب يفعل ما يحلو له حقيقة، وهو مقتنع بأنّ ما يكتبه هو ‘قصّة جيّدة’ عندئذ لا يمكن أن يعنيه أيّ شيء، ولا يمكن أن يثنيه أيّ شيء، وينبغي له أن يجلس و’أن يكتب’ حتى وإن كانت صوفيّا لورين في إنتظاره).
لابدّ أنّ كثيرين منّا قرأوا السّيرة الذاتية لماركيز، إلاّ انّ هؤلاء الذين يعرفون ‘غابو’ (الإسم الذي يناديه به أصدقاؤه المقرّبون، تصغير غابرييل) هم قليلون جدّا، وواحد من هؤلاء المحظوظين هو ‘بلينيو أبوليّو ميندوسا’ صاحب الكتاب الذي نحن بصدده ‘غابو..رسائل وذكريات’ الذي يلقى الضوء على جوانب هامّة وحميمية وحقيقية غير معروفة لصاحب ‘نوبل’ الكولومبي الذي سيبلغ في شهر آذار/مارس القادم 86 سنة .
تخوّفات وتوجّسات
يضمّ هذا الكتاب بين دفّتيه (بالإضافة إلى موادّه الإعتيادية من ذكرات ومعايشات) 11 رسالة مخطوطة كان قد وجّههاغارسيا ماركيز إلى صديقه ميندوسا في تواريخ متفاوتة لم يسبق نشرها من قبل، ويرى الباحثون والمتخصّصون في إبداعات الكاتب الكولومبي أنّ هذه الرسائل تعتبر وثائق بالغة الأهمية في إلقاء المزيد من الأضواء على الظروف والملابسات التي صاحبت هذه الكاتب في مشواره الإبداعي الطويل، حيث يعبّر ماركيز في هذه الرسائل عن شكوكه، وتخوّفاته، وتوجّساته، وآماله’وعن الصعوبات التي اعترضت سبيله عندما كان يكتب بعض أعماله الروائية الكبرى وبشكل خاص روايتيه الشهيرتين ‘مائة سنة من العزلة’ أو ‘خريف البطريرك’. واشار أخو ماركيز’خايمي’ أنّ هذه الصفحات تعتبر وسائل ناجعة تسهم في شحذ ذاكرة ماركيز التي بدأت تعاني من مشاكل على هذا الصعيد (أنظر مقالي حول هذا الموضوع بعنوان’غابرييل غارسيا ماركيز: هل فقد ذاكرته..؟’، ( القدس العربي) عدد7153 بتاريخ14 يونية (حزيران) 2012 ) .
عندما كتب الصحافي إدغار أرتوندواغا مقالاً بعنوان ‘هل انطفأت ذاكرة غابو؟’، حيث التقى بلينيو أبوليو ميندوسا (صاحب الكتاب الجديد عن غابو)، وهو كذلك صاحب كتاب’رائحة الجوّافة’، الذي يستحضر فيه ذكريات الشباب، والأدب، رفقة صديقه ماركيز نفسه. خلال اللقاء يعرب ميندوسا، عن إنشغاله وقلقه حيال ذاكرة صديقه الذي أبدع ‘مائة سنة من العزلة’ حيث يشير أنه منذ خمس سنوات لم يتحدّث إليه. كان رودريغو، أحد أنجال غابو يقول لي: ‘إنّه يريد رؤيتك، لأنّه لا يمكنه التعرّف عليك من خلال الصوت فقط’.
ويشير ‘بلينيّيوأبولييّو ميندوسا’: ‘آخرمرّة تحدّثنا فيها، لم يكن غابو يتذكّرالعديد من الأشياء إلاّ بالكاد، كان يسأل، ويعيد السؤال تلو السؤال من جديد ‘ متى وصلت؟ أين تعيش في الوقت الراهن؟’، ثم ذهبنا لتناول الغذاء معا،وجنحت بنا الذاكرة لنسترجع اللحظات والمعايشات التي كنّا قد تقاسمناها قبل أكثر 40 سنة، عندما لم تكن الذاكرة قد وهنت بعد، وكان يمكنه أن يتذكّر جيّدا. ولكنّني أشعرالآن بحزن عميق، وبقلق متزايد من الوضع الذي آل إليه أعزّ أصدقائي اليوم’.
فرجة الأحلام
‘ميندوسا’ في هذا الكتاب الجديد يضع صورة واضحة المعالم لصديقه ‘غابو’ أمام ملايين القرّاء المعجبين به وبكتاباته وإبداعاته، حيث يتحرّر ماركيز من ‘أسطورته الشخصية’ ويغدوشخصا عاديا ما زال في أوّل الطريق يشقّ و يتوق إلى الشهرة والمجد. يرسم الكاتب لصديقه غابو طريقا منذ خطواته وبداياته وانطلاقاته الأولى وهو يسعى ليصبح صحافيا ناجحا إلى أن حصل على ‘جائزة نوبل في الآداب عام1982.
نتعرّف كذلك في هذه الرسائل على الإنزعاج الذي تسبّبه له الشهرة الواسعة في كلّ مكان حلّ به خاصّة بعد نشره ‘ مائة سنة من العزلة’ هذه الشهادات وسواها من معايشات ماركيز تأتي من صديق حميم للكاتب الذي يعرفه منذ شرخ الشباب وريعانه حيث كان يقرأ ويطّلع على معظم مخطوطات رواياته قبل نشرها وقبل أن تحقّق النجاح الواسع الذي أدركته، مثلما كان يفعل ذات الشيء مع صديقه الآخر وبلديّه ‘ألبارو موتيس’. (أنظر مقالي في ‘القدس العربي’ بعنوان’ ماكرول الغابييرو: كاتدرائة ترسب في أعماق المحيطات’عدد7341 بتاريخ25 كانون الثاني/2013).
يقدّم ميندوسا في هذا الكتاب صورة إنسانية عن غابرييل غارسيا ماركيزالذي تعرّف عليه عام 1940 في إحدى مقاهي بوغوتا وكان غابو في العشرين من عمره، إلاّ أنه في باريس سوف تزداد صداقتهما متانة وعمقا خلال الخمسينيات من القرن المنصرم متسكّعين ومتنقلين من مقهى إلى أخرى، ومن حانة إلى أخرى في الحيّ اللاتيني في عاصمة النور.
في بعض هذه الرسائل نتعرّف على الإحساس الغريب الذي شعر به ماركيز وهو يلامس ندف الثلج لأوّل مرّة في حياته بعد ثلاثة أيام من وصوله إلى باريس عندما دعاه صديقه ميندوسا (صاحب الكتاب) للعشاء معه في أحد مطاعم حيّ ‘سان ميشيل’ الذي كان مغطّى بالثلج الناصع البياض فندّت عن وجهه إبتسامة عريضة بعد أن شعر بإنتشاء وسعادة لا حدود لهما عندما رأى ما أسماه بـ: ‘فرجة الأحلام’.
ويشير ميندوسا أنّ ماركيز مرّ في هذه الفترة من حياته بظروف صعبة وعصيبة جدّا، خاصة عندما تمّ إيقافه كمراسل’لجريدة ‘ألإسبيكتادور’ الكولومبية في باريس، حيث عرف الجوع ، وعانى من قلّة ذات اليد وهو منهمك في كتابة ‘الكولونيل ليس لديه من يكاتبه’ ومع ذلك كان يرفض إستلام المال من أصدقائه ومعارفه، ويضيف ميندوسا:’ أنّه عندما كانت جميع بلدان أمريكا اللاتينية في ذلك الإبّان واقعة تحت حكم أنظمة دكتاتورية قرّر الصديقان (ماركيز وميندوسا) السفر إلى الإتحاد السّوفيتي (سابقا) ذلك لأنّ ‘الإشتراكية’في ذلك الوقت كان حلما’، إلا أنّ الذي رأياه في رحلة قادتهما كذلك إلى ‘ألمانيا الشرقية’ و’تشيكوسلوفاكيا’ و’بولونيا’ جعلهما يشعران بخيبة أمل كبيرة ،حيث كانت هذه الرحلات الصحافية الطويلة مصدر إحراج كبير لهما، بعد أن صدمهما العالم الشيوعي’. ويضيف ميندوسا: ‘كدنا أن نفقد الأمل والإيمان معا ولكن عندما نشبت الثورة الكوبية إستقبل العالم الشيوعي وأمريكا اللاتينية هذا الحدث التاريخي وكأنّه شئ جديد’. وقد أشرف وأدار ميندوسا في باريس في تلك الأزمنة مجلة ‘الحرّة’ التي كانت محفزا لطّفرة ‘ألبّوم’ السّردي في أمريكا اللاتينية.
مائة سنة من العزلة: قصيدة مطوّلة
طفق يطرأ نوع من البرود على صداقة الرجلين عام 1971 عندما زجّ بالسّجن بالشاعر الكوبي ‘إيبيرتو بادييّا’ إلاّ أنّ هذا الخلاف لم يفض إلى التباعد الكلّي بينهما، ويرجع سبب ذلك إلى رسالة إحتجاج ضد إعتقال الشاعر الكوبي المذكور وقّع عليها العديد من كتّاب أمريكا اللاتينية وسواهم ،وقد أضاف ميندوسا إسم ماركيز إلى هذه القائمة وسلّمها لوكالة الأنباء الكوبية للصّحافة اللاتينية في باريس التي نشرتها دون إستشارته لأنه لم يتمكّن من الإتّصال به، و لم يكن ماركيز في نيّته إدراج توقيعه في هذا الإحتجاج، ومنذ ذلك الأوان سعى فيديل كاسترو للتعرّف على غابرييل غارسيا ماركيز، وما زالا صديقين إلى يومنا هذا، ويعتقد أبوليّو ميندوسا أنّ ماركيز لا يتعاطف في العمق مع الشيوعية، وكلّ ما كان قائما وما يزال بينه وبين كاسترو إنما هي صداقة شخصية عميقة تعود لسنين طويلة ،حيث توسّط لديه في عدّة مناسبات لإطلاق سراح بعض الكتّاب الكوبيين من سجونه، كان آخرهم ‘راؤول ريفيرو’ وبعض النّاشطين النقابييّن وسواهم .
كتاب’ رسائل وذكريات’ يسجّل في العديد من صفحاته ذكريات ومعايشات الرجلين في مختلف مناطق العالم ومزاولتهما لمهنة المتاعب (الصحافة) في كلّ من كاراكاس، وبوغوتا، وفى لاهافانا في كوبا في الوقت الذي كانا يتقاسمان في الوقت ذاته حبّ الأدب وشغف الكتابة والإبداع.
ويشير ميندوسا أنّ ماركيز كان يشكو له القلق الذي كان يساوره، والإنشغالات والتخوّفات التي كانت تستبدّ به، حول ما كان يقوله أصدقاؤه عن روايته ‘ مائة سنة من العزلة ‘، وكان يخشى أن يكون هذا العمل كارثة أدبية أو ربما كان عكس ذلك عملا ناجحا وجديدا، وكان ماركيز يصف هذا العمل الإبداعي بأنه ‘قصيدة مطوّلة عن الحياة اليومية’.
الشهرة: زائر غير مرغوب فيه
وبعد أن أتته الشهرة منقادة، وأدرك أرقى سلّم المجد الأدبي على إثر حصوله على نوبل ،يشير ميندوسا، فإنّ ماركيز كان يعتبر هذه الشهرة بمثابة ‘زائر غير مرغوب فيه’. كما يتذكّرأبولييّو ميندوسا أن أصدقاء الكاتب الكولومبي كانوا يتمنّون ألاّ تتغيّر معاملات’ماركيز لهم خاصة بعد حصوله على هذا التكريم الادبي الكبير.
هذا الكتاب كانت له طبعة سابقة عام 2002 إلاّ انه لم يكن يتضمّن الإحدى عشرة رسالة المخطوطة التي أدرجت ونشرت في هذه الطبعة الأخيرة، فضلا عن تضمّنه للعديد من الصّور الشخصية والحميمية لغابو الذي يبدو في واحدة من هذه الصّور مع الكاتب البيروفي ماريو برغاس يوسا، وخوسّيه دونوسو وزوجتيهما في مدينة برشلونة.ويشير ميندوسا أنّ اللحظة التي تبدو في هذه الصورة لن تتكرّر لأنه يعتقد أنّ الوقت الآن قد فات لنسج صداقة جديدة بين الكاتبين بعد القطيعة التي نشبت بينهما، كما أنّ الصّداقة التي كانت تجمعهما فيما مضى من الزّمن الغابر لم يكن لها أن تستمرّ وأن تثمر نظرا لتباعد وإختلاف المواقف السياسية بين ماركيز ويوسا.
و للكاتب بلينيو أبوليّيو ميندوسا كذلك كتاب آخر تحت عنوان ‘لديّ الكثير ممّا أحكيه’ يقول في الغلاف الأخير من هذا الكتاب: ‘أنّ الإنسان عندما يهرم يكتشف أن وراءه ليس حياة واحدة فقط بل حيوات كثيرة، إنه يرى وراءه فقرات، أو فصولا من روايات لم تكتب بعد، يرى لحظات، ووجوها، وأصواتا، كلّ ذلك تعمل الذاكرة على إضفاء هالة من النور عليه بذلك الضوء المتّقد اللمّاع الذي لا يظهر سوى عند وقت الشفق’. في هذا الكتاب لا نلتقي مع غارسيا ماركيز وحسب ،بل مع العديد من السياسيين، والفنّانين،’والكتّاب الآخرين في ‘بوغوتا’ زمان عندما كانت هذه المدينة معقلا للثقافة الرفيعة،ومنبرا للفكر والشعر والإبداع والإشعاع، نلتقي مع أسماء معروفة وأخرى ومغمورة مثل: نيرودا، ماريو بارغاس يوسا، فرناندو بوطيرو، ألفونسو لوبيس ميتشيلسن، خوسيه دونوسو وسواهم.
ولد أبولييّو منيدوسا في مدينة تونخا الكولومبية في كولومبيا عام 1932 ودرس العلوم السياسية في جامعة السوربون بباريس، عمل دبلوماسيا في فرنسا، فاز عام 1979بجائزة ‘بلاسا إخانيس’ عن روايته ‘الفرار’، له العديد من الكتب والروايات الأخرى، وله كتاب آخرخاص عن غابرييل غارسيا ماركيز بعنوان (رائحة الجوّافة) نشرعام 1982 وهي نفس السنة التي حصل فيها ماركيز على أعلى وأرقى تكريم أدبي في العالم.
