صراخ جيل سوري
روجيه عوطة
تأهبوا على خشبة مسرح. حمل كل واحد منهم آلته الموسيقى. طارق خلقي رفع الغيتار الكهربائي، داني شُكري جلس وراء الدرامز، خالد عمران أعلى غيتار الباص. هؤلاء هم أعضاء فرقة “طنجرة ضغط”، التي عزفت أمس الخميس في مسرح “دوار الشمس” ضمن فعاليات ملتقى “منمنمات: شهر لسوريا”.
لم يرحبوا بالحاضرين على الطريقة التقليدية، بل بدأوا بالعزف والغناء مباشرةً، قافزين من المقدمة إلى صلب الحفلة. وهذه القفزة ليست غريبة على فن الروك، الذي لا يتلزم بحدود موسيقية، أو يلزم سامعيه بحركة جسدية معينة كي يتفاعلوا معه. على العكس، نشأ هذا الفن بغاية التحرر من الوزن الواحد والإيقاع الهادئ، واستبدالهما بالتنوع الإيقاعي واختلاف الأوزان. أما النص المغنى فصاخب، دلالاته قوية، ويثير إشكاليات عديدة، تتمحور في غالبيتها حول حرية الفرد داخل المجتمع، وحول سُبل تفلته من كل القيود والمعايير الكابتة.
في هذا السياق، تغني فرقة “طنجرة ضغط” ضد أشكال وأفعال المنع التي تسحق الفرد، وهي، في الواقع، كثيرة جداً في غالبية المجتمعات، لا سيما في سوريا، التي جاءت الفرقة منها. فالموسيقى التي عزفتها الأخيرة خرجت من جروح غائرة في الزمن السوري. لكنها، جروح مخفية، مكتومة، كان من المستحيل أن يتمكن المرء من التعبير عنها مباشرةً، فمن جهة، لغته اليومية لا تسمح له بذلك، ومن جهة أخرى، هو محكوم بالرهبة الدائمة. لذا، يلجأ إلى الاستعارات كي يحقق غايته التعبيرية. فالروك السوري، الذي تعزفه “طنجرة ضغط”، هو استعارة الصراخ ضد القمع، والترنح ضد الثبات.
في إحدى الأغاني التي قدمتها في حفلة أمس، أشارت الفرقة إلى ظروف الكبت التي يحياها الفرد في يومياته، وبسببها، يصبح كائناً مضغوطاً أينما ذهب. وهو عندما يعي حاله، لا يسعه إلا أن يتحول إلى مقاتل، وهذا ما يجرّده من خفته:”إني إلعب ممنوع، إني إلعب ممنوع، ليّ قدري كون مقاتل؟!”. فالضغوطات التي يعيشها كثيرة، وحاضرة على كل المستويات: “تحت الضغط النفسي… تحت الضغط الجنسي… تحت الضغط الاقتصادي”. ولا تؤدي كلها سوى إلى انتزاع الرغبات منه، وتقييده بمسار محدد، لا يمكن أن يخرج عنه كي لا يُسحق أكثر، ويخسر ذاته بشكل كامل. في النتيجة، لا يعود الكائن المضغوط قادراً على احتمال ظروفه، فيحاول التفلت منها، رافضاً واقعه. وعلى هذا الأساس، يستخدم صوته، صارخاً بأعلى صوته: “تحت الضغط”. وذلك، كما يفعل طارق خلقي في نهاية الأغنية.
يخرج صراخ الفرقة قوياً. يُحدث ضجة ً موسيقية، هدفها الأول التعبير عن المكبوتات الداخلية، والثاني، إزعاج السلطة، والانتهاء من السكوت الذي تفرضه على الناس. ذاك أن الصرخات التي تطلقها “طنجرة ضغط” بالتوازي مع عزفها الإلكتروني، تشبه إلى حد بعيد المباضع المعدنية، التي يستخدمها الجرّاحون أثناء العمليات. إذ تفتح الفرقة بعزفها وغنائها جروحاً مخفيةً، تقشرها، وترفع عنها الجلود اليابسة والمتصلبة، كي تتنفس، وتتمكن من الالتئام طبيعياً، لا بقوة الكتم أو المنع. والحال هذه، من الممكن تشبيه الحفلة التي أحيتها الفرقة بالعملية الجراحية، التي استخدمت فيها الآلات الإلكترونية، وصرخاتها المصنوعة من المعدن.
بعد أغنيتين أو ثلاث، توقفت الفرقة عن العزف قليلاً، طلب خالد عمران من مغني الراب “السيد درويش” أن يصعد إلى خشبة المسرح كي يؤدي إحدى أغنياته على إيقاع “طنجرة ضغط”. وهذا ما جرى، إذ غنى قصيدة ً بالفصحى عن دمشق، بينما كانت موسيقى الروك ترافقه. في هذه الأثناء، كانت الإيقاعات تختلط والأوزان تتداخل، كما لو المدينة تُجترح صوتياً. فتظهر دمشق في شكل كلمات وألفاظ سريعة، لا يمكن لأي سلطة أن تقضي عليها، فمن المستحيل أن تهدم صوتاً رشيقاً ودائم الحركة. وفي هذه الأثناء أيضاً، كانت فرقة الروك السورية، تعلن، بتجربتها الجديدة، أن جيلاً كاملاً قرر البدء بالصراخ، قرر العيش فوق الضغط، لا تحته.
المدن