صراعات النخب وتأسيس الديمقراطية/ بدر الإبراهيم
تعاني الأنظمة الديمقراطية الغربية من تدني نسب المشاركة الشعبية في الانتخابات، بما يشير إلى تراجع الثقة والأمل بالعملية السياسية القائمة، وهذا ما دعا مفكرين غربيين كثيرين إلى مراجعةٍ، تحاول فهم سبب التراجع في المشاركة. أشار بعض المفكرين إلى غياب حالة التنافس والصراع بين النخب السياسية في الغرب، إذ أضحى هؤلاء جميعاً، من يمينهم إلى يسارهم، متشابهين، حد التطابق، في ما يطرحون من برامج ورؤى، فلا يرى الناخبُ خياراتٍ يمكنه تمييزها عن بعضها بوضوح، لأن الاختلافات ذابت، وهيمنت طبقةٌ سياسية محددة، تتمتع بالامتيازات، يجري داخلها تنافس محدود للغاية، ما يجعل العودة إلى إحياء الجدل والصراع داخل العملية السياسية ضرورياً لبث الحياة في الأنظمة الديمقراطية.
من هنا، تفترض الفيلسوفة البلجيكية، شانتال موف، أن العودة إلى الصراع السياسي ضرورة لإحياء المسار الديمقراطي، في إطار ما تعتبره “تعددية تصارعية”، تختلف من خلالها عن تصور الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، الذي يؤيد الدفع باتجاه إيجاد حالة توافق عريضة، بوصفها هدفاً للديمقراطية. تؤكد شانتال موف أنه لا بد من ظهور الصراع، وأن الديمقراطية ميدان هذا الصراع، المضبوط داخل حدود الجماعة السياسية. ترى موف أن السياسة الديمقراطية تقوم على استبدال علاقة العداء بعلاقة التنافس، بما يضمن وجود ديمقراطيةٍ تعددية، فالمختلف داخل الجماعة السياسية والعملية الديمقراطية هو خصم وليس عدواً، يمكن الاختلاف معه والصراع مع أفكاره وتصوراته بشدة، لكن من دون إقصائه أو حرمانه من حق الدفاع عن هذه الأفكار.
“معاناة النخب العربية من الفراغ الفكري والأيديولوجي تمت معالجتها عبر استحضار صراعات الهوية، في سبيل تحشيد الجهور وتعبئته”
تنتقد شانتال موف الأحزاب اليسارية في أوروبا، لأنها فرّطت بما يميّزها لصالح التحرك نحو وسط الساحة السياسية، والاستسلام تالياً أمام التيار النيوليبرالي، ما تسبب بتبعاتٍ سلبيةٍ على الديمقراطية، في ظل التشابه بين الخيارات وغياب البدائل، كما أن هذا التقارب بين أحزاب اليسار واليمين ساعد في صعود أحزاب يمينية شعبوية، يستند نجاحها إلى عدة أسباب، من أهمها أنها تظهر نفسها بوصفها الوحيدة القادرة على طرح بديل حقيقي للخيارات القائمة.
الرؤية التي تؤكد على أهمية الصراع والتنافس، مع الاحتفاظ بتوافق الحد الأدنى، المتمثل في قواعد اللعبة الديمقراطية، وهوية الجماعة السياسية، يمكننا تطبيقها على الحالة العربية من زاويةٍ تتعلق بغياب الصراع على برامج عمل مقابل حضور الصراع على الهوية، ونسف الحد الأدنى من التوافق في مرحلة التأسيس للديمقراطية (وهي تختلف عن حالة ديمقراطيات مستقرّة كما في أوروبا)، في إطار تسبب غياب الصراع على برامج العمل والأفكار والرؤى، في حضورٍ أكبر وأقوى للصراع على الهوية، لأنه يساعد في ملء الفراغ الأيديولوجي عند النخبة السياسية العربية.
غياب الجدل حول السرديات الكبرى والأيديولوجيات في الوطن العربي دفع النخبة العربية أكثر نحو العودة إلى الهويات الأولية، أو تحويل ثنائية الديني/ العلماني إلى محور صراع هويّاتي الطابع، ونحن نشهد تأثير غياب الانقسامات الأيديولوجية على طبيعة الانقسام العربي على المستويين النخبوي والشعبي، إذ إن طبيعة هذا الانقسام تغيّرت خلال العقود الثلاثة الماضية، مع تراجع المشاريع الأيديولوجية الكبيرة، وانهيار المعسكر الاشتراكي، وأصبحت معبّرةً عن تقسيمات هوية داخل المجتمعات العربية، تعززها النزاعات الإقليمية والدولية.
التدقيق في حالة النخب السياسية العربية، يقود إلى فهم تكتلاتها المتقابلة، ضمن حالة صراعات الهوية، وفي التكتل ذي الطابع الهويّاتي، يجتمع الإسلامي والعلماني، تحت شعار الهوية المذهبية، كما هو الحال في العراق. كما يجتمع النيوليبرالي والاشتراكي، ضمن تكتل علماني، يرفع هوية مقابل هوية التكتل الإسلامي، كما هو حال مصر، ذلك أن الفروق بين النيوليبرالي والاشتراكي تقلّصت إلى حد كبير، ولم تعد البرامج والرؤى الاقتصادية عاملاً حاسماً في العمل السياسي، أو محفزاً للصراع والتنازع، لأنها، في الأصل، غائبة عملياً في فكر هذه الأحزاب والقوى، وليس لها حضور إلا عبر كليشيهات تتردد بين فترة وأخرى في الخطاب العام.
أثَّر هذا في عملية التأسيس للديمقراطية وأفشلها، فقد غابت الأرضية المشتركة التي يمكن أن تشكل قاعدة انطلاق للعمل الديمقراطي، والمتمثلة في الاتفاق على هوية الجماعة السياسية، والتعددية تحت مظلتها، والصراع بين برامج عمل وأفكار تدّعي قدرتها على تحقيق مصالح الجماعة السياسية بشكل أفضل. حضر الصراع على الهوية، لينسف الأمل بتأسيس الديمقراطية، وظهرت النخب السياسية العربية في صورةٍ لا تقبل بالتعددية، ولا تستطيع فهم الصراع داخل إطار الحد الأدنى من التوافقات، وضمن حدود اللعبة الديمقراطية التي لم تضعها أصلاً هذه النخب.
معاناة النخب العربية من الفراغ الفكري والأيديولوجي تمت معالجتها عبر استحضار صراعات الهوية، في سبيل تحشيد الجهور وتعبئته، فتحوّل التنافس بين خصوم داخل العملية الديمقراطية كما يفترض، إلى عدائيةٍ سافرةٍ ومحاولات إقصاء متبادل، انتهت إلى صراعات أهليةٍ، أو تمكين الأنظمة التسلطية. إن هذا يجعل مراجعة معمّقة لتعثر التأسيس للديمقراطية عربياً، تلحظ أهمية وضع الصراع في موضعه، داخل حدود هوية الجماعة السياسية (الهوية الوطنية الجامعة)، وقواعد اللعبة الديمقراطية، وفي إطار تنافس بين خصوم، لا مواجهة بين أعداء، يجمعهم الوطن، ويتصارعون بشدة على أفكارٍ ورؤى لنهوضه، وتأمين حياة كريمة لأبنائه.
العربي الجديد