صفحات الناس

صراع الجداريات السورية/ جلال بكور

 

 

لم تكن ثقافة الغرافيتي غريبة عن الثورة السورية ضد عائلة “الأسد” الحاكمة، حيث كانت الرسوم على الجدران تتابع شرارة اشتعال الثورة في كتابات ضد النظام السوري، خطّها أطفال ويافعون في مدينة درعا على جدران مدارسهم في نهاية شباط/ فبراير عام 2011، وانتقلت الكتابات إلى مناطق سورية أخرى وشملت لاحقاً أشكالاً متعددة من الرسم والجداريات ومنها رسم لوحات تحكي قصصاً من الواقع السوري، فبعد أن كانت الجدران تعرف بأنها صاحبة أذنين في عهد القمع، سرعان ما أصبحت مساحة للتعبير دون خوف مع ترنّح النظام.

هكذا كانت الجدران مساحة للتعبير عن الصمود ورفض الخروج والتهجير الذي يفرضه النظام السوري برعاية روسيا وإيران، حيث كتب الناشطون العديد من العبارات التي تحدثت عن الحب في وقت الحرب، على جدران الأحياء الشرقية من مدينة حلب قبل انتهاء عملية التهجير التي تمت من قبل النظام برعاية دولية.

وكذلك في حي الوعر في مدينة حمص وحي القابون شرقي دمشق ومناطق أخرى طاولتها عجلة التهجير، حيث كانت الجدران منابر عبّر من خلالها السوريون عن رأيهم ورفضهم للظلم، وحبهم للحياة. ومن العبارات التي حفظها السوريون من جدران حلب: “راجعين يا هوا”، و”أحبيني بعيداً عن بلاد القهر والكبت، بعيدا عن مدينتنا التي شبعت من الموت”، و”جوعانين بس عنا كرامة”. كما كتب بعضهم “الجميلات هن الأمهات الثائرات” و”سلام لمن صبروا وصابروا وقاوموا وتحملوا”.

عزيز الأسمر هو أحد الناشطين في رسومات الغرافيتي السورية، وهو يعبّر في حديث مع “العربي الجديد” عن شعور بالارتياح مع قدرته اليوم على التعبير وممارسة فن الغرافيتي على جدران مدينته بنّش في ريف إدلب، وجدران مدن وبلدات أخرى في المحافظة، لما لها من دور في إيصال رسالة تتحدّث عن الواقع السوري وتجسّد معاناة الناس من ظلم النظام.

لقد أعطت الجدران مجالاً لرسم لوحات تتحدّث عن الظلم والاعتقال في سجون النظام، كان يفكر الأسمر برسمها على الورق سابقاً، لكنه أخفى أفكاره طيلة عشرين عاماً بسبب الخوف من الأمن حتى في سنوات إقامته في لبنان.

ومن القصص التي روتها رسوم الأسمر حادثة الطفل عبد الباسط طعّان الذي أدّى قصف من طيران النظام السوري إلى فقده قدميه في السابع عشر من شباط/ فبراير الماضي، وكانت عبارة “يابابا شيلني” من العبارات التي رسخت في أذهان السوريين بعد انتشار مقطع مصوّر للطفل وهو يدعو والده المرتبك إلى حمله.

وكانت حادثة القصف الكيميائي على مدينة خان شيخون أيضاً من ضمن القصص التي رسمها الأسمر في الحي الشرقي من مدينة بنش حيث وقعت مجزرة راح ضحيتها مئات المدنيين معظمهم أطفال بغارة من طيران النظام، استهدفت المدينة بقذائف تحوي غاز السارين السام.

يرى الأسمر أن اللوحة لا تحتاج كثيراً من الوقت والجهد في حال وجدت الفكرة، ولعل تجدّد هذه الصور القوية التي تفرزها المأساة السورية مكّنه من رسم مئات اللوحات في ريف إدلب بإمكانياته المتاحة مادياً، كما تنقل بين ريف إدلب وريف حلب، ورسم على جدران المدارس والجدران التي بقيت من أجزاء مبان هدمها قصف النظام السوري.

يروي الرسّام السوري أنه عندما يدخل النظام السوري إلى منطقة بعد قصف ومعارك عنيفة يقوم بمحو كل لوحة أو عبارة ثورية، ويقوم بتحريف بعضها أحياناً. ويضيف أنه “عندما يحرّر مقاتلو المعارضة مكاناً نطلب منهم أن نقوم برسم الرسوم وكتابة العبارات الثورية لأننا نعلم جيداً وقع تلك العبارات في نفوسنا وفي نفوس مؤيدي النظام والرماديين والواقفين على الحياد”.

يفسّر الأسمر شيئاً من خصوصيات صناعة الغرافيتي في سورية، حيث يرى أن طبيعة الجدار الذي تتم عليه عملية الرسم تفرض نوعية الأدوات المستخدمة مثل الريشة أو الفرشاة أو الإسفنج، كما تفرض الفكرة نوعية الألوان، فعندما ترسم عن الكيميائي يكون اللون الأصفر الأكثر تعبيراً. وبحسب تجربته، يستغرق رسم اللوحة على الجدار قرابة ثلاث ساعات، بتكلفة ألفي ليرة سورية أي ما يعادل أقل من أربعة دولارات أميركية.

وعلى الرغم من التكلفة القليلة للوحة إلا أنها قد تكون مرتفعة بالنسبة لرسّام سوريّ، ما يدفعه أحياناً للبحث عن داعمين، بعضهم قد يكون طرفاً في النزاع.

لكن الحيطان السورية ليست حكراً على رسّامي الغرافيتي، ففي مناطق مختلفة ظهرت شعارات دينية وفصائليّة لا تعبّر عن التوجه العام لأبناء المنطقة ويقوم أشخاص بكتابتها وفق أهوائهم الشخصية أو توجّهاتهم الحزبية. هنا يؤكّد عزيز أنه وبعض رفاقه وضعوا خطة لإزالة كل عبارة تسيء للثورة وتصوّرها على أنها ثورة طائفية وتعمل على تشويه الثورة، وتعطي النظام وحلفاءه ذريعة لقصف المدن.

يؤكّد الأسمر على أنه لا يمكن أن ترسم رسمة أو تكتب عبارة عن “النفير والجهاد” بينما هناك قتال داخلي بين فصائل المعارضة، مضيفاً: “نتمنى على من نمون عليهم سحب الذرائع من الإعلام المتربص.. باستبدال العبارات المستفزة والفوقيّة والممجوجة بعبارات تريح نفوس الحاضنين للثورة السورية، وتبيّن لمن يفتّش عن ماء عكر يصطاد فيه أن ثورتنا فيها الأدب والرقي والعلم جنباً إلى جنب مع السلاح في وجه الظلم”.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى