صراع السرديات في الأزمة السورية/ غياث بلال
تفتت السردية الأولى
ثورة وسرديات متعددة
الثورة وسردية التغيير
يعزو علماء التنظيم والإدارة تعدد ظهور الجماعات والتنظيمات في المجتمع الواحد إلى تعدد السرديات الجامعة التي يؤمن بها أفراد هذا المجتمع، فالسردية المؤثرة هي القادرة على تحويل التجمع الكيفي من البشر إلى مجموعة منظمة وقادرة على التأثير، وذلك من خلال توفير القدرة على خلق الفهم المشترك للغاية والوسيلة، وتوفير القدرة على الحشد من خلال بلورة مفهوم الـ”نحن”.
تقوم السردية على أربعة عناصر أساسية: من نحن؟ ماذا نريد؟ كيف يمكن تحقيق ما نريد؟ ومتى يجب البدء بالعمل؟
الاختلاف في أي من الإجابات تنجم عنه سردية جديدة تعمل على تأسيس هوية جديدة متفردة عن ما سواها، الأمر الذي يؤدي إلى تعدد في المجموعات والهويات في المجتمع، كما يعد أحد الأسباب المفسرة لتشظي وانشطار الجماعات بعد نشأتها.
أخطر الاختلافات تكون عادة في تعريف من نحن، الأمر الذي قد ينتهي إلى تعدد السرديات الكبرى في المجتمع، والتي تغذي بدورها الانشقاقات العمودية في بنيته.
تعد السرديات المتمايزة بتعريف “من نحن” أحد الجذور المؤسسة للحروب الأهلية، ففي حال تعرضت إحدى الجماعات لغبن شديد لم تتمكن من رفعه من خلال الحوار والتفاوض وطرق التغيير السلمية فإنها ستنكفئ على نفسها وتلتف حول سرديتها الخاصة بعد أن تتلون سرديتها بخطاب يدعي المظلومية ويعمل على زيادة تمايزها عن محيطها وبلورة هويتها الخاصة بها.
حافظت الثورة السورية منذ اندلاعها في مارس/آذار ٢٠١١ وحتى مطلع شهر رمضان من ذلك العام (الموافق لأيلول/سبتمبر ٢٠١١) على سردية واحدة تبنتها معظم المجتمعات الثائرة في كامل عناصرها الأساسية, وكانت هذه السردية هي الأساس الذي قامت عليه تنسيقيات الثورة السورية في كل حي ثائر.
ويمكن تلخيصها كما يلي: شعب مغبون، عاف حياة الذل والظلم وخرج يطالب بالحرية والكرامة واستعادة الحقوق من سلطة مستبدة، سلك هذا الشعب المغبون إلى غايته طرق الاحتجاجات والمظاهرات السلمية، وقرر عدم التوقف قبل استعادته زمام المبادرة في التقرير لشؤون حياته.
لم يكن حينها معنى ومفهوم إسقاط النظام واضحا ومتفقا عليه، إلا أن ذلك لم يؤد إلى تشققات واسعة في الرواية الثورية من شأنها تفتيت السردية الأم إلى سرديات متعددة، ورغم ذلك ظهرت العديد من التجمعات والكيانات التي تحمل سردياتها الخاصة غير أنها تتفق في العناصر الأساسية مع السردية الأم المشار إليها في الأعلى.
فاتحاد تنسيقيات الثورة السورية وكذلك الهيئة العامة للثورة السورية كانا مجموعات منظمة تمثل الشرائح الأعرض من الناشطين المحليين، في حين سعت لجان التنسيق المحلية لتمثيل النخبة ضمن الناشطين.
ثم ظهر المجلس الوطني الذي عرف نفسه بواجهة تعكس نبض ومطالب الشارع المحتج، وانتهج طريق العمل السياسي لتحقيق أهداف الثورة، كما ضم في جله شريحة المعارضين القدماء للنظام الذين انتظموا في ما مضى بالهيئات المعارضة للنظام قبل الثورة، جميع هذه الكيانات اتفقت في سردياتها الخاصة مع السردية الأعم للثورة السورية في تلك المرحلة.
تفتت السردية الأولى
منذ مطلع رمضان في العام الأول للثورة دفع النظام السوري بالجيش والأسلحة الثقيلة إلى قلب المدن الثائرة، فاحتل ساحة العاصي في حماة واستوطنت دباباته قلب مدينة دير الزور وإدلب بعد أن خرجت في هذه المدن المظاهرات المليونية التي سيخلدها التاريخ كأكبر حركة احتجاج سلمي ضد نظام شمولي في التاريخ المعاصر، حيث وصلت نسبة عدد المتظاهرين في أيام الجمع إلى ما يقارب ٢٠% من عموم سكان سوريا حسب العديد من المؤسسات العربية والدولية التي كانت تراقب حركة الاحتجاجات السلمية في تلك الفترة.
أدى العنف الشديد للنظام إلى الانتقال بالثورة السورية من حالة الاحتجاجات السلمية المنظمة إلى حالة العمل المسلح العشوائي المحلي الهادف أساسا لدفع الأذى وصد القوة العسكرية للنظام، الأمر الذي تطور لاحقا إلى تنظيمات عسكرية منظمة نسبيا وعابرة للمناطق وتمتلك رؤى وبرامج خاصة بها لما يجب أن تكون عليه الدولة والمجتمع، وبالتالي استندت هذه التنظيمات العابرة للمناطق إلى سردياتها المختلفة في ما بينها حينا والمتضاربة أحيانا أخرى، الأمر الذي انتهى إلى العديد من حالات الاحتراب الداخلي بين هذه الفصائل.
ثورة وسرديات متعددة
يمكن اليوم رصد ثلاث سرديات رئيسية شاملة تختلف عن بعضها بشكل أساسي في تعريف من نحن، وينعكس هذا الاختلاف بوجود ثلاثة تيارات تحمل ثلاثة أعلام مختلفة، وتسعى لتحقيق ثلاثة مشاريع ورؤى متمايزة: النظام الأسدي، تنظيم الدولة الإسلامية وبقايا ثورة الكرامة ممثلة بمجموع شتاتها الذي ما زال يؤمن بمشروع سوريا الجديدة الحرة ويعتز بعلم الاستقلال.
هناك أيضا السردية الخاصة بالمكون الكردي في سوريا، فهي سردية رئيسية لها رمزيتها ولها علمها ومشروعها الخاص بها، إلا أنها كانت سابقة على واقع الثورة السورية، لذلك لن نتناولها بالتفصيل في هذا المقال.
يمكن ملاحظة سرديات متعددة داخل كل سردية من هذه السرديات الثلاث الرئيسية، تتفق مع السردية الأم بتعريف من نحن وتختلف معها بالغاية أو بالوسيلة، فعلى سبيل المثال: تشترك جبهة النصرة وتنظيم الدولة بتعريف من نحن -كتيارات سلفية جهادية عالمية الرؤيا- ويحملان كذلك أعلاما ورايات متشابهة، يتفقان في الغاية: تحكيم الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية وفق رؤيتهما، إلا أنهما يختلفان في طريقتهما للوصول إلى غايتهما.
تنظيم الدولة يعتمد التفسير الظاهري والحرفي للنص ويستند إلى مفهوم الغلبة بشكل مطلق، كما أنه يستعجل تطبيق مشروعه، في حين ترى جبهة النصرة ضرورة التريث كنتيجة لامتلاكها ترتيبا مختلفا للأولويات، تسعى للتفاهم مع الآخرين حيث أمكن وتلجأ للسياسة الشرعية حيث تستطيع، وهو الأمر الذي انتهى بهما كجماعتين متمايزتين، بل ومتحاربتين أحيانا وإن توافق تعريفهما نفسيهما بجماعة واحدة اتفقت في الغاية.
إن اتفاق تنظيم الدولة وجبهة النصرة بالسردية الرئيسية أدى إلى سهولة التنقل للأفراد بينهما رغم اشتداد التوترات والاقتتال الواقع في ما بينهم أحيانا، في حين من الصعب تصور انتقال أفرادهما للانضمام إلى جماعة ذات تعريف مختلف لذاتها.
على الطرف المقابل، نجد طيفا واسعا من التنظيمات المدنية والعسكرية والسياسية التي آمنت بثورة الكرامة مرتكزة على سرديتها الأولى، كما ارتضت بعلم الاستقلال رمزا لها، إلا أن رؤاها للوصول إلى سوريا الجديدة التي تتسع للجميع اختلفت في توصيف الطريق، فمنها من آمن بالعمل السياسي وبالاحتجاج السلمي بالمطلق، ومنها من آمن بأن الحقوق لا تنال إلا انتزاعا.
وهناك العديد من التنظيمات التي تقع بين هاتين الرؤيتين، الأمر الذي انتهى إلى تعدد الفصائل والتنظيمات التي انتمت إلى هذه الجماعة، كذلك فإن التوافق في تعريف الجماعة الأم بنسبتها إلى ثورة الحرية والكرامة أدى إلى سهولة التنقل للأفراد بين التنظيمات المنبثقة عنها، الأمر الذي ساهم في زيادة الديناميكية العالية لدورة حياة هذه التنظيمات.
في حين اعتمد النظام السوري منذ بدء الثورة سردية واحدة لم يحد عنها طوال السنوات التي تلتها، فعرف نفسه بأنه النظام العلماني الحامي للأقليات، ويقع في القلب من مشروع الممانعة للهيمنة الأميركية والاحتلال الاسرائيلي، كما أنه يتعرض اليوم لمؤامرة كونية كنتيجة لمواقفه الممانعة، الأمر الذي يستوجب الرد الحازم والعاجل لحماية الدولة من السقوط في أيدي التكفيريين، أو لحمايتها من السقوط في فلك التيار الغربي الصديق لإسرائيل.
النظام الأسدي يضم طيفا واسعا من الجماعات والتنظيمات والشرائح الداعمة له، تتشارك معه سرديته الأساسية كرابط جامع، حتى لو انتقدت بعض أفعاله أو ادعت معارضته، إلا أن المراقب لا يكاد يلحظ أي تعدد للسرديات الخاصة ضمن المكونات الداعمة للنظام.
ولعل مرد ذلك لضيق هامش الحريات الذي تركه النظام لأتباعه، أو لمن امتلك السيطرة على مقاليد حياتهم، الأمر الذي سيحرم أتباع النظام من القدرة على الاستجابة السريعة للتحديات الناجمة عن سقوط سرديتهم الأم، حيث سيكون من المتعذر إعادة ترتيب الصفوف في تجمعات وتنظيمات جديدة، وذلك نتيجة التماهي المطلق معها وانعدام البدائل التي يمكن أن تؤسس لتجمعات جديدة داخل صفوفهم.
الثورة وسردية التغيير
يستمد السوريون اليوم رغبتهم في إنجاز التغيير اللازم نحو غد أفضل من الألم الذي عايشوه وتراكم قبل الثورة وكذلك من الألم الذي يسببه الواقع اليوم، ويتكون هذا الشعور بالألم نتيجة إدراك شذوذ الواقع وانحرافه عن ما يجب أن يكون عليه وفقا لمنظومتنا القيمية التي تستند إلى العدالة كقيمة أساسية وإن فقدت في حياتنا اليومية لفترات طويلة بشكل كبير.
لا يمكن إحداث تغيير حقيقي في المجتمع إلا بوجود شريحة فاعلة تشعر بالألم ومدركة للانحراف، ولن تتمكن هذه الشريحة من إحداث التغيير بدون امتلاكها القدرة على التنظيم والحشد والقدرة على دخول صراع من أجل جعل تكلفة الإبقاء على الواقع المؤلم أعلى من تكلفة التغيير، وهاتان القدرتان تتطلبان كفاءات إدارية وثقافة مناسبة ودراية واسعة ببيئة العمل وبإستراتيجيات وتكتيكات التنافس والصراع.
لم يكن اندلاع الثورة السورية ممكنا لولا توافر هذه الشريحة، كما أن استمرار الثورة وتطور مآلاتها لم يكونا ممكنين لولا توافر القدرة الكافية على التنظيم والحشد، إلا أن هذه القدرات لم تتمكن من التكيف مع الواقع الذي صنعه التدخل المباشر لحلفاء النظام، الأمر الذي حال دون إمكانية تحقيق الحسم لصالحها من خلال قدراتها الذاتية.
يحتاج السوريون اليوم إلى التوافق على سردية واضحة ومتكاملة للتغير المنشود في المرحلة القادمة في ظل المعطيات الواقعية الحالية، سردية تستند إلى نظرية واضحة للتغيير، وتقوم على شرح كيفية تحويل موارد المجموعات المؤمنة بهذا التغيير إلى عوامل قوة ومصادر طاقة من أجل إنجاز العمل في اتجاه التغيير المطلوب.
كما أن الوصول إلى نظرية متكاملة للتغيير تستند إلى فرضيات صحيحة يتطلب تحديد نظرية اللاتغيير قبل ذلك، أي فهم الظروف التي أنتجت واقعنا الحالي بكل تعقيداته ومصائبه المؤلمة، بهدف التعلم وأخذ العبرة والحيلولة دون تكرار الأخطاء التي عانى منها السوريون خلال الأعوام الماضية وما زالوا.
المعيار الحقيقي لنجاح الثورة السورية هو تمخضها عن تغييرات اجتماعية كافية لخلق وعي جمعي يدفع باتجاه بناء نظام سياسي قادر على صيانة الحريات وحماية كرامة الإنسان في سوريا.
فالضمان الوحيد لمستقبل أفضل لأولادنا وأحفادنا هو أن يعيشوا في ظل نظام سياسي واجتماعي يحفظ لهم حريتهم وكرامتهم ويؤمن لهم تكافؤ الفرص في بلدهم، غير ذلك من الضمانات لا قيمة لها في عالمنا اليوم، حيث يذوب الأفراد في المؤسسات، وتتحول المجتمعات إلى خلايا منظمة تعمل وفق آليات وديناميكيات معقدة تسمح بتأطير كفاءاتها بما يوجه تدافعها وتنافسها كي يصب في خدمة المجتمع.
الجزيرة نت