صراع القوتين العظميين في سوريا/ إيلي ليك
إذا كنت تنصت فقط لما يصدر عن الكرملين والبنتاغون، فربما لم تعلم أن روسيا هاجمت قوات أميركية وحلفاء لها داخل سوريا الأسبوع الماضي، وسقط عدد كبير من الضحايا.
واعترفت جميع الأطراف بوقوع حادث داخل قاعدة أميركية في دير الزور، وأن عناصر تتبع النظام السوري وميليشيات شيعية شاركت في الهجوم. واعترف البنتاغون والكرملين بـ«مرتزقة» روس شاركوا في الهجوم أيضاً. إلا أن الخطاب الرسمي السائد حالياً يشير إلى أن هذه العناصر مارقة، وأن موسكو لا علم لديها بالأمر.
وعندما استفسر مراسلون عن الحادث من وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، وصف الأمر برمته بالمثير للحيرة. وقال: «ليست لديّ أدنى فكرة لماذا هاجموا هذه النقطة، فقد كان من المعروف وجود القوات هناك، ومن الواضح أن الروس كانوا على علم بذلك. وقد كنا دوماً على علم بأن ثمة عناصر في هذه المعركة المعقدة ليس للروس سيطرة عليهم».
الآن، من الواضح أن ماتيس رجل شديد الذكاء، ومن المحتمل أن الحيرة والارتباك اللذين تحدث عنهما ليسا سوى مثل وصف أفلاطون بـ«الكذبة النبيلة»، في إشارة إلى الأكاذيب التي قد يتفوه بها قائد ما لتحقيق نفع اجتماعي أكبر. وإذا كان ماتيس أقر بما هو واضح -أن الكرملين أصدر أمراً بشن هجوم مباشر ضد قاعدة ترعاها الولايات المتحدة من جانب أفراد غير نظاميين- فإنه يخاطر بذلك بإثارة تصعيد ربما يخرج عن نطاق السيطرة داخل سوريا. وعليه، بدا من الأفضل التعبير عن الحيرة، ومنح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة التراجع ونفي تورطه في الحادث، الأمر الذي فعله نهاية الأمر رغم الخسائر البشرية الضخمة في صفوف المرتزقة التابعين له.
ومع هذا، تظل الحقيقة أن ثمة أدلة قوية تشير إلى أن المتعاقدين الروس كانوا يعملون بناءً على أوامر صادرة عن الكرملين. الأدهى من ذلك، أن الروس كانوا يعلمون بوجود قوات أميركية في دير الزور، التي كانت جزءًا من اتفاقات متعاقبة لخفض التصعيد داخل سوريا.
ودعونا نشير هنا إلى التغطية الرائعة التي قدمها زملائي في «بلومبيرغ نيوز»، حول أن الجرحى من المرتزقة جرى نقلهم جواً لتلقي العلاج في مستشفيات في موسكو وسانت بطرسبرغ.
وأخبرني مسؤولون أميركيون يراقبون الوضع في سوريا أنه ما من شك في أن المؤسسة العسكرية الروسية كانت على علم بالهجوم الذي وقع في دير الزور. وأخبرتني إيفيلين فاركاس، نائبة مساعد وزير الدفاع سابقاً لشؤون روسيا وأوكرانيا والمنطقة الأوروآسيوية، الخميس، بأنه: «أي مرتزق روسي سواء داخل أوكرانيا أو سوريا، يعمل لحساب الحكومة الروسية».
المؤكد أن ما وقع ليس بحادثة، خصوصاً بالنسبة إلى شركة «واغنر». ويُذكر أن أحد قياديي الشركة، دميتري أوتكين، لفتنانت كولونيل سابق في وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية المعروفة اختصاراً باسم «جي آر يو». ويرتبط أوتكين وشركته عن قرب برجل الأعمال البارز يفغيني بريغوزين، المعروفة باسم «الشيف الخاص ببوتين»، وذلك لأنه يملك الشركات التي توفر خدمات الطعام للكرملين.
ويعد مقاولون مثل «واغنر» جزءًا أساسياً من الاستراتيجية الروسية الأكبر المتمثلة في «الحرب المختلطة» بهدف تعزيز المصالح الروسية، مثل نشر مقاتلين من دون زي رسمي للمعاونة في فرض السيطرة على القرم واقتناصها من أوكرانيا عام 2014.
من جهته، قال ماتي سوميرانو، الباحث لدى «معهد دراسات الحرب»، في حديث له معي الأسبوع الماضي: «إنهم يعاونون روسيا في إضفاء هالة من الغموض على الدور الروسي في سوريا. في شرق سوريا، يمكن لوزارة الدفاع الروسية القول بأنه: لا ندري أنهم كانوا يفعلون ذلك. إلا أنه من المحتمل للغاية أنه كان هناك نوع من التوجيه من قبل القيادات العليا داخل الكرملين».
وأخيراً، ثمة حجة استراتيجية وراء مشاركة روسيا في الهجوم على دير الزور، ذلك أن السياسة الأميركية في الوقت الراهن مثيرة للحيرة بعض الشيء. عندما يناقش ماتيس ومسؤولون أميركيون آخرون المهمة الأميركية في سوريا علانية، يقولون إنها محاربة «داعش» فحسب. حتى الآن، لا توجد سياسة رسمية إزاء ما إذا كان دور القوات الأميركية يتضمن التصدي للجهود الروسية – الإيرانية لمعاونة نظام بشار الأسد في إعادة الاستيلاء على أراضٍ فقدها النظام في أثناء الحرب الأهلية.
أضف إلى ذلك الرسائل المختلطة الصادرة عن الولايات المتحدة، الشهر الماضي، عندما أخفقت في وقف تركيا عن قصف مدينة عفرين الواقعة تحت سيطرة الأكراد. وبينما حاولت الولايات المتحدة إنهاء الهجوم التركي عبر السبل الدبلوماسية، فإنها لم تقترح توفير الحماية للمقاتلين الأكراد المتحالفين مع قوات حماية الشعب الذين ظلوا داخل المدينة. جدير بالذكر أن قوات حماية الشعب تشكل حليفاً محورياً للولايات المتحدة في الحملة ضد «داعش». وقد انتقل المقاتلون الأكراد المتمركزون في دير الزور إلى عفرين خلال الأسابيع الأخيرة للمشاركة في القتال، الأمر الذي جعل هذا الجيب هدفاً أكثر جاذبية للتحالف الروسي – الإيراني داخل سوريا.
وبالنسبة إلى بوتين، الذي سبق أن قصفت قواته الجوية جيوباً أخرى لقوات مدعومة من قبل واشنطن داخل سوريا، فإن عجز الولايات المتحدة عن منع حليف لها داخل «الناتو» (تركيا) من مهاجمة حليف آخر داخل عفرين، يعد مؤشراً على الضعف. وكان الهجوم الذي وقع الأسبوع الماضي في دير الزور من قبل مرتزقة فرصة للتعرف على حجم رد الفعل الأميركي.
النبأ السار هنا أن رد الفعل الأميركي كان سريعاً وقاسياً. ورغم عدم توافر أرقام مؤكدة، فإن بعض المصادر الإخبارية الروسية قدّرت أعداد الضحايا بـ200 قتيل في صفوف المرتزقة.
ويعيدنا ذلك إلى ماتيس والسبب وراء رفضه إلقاء اللوم مباشرة على روسيا في الحادث. في حديثه معي، قال فاركاس: «أعتقد أنه كان متحيراً، لأنه كان يبعث برسالة إلى الروس مفادها: سأمنحكم فرصة الإفلات من هذا الأمر، لكن لا تكرروه ثانية. أما الروس فيدركون جيداً أنهم يلعبون بالنار، بالنظر إلى رد فعلهم».
إلا أن هذه الكذبة النبيلة تحمل جانباً سلبياً يتمثل في أنه بالنظر إلى أن مثل هؤلاء المتعاقدين أمثال «واغنر» يشكلون جزءًا محورياً من الاستراتيجية الروسية الأوسع، فإنه من المهم أن تحرم الولايات المتحدة، روسيا من قدرتها على نفي تورطها في مثل هذه الحوادث. وينبغي إخبار روسيا بصورة مباشرة بأن أي هجوم يشنه مرتزقة ينتمون إليها سيجري التعامل معه باعتباره هجوماً شنته قواتها المسلحة.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
الشرق الأوسط