صفحات الثقافة

صرحاء أجلاف مزعجون استفزازيون وقحون من أجل الخلق والحرية/ عقل العويط

كان الأجدى بالمجتمع الدولي لو وضع حدّاً للصلف الإسرائيلي المتمادي في فلسطين منذ 1948، اغتصاباً واحتلالاً وتهويداً. لذا لن نتبارى في التنديد بـ “ملهاة” الهجوم الغربي المحتمل على النظام السوري، فنحن ضدّه قطعاً. كما لن نتبارى في التنبؤ بمآلاته، وارتداداته الكارثية على الثورة السورية، وعلى لبنان خصوصاً، والمنطقة العربية عموماً. سنكتفي ككتّاب، بطرح الأسئلة الآتية التي يلاحقنا بها القرّاء: هل يحقّ لنا، كمختبر كلاميّ لثقافة التفكير النقدي الحرّ، أن تكون موضوعيتنا قاسية، وأبحاثنا التوثيقية دقيقة وجارحة إلى حدّ “الوقاحة”، وآراؤنا الشخصية شديدة الفجاجة، وشهاداتنا في الصدق العاري، مضرَّجة ويائسة أحياناً؟ هل يحقّ لأحلام الكتّاب أن تكون “عاجزة” أمام الوقائع السياسية – الأمنية، بتعقيداتها الكيانية والوطنية الشائكة، وبصورها التراجيدية القاتمة؟ وهل يحقّ لهؤلاء الكتّاب أن يتركوا لهذه الوقائع، وللتكهنات والتخرصات والشائعات والتنبوءات، أن تقود الرأي العام إلى مصائره وأقداره وغرائزه العمياء؟

نثير هذه المسألة، ردّاً على اتصالات ومراسلات جمّة من قرّاء مواظبين أعزّاء، متنوّعي الاهتمام، يعربون فيها عن الهلع والتوجس والتطيّر، بسبب بعض المقالات الصريحة والفجّة التي ينشرها “الملحق” عن لبنان وسوريا ومصر والعراق، والتي تلقي الضوء على الذاكرات، والوقائع الهمجية، والأحلام العربية القتيلة، وتنذر في الغالب بالويل والثبور وعظائم الامور.

يقولون لنا، من باب اعتبارنا منبراً للأمل والشغف والرجاء والحيوية الثورية، إنه لا يجوز لكتّاب هذا المنبر، بل “لا يحقّ” لهم، أن يكونوا محض مواطنين “عاديين”، ولا أن يشعروا شعورهم، وييأسوا يأسهم. يعتقد هؤلاء القرّاء في تصوّراتهم، أن في مقدور الكتّاب أن يجترحوا حلولاً، أو أن يقترحوا مخارج توصل المجتمعات العربية إلى أزمنة الجمهورية الفاضلة.

هؤلاء القرّاء الأعزاء جداً، يرسمون للكتّاب صوراً سوبرمانية افتراضية، وأحياناً أيقونية، يعتبرونهم فيها أشخاصاً فوق بشريين، قادرين، من جهة، على تغيير مجاري الأحداث، ومنيعين وحديديين، من جهة أخرى، بحيث لا يصيبهم ضيم، ولا ينال منهم يأس.

حبّذا، أيها الأصدقاء القرّاء، لو يكون الكتّاب على هذه الصورة بالذات. لكن الواقع الموضوعي الصادم، في لبنان والمنطقة العربية، هو أقوى من كل صورة “فردوسية” مماثلة، بل أصدق إنباءً من كلّ مقالات العقل والرأي والوجدان والتمرد، التي توحي، في لحظات من الإشراق الموضوعي الخاطف، بقدرة الأمل على اجتراح المعجزات الثورية والديموقراطية.

نتحدث بالطبع عن الكتّاب الأحرار منهم تخصيصاً، وأيضاُ عن الجهويين الملتزمين والحزبيين، من ذوي الصدقية الأخلاقية، الذين نكنّ لهم ما ينبغي أن تحظى به مواقفهم من احترام حرية الرأي. لكننا لا نتحدث طبعاً عن الكتّاب “الموظّفين” اللامبالين، ولا أيضاً عن “المرتهنين” و”المرتزقة” و”المرتشين” و”باعة الحبر” و”أبواق الأنظمة”.

قد لا يغيّر الكتّاب الأحرار في الوقائع المأسوية شيئاً كبيراً يُذكر، وخصوصاً في لحظات الهياج الغريزي الماحق. لكن هذه “الحقيقة” يجب أن لا تحمل هؤلاء الرؤيويين الحالمين المجانين على اليأس السلبي، بل “يجب”، على رغمها، أن يظلّوا يشهرون كلمتهم، كشهادة عقلية أو وجدانية، انطلاقاً من معايير التمرد والرفض والقرف والحدس والموهبة والثقافة والضمير العقلي والصدق والقيم التي يؤمنون بها. وبعد أن يفعلوا ذلك، بشجاعة نادرة، قد يعودون – ومن حقّهم، إذا أرادوا، أن يعودوا – إلى عزلاتهم الروحية، تاركين للكلمة أن تفعل فعلها – إذا فعلتْ – في الرأي العام، الذي أصبح إلى حدّ كبير هشّاً، قليل المناعة، شديد التأثر والانفعال، ومغسول الأدمغة، على يد هذه الجهة أو تلك.

قد يغيب عن بعض القرّاء عموماً، كما في لحظات قاسية ومصيرية كهذه، أن الكاتب الحرّ “يجب” أن يكون مزعجاً، كشّافاً للفضائح والجرائم، مُقِضّاً المضاجع، استفزازياً، ونكّاء أكاذيب، لكنْ بتهيّب ومعرفة وتعقّل ونبل وكبرياء وشرف وكرامة، وبعدم تربّص أو كيدية. هو “يجب” أن لا يُرضي أحداً. وأن لا يكذب على أحد. خصوصاً على ذاته وقارئه. ليس المطلوب من هذا الكاتب بالذات أن يكون “تقيّاً”، “مهذّباً” (كي لا أقول متخبثناً)، فيساير، ويُداري، وتكون كتاباته ضربةً على الحافر وضربةً على المسمار، ورِجلاً في البور وأخرى في الفلاحة.

يعرف القرّاء من خلال تواصلهم مع هذا المختبر، أن لا مكان فيه للمفاصل الرخوة، بل للأقواس النشّابة، وخصوصاً عندما تدعو الحاجة إلى ذلك. ولا مكان فيه أيضاً للاجترار التاريخي والثقافي والأدبي والفني، بل طموحٌ جارف وشبِق إلى اجتراح الاحتمالات الكتابية الخلاّقة.

ثمة في بلادنا، وفي دنيا العروبة كلها، على غالبية الشاشات المتوالدة كالفطر، وفي عدد وفير من الصحف والمجلات والإذاعات، كما على الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي، الكثير الكثير من روّاد الكتابة الصفراء، و”القوّادين”، المتخصصين تماماً وحصراً بكيفيات تحريض الرأي العام، وإيغار صدره، وتأليبه، بعضه ضد بعضه الآخر، وتأجيج نقاط ضعفه ووجعه، واستنهاض غرائزه، واستثارة صغائره، والذهاب به إلى الأتون الجهنمي.

بين الثورات الشريفة، واحتمالات الهجوم الغربي على سوريا، والانقلابات والانقلابات المضادة، وحروب المتفجرات، وحروب الفتن، وحروب المذاهب والطوائف، وحروب السنّة والشيعة، وحروب الديكتاتوريات الأمنية والسياسية، وحروب الديكتاتوريات الظلامية والدينية، وحروب المآزق الكيانية، وحروب المصالح الدولية، ثمة شعوب لا تزال تبحث عن حريتها، على رغم الأحلام الثخينة المجهضة، وثمة… كتّاب أحرار يشهدون، ويدلون بشهاداتهم، أياً تكن موجبات هذه الشهادات، ومسؤوليتها التاريخية. هؤلاء قد يكونون متشائمين، ومزعجين، وقساة، وأجلافاً، ويائسين. لكن هؤلاء صادقون ورؤيويون و… أحرار. ويريدون أن يستمروا كذلك. هذا خيارهم، وهذا قرارهم.

على القرّاء أن يختاروا بأنفسهم ماذا يريدون، حيال ما يواجه مصائرهم. هل يريدون أن يكونوا قطعاناً في أنظمتهم وطوائفهم ومذاهبهم وميليشياتهم و… تلفزيوناتهم وجرائدهم و”فايسبوكاتهم”؟ هل يريدون الولوغ في الكذبة؟ في التمويه؟ في الهرب؟ في التخدير؟ في النسيان؟ أم يريدون أن يعوا مصائرهم، ويمسكوها بأيديهم؟ جواباً عن المسألة المطروحة أعلاه: نعم، يحقّ لنا – بل “يجب” علينا – كمختبر لثقافة التفكير النقدي الحرّ، أن نكون مزعجين، استفزازيين، مُقِضّي مضاجع، نكّائي أكاذيب، موضوعيين بقسوة، أو متشائمين بفجاجة، وأن تكون آراؤنا الشخصية متجرئة و”وقحة”، وأن نأخذ بأبحاث التوثيق الدقيق، وشهادات الصدق العاري، وتجلياته، المضرَّجة واليائسة أحياناً، لكن من دون أن نصير أسرى سلبيين للواقع، أو أن نرضخ لسلطانه الغاشم.

في غمرة ما يواجه مصائرنا من تحديات كيانية واحتمالات قيامية، وحيال القسوات الهمجية التي تسرق منا الحرية والثورة والعقل النقدي والحبّ والفرح والحياة، نداؤنا الملحاح إلى اللبنانيين أن يعوا الخطر البنيوي المحدق بكيانهم الوطني، وخصوصاً في ضوء ما يجري في سوريا، ضدّ شعبها وثورتها وكينونتها الوطنية.

خيارنا ككتّاب أن يظلّ هذا المختبر الكلاميّ يشهد للحريات الفكرية والثقافية والسياسية، وأن يظلّ يفسح ليأس الأوجاع والأحلام المستحيلة، وأن يظلّ يخترع من الوهم حقائق فردية خلاّقة. ليس عندنا ما “نبيعه” للقرّاء سوى الحرية. خيارنا أن يظلّ قرّاؤنا يرحبون قلوباً وعقولاً بـ”وقاحة” هذه الحرية.

هذه هي كلمتنا.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى