صطيف .. كازوزة وصورة الرفيق الخالد حافظ الأسد
* خالد المحاميد
في حارتنا واحد أهبل اسمه صطيف وهو اسم مختصر لمصطفى ، أينما ذهبت في الحارة تجده أمامك ، في الفرن أمامك، في البقالة أمامك، عند الحلاق أمامك ، حتى كدت ارتاب بأنه جني.
صطيف كان يضع صورة الرفيق الخالد حافظ الأسد، على صدره ، لا لشيء، بل لأنه يجهل من يكون هذا الرفيق الخالد، فكانت صورته معلقة على صدره في الثوب نفسه الذي ينام فيه ويخرج فيه ويستحم فيه ،لأن صطيف لم يكن يعجبه الاستحمام بالحمام تحت الدوش، بل يدخل أي بيت بدون إحم ولا دستور ويذهب إلى اقرب حنفية، فيسكب على رأسه كمية من الماء تكفي لسقاية بستان ،وبينما النساء يتجمعن على النوافذ لرؤية هذا المخلوق الذي لا يعبأ بأحد ، يقوم هو دون اكتراث بخلع ثوبه الوحيد فيظهر عاريا ” ربي كما خلقتني ” النساء يهربن مولولات، والأولاد يبدؤون بالصراخ، ولاه صطيف البس ثوبك ، لكن صطيف لا يعرف لماذا عليه أن يلبس ثوبه قبل أن يقوم بعصره مرتين وثلاثة ، فهو على عكسنا لا يرى في عريه أي عيب، بل أنه كثيرا ما رأى بعض النساء متسمرات مندهشات عند النافذة، يتطلعن إلى مابين فخذيه دون أن يعني له ذلك شيئا .
يعيش صطيف على بركة الله ، ما أن يشتم رائحة طبخة لذيذة في أحد البيوت حتى يدخل ويأمر ربة المنزل كما لو انه زوجها أن تضع له الغداء ، يدخل البقالة ويتناول أفضل فاكهة ويخرج، كما لو انه في بيت والديه ، يتوقف في الشارع ويبول فيضطر سائقي السيارات إلى التوقف بانتظار أن ينتهي صطيف من التبول ، وللحقيقة كان بعض الغلاظ ينزلون ويضربونه حتى يبتعد عن الطريق .
لا يمكن وصف صطيف بالكرم لأنه لا يملك شيئا يكرم فيه ، ولكنك يمكن أن تأخذ منه أي شيء يملكه بما فيه ثوبه ،والشيء الوحيد الذي لا يستغني عنه صطيف هي الميدالية التي يعلقها على صدره وعليها صورة الزعيم الخالد حافظ الأسد .
في الأيام الأولى للثورة كان صطيف مرافقا دائما للمتظاهرين ، تجده دائما في كل مظاهرة ، والسبب بسيط ، ففي المظاهرات يتوفر أحيانا الخبز والجبن وأهم شيئ الألسي كولا ، في البداية حاول بعض الشباب أن ينزعوا صورة الرفيق الخالد عن صدره ، فجن جنون صطيف، فأخذ يصرخ ويضرب شمالا ويمينا، يعض ويرفس وكأنه يدافع عن أغلى كنوزه ، وعندها تدخل بعض المتظاهرين طالبا من الشبان أن يتركوه وشأنه لأنه أبله ، وهكذا صار صطيف الوحيد في سوريا الذي بإمكانه أن يتظاهر ضد سلطة آل الأسد وهو يضع صورة حافظ الأسد على صدره.
تعود حكاية الصورة إلى حادثة طريفة ، فقد قام أهالي مدينة درعا بحملة تشجير، حين توقف الله عن إرسال المطر لثلاث سنوات متتالية ، فضج الناس من شح المياه ، وحينها تفتقت عبقرية النظام عن برنامج لغرس المزيد من الأشجار ، ويومها أظهر صطيف حكمته النادرة ، فكان كلما رأى غرسة اقتلعها ورما بها بقدر ما يستطيع ، فيأتي آخرون ويزرعون في المكان نفسه ، حتى تنبه أبو صالح محمود الحمد، وصاح يا ناس صرنا زارعين هذا المكان ثلاث مرات ، علي الطلاق إني زرعت هنا قبل هذه المرة مرتين ، وهكذا تتبع المرشدون مصدر التخريب ليصلوا إلى صطيف الذي كان يأكل سندويشة فلافل جالسا على الرصيف أمام دكان عقلة فساقوه معهم لأنه لم يكن لديهم وقت، فقد كان اليوم الأخير في البرنامج وعليهم أن يقابلوا المحافظ لسماع خطبته احتفالا بانتهاء البرنامج ، ولأن أحدا لم يكن لديه الوقت ليتحمل مسؤولية دفع صطيف للمساءلة، لأنه مشغول بما سيحصل عليه من إشادة من المحافظ فقد تركوه معهم وكأنه واحدا منهم .
جاء المحافظ وألقى كلمة بليغة أشاد فيها بالقائد والقيادة دون أن يذكر جهد من قاموا بغرس الأشجار ، وقام حرس المحافظ بتنظيم الحضور على شكل طابور ، وحين رفض صطيف أن يدخل في الطابور صرخ فيه العسكري صرخة مرعبة جعلته ينظم بلا تردد إلى الطابور فكان موقعه هو الثالث من بين المكرمين ، وأمام هيبة المحافظ وصرخات الجندي المرعبة، لم يتجرأ احد على الاعتراض في أن يكون صطيف من ضمن هؤلاء المكرمين ، وهكذا وضع المحافظ الهمام الميدالية وعليها صورة حافظ الأسد على صدر صطيف بين همهمة وتكتم ضحكات المشاركين ، ومن يومها اعتبر صطيف أن وجود الميدالية على صدره هو امتياز خاص تساوى فيه مع عقلاء البلد ، وهو شيء لا يتحصل عليه أي أبله في جميع بلاد العالم .
حين دخل جنود الفرقة الرابعة بدباباتهم إلى درعا في آذار من عام 2011 وجد صطيف أن العالم لم يعد كما كان من قبل فقد شعر بالفرح وهو يسمع هدير الدبابات ودوي إطلاق النار ، ويشاهد تراكض الناس من مكان إلى أخر خائفين مذعورين ، بينما هو لم يكمن يعبأ بأي شيء ، حتى حين واجهته دبابة بكل جبروتها وضخامتها كان يتجه إليها من دون اكتراث ، وهذا ما أدهش الضابط آمر الدبابة فطلب عدم إطلاق النار عليه ، لأن مثل هذا الفدائي الذي لا يهاب دبابة تي 72 بكامل تسليحها من الأفضل أسره وانتزاع الأسرار منه وتعذيبه حتى الموت .
ظل صطيف يمشي باتجاه الدبابة غير عابئ بشيء ، بينما سبطانة مدفع الدبابة يتحرك شمالا ويمينا على إيقاع خطواته ، حتى أن الرقيب المسؤول عن إطلاق النار، قال في نفسه ، يا إلهي ما هذه الشجاعة؟ لو كان عندنا ألف رجل مثل هذا، أما كنا نحرر فلسطين في يومين!!
حين وصل صطيف إلى مقدمة الدبابة ، تنبه الضابط إلى أن شيئا غير طبيعي يحدث ، فرفع غطاء الدبابة وأخرج رأسه بحذر ونظر في عيني صطيف متسائلا ” مين أنت ولاه ” وجاء الجواب سريعا من صطيف ” بدي كازوزة “
صاح الضابط متذمرا بعد أن أدرك الحقيقة ” ياربي نحنا في حالة حرب ويجي واحد بدو كازوزة ، ولاه انقلع من وجهي قبل ما أطخك هه ” لم يكترث صطيف لهذا التهديد الذي اعتبره نوع من السخافة ، فقال: طيب رغيف ، جن جنون الضابط فهو يتوقع أن يواجه مقاتلين إسلاميين مدربين كما قالت له قيادته ، وهاهو يواجه شابا أبله ، ودارت فكرة سريعة في رأسه ، حين نقتله من سيعرف إن كان عبقريا أو أبله ، سيكون واحدا من الإرهابيين ، حينها قال لأحد جنوده، ولاه هات الكلاشن ، لكن الجندي كان اذكي من معلمه ، فقال له سيدي شوف أنه يضع صورة الزعيم الخالد على صدره ، عندها فكر الضابط باستغلاله فأمر برفعه ليجلس مكشوفا على مقدمة الدبابة ، ودعا التلفزيون السوري ليلتقط مشاهدا لأنصار النظام وهم يستقبلون الدبابات ويضعون على صدورهم صورة الزعيم الخالد ، وهكذا هرع مصوروا التلفزيون إلى التقاط هذه المشاهد العظيمة، التي تؤكد وقوف الشعب إلى جانب القيادة ، ومن يومها صرنا نرى صطيف كل ساعة على شاشات التلفزيون السوري، وهو يجلس على مقدمة الدبابة وبيد كازوزة وعلى صدره صورة الزعيم الخالد
لكننا بعد انسحاب الدبابات من الشوارع بعد أربعة شهور من الانتفاضة، لم نعثر على صطيف ، لاحيا ولا ميتا ، قيل إن الضابط قتله بيده بعد تصويره، وقيل أنه دفن فيمن دفن في المقابر الجماعية، وقيل أن الضابط نفسه الذي أعطاه الكازوزة رماه أمام جنازير الدبابة فاختلط لحمه بإسفلت الشارع ولم يتبق منه شيئ ، قيل أشياء كثيرة عن اختفاء صطيف ، لكنه لا يزال حاضرا على شاشة التلفزيون السوري جالسا على مقدمة الدبابة وعلى صدره صورة القائد الخالد وبيده كازوزة، تأكيدا على أن الشعب يقف إلى جانب النظام .
الشبكة العربية العالمية