صعود يسار أميركا اللاتينية… وسقوطه/ سلامة كيلة
مع بداية القرن الحادي والعشرين الحالي، كان كل الحديث يجري عن نهوض اليسار من جديد، وزحفه لاستلام السلطة في بلدان عديدة في أميركا اللاتينية، وكان صندوق الاقتراع الطريق إلى ذلك، ما أظهر أن نمطاً جديداً من اليسار ينشأ، متجاوزاً طابع اليسار القديم الذي وصل إلى السلطة بـ”العنف”. وكان شعار رئيس فنزويلا الراحل، هوغو شافيز، يقول بتأسيس “اشتراكية القرن الواحد والعشرين”. لقد جرى تعميم تصور أن الاشتراكية تعود من جديد انطلاقاً من أميركا اللاتينية، خصوصاً بعد أن نجح يساريون في رئاسة عديد من دولها، من فنزويلا مع شافيز، إلى البرازيل مع الرئيس الأسبق، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، إلى الأرجنتين وتشيلي وبوليفيا وأورغواي والإكوادور، وكذلك المصالحة في كولومبيا مع اليسار المسلح، لتشكيل حكومة موحدة، وحتى في السلفادور ونيكاراغوا.
كانت هذه الصورة التي كانت تعني سيطرة شاملة لليسار في أميركا اللاتينية محل أمل لليسار العالمي بأنه عائد الى الحكم بـ”اشتراكية” جديدة، ديمقراطية وليست دكتاتورية كما الاشتراكية السابقة، و”حضارية” وليست “متوحشة”، و”مرنة” وليست “جذرية”، وتُراوح بين الاشتراكية القديمة والاشتراكية الديمقراطية، فقد وصلت إلى السلطة عبر الانتخابات، وحافظت على نظامٍ ديمقراطي. هي “اشتراكية القرن الواحد والعشرين” (كما أطلق عليها هوغو شافيز) التي مثلت الأمل ليسارٍ محبط بعد انهيار الاشتراكية. فقد أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى حالة واسعة من اليأس والارتداد والتشوّش، وكان بحاجة إلى الأمل، الأمل بإمكانية عودة الاشتراكية. لهذا، كان هذا الوصول الجارف، وعبر صناديق الاقتراع، وليس الثورة، هو ما أنعش الأمل، أمل فَرَض أن ترسم صورة “وهمية” لهذه الاشتراكية، بحيث تغطي على لحظة العجز التي حكمت ما بعد الانهيار. وربما تعيد التوازن الذي انهار مع انهيار الاشتراكية.
لهذا، جرى النظر إلى هذه التجارب من منظار “واسع”، لكي يغطي على لحظة الانهيار، ويعيد التوازن “النفسي”. بالتالي، جرت رؤية ما جرى بشكل خاطئ، ومن دون تدقيق أو فهم، أو عما تعبِّر. فهل أنها اشتراكية حقيقية أم أنها “اشتراكية” البورجوازية الصغيرة كما يقال (الناصرية مثلاً)؟
لا شك في أن مشهد شافيز المهيب، وهو يحمل كتاب “رأس المال”، حين التقى عديدين من يساريي العالم، يعطي الحجة بأن هذه الموجة تقوم على الماركسية، وبالتالي، فإن اشتراكية
“شهدت أميركا اللاتينية عملية نهب طويلة من الشركات الأميركية، تصاعدت، بعد سبعينيات القرن العشرين” القرن الحادي والعشرين حقيقية. وأن هذه الموجة الجارفة تعيد “الألق” إلى الماركسية والاشتراكية. هذا هو الوهم الذي كان يتغطى خلف الأمل، والذي كان نتاج الشعور بالعجز وسيادة اليأس. لهذا، لم يجرِ تقدير وضع هذه التجارب، والتحديد الصحيح لعلاقتها بالماركسية والاشتراكية، حيث كانت تبدو أنها، من طرفٍ، تعبّر عن السكان الأصليين المهمشين، وعن مجموعاتٍ مهمشه أكثر من أن تعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء (كما في فنزويلا والبرازيل وبوليفيا)، ومن طرف ثانٍ، تعبّر عن “اشتراكية ديمقراطية”، فرضت الأزمة المجتمعية وصولها إلى السلطة، لتعديل الوضع الاقتصادي (كما في الأرجنتين وتشيلي).
نشهد الآن نهاية هذه “الاشتراكية”، حيث خسرت في الأرجنتين وتشيلي، وكذلك في البرازيل وفنزويلا، وتراجعت في بوليفيا والأورغواي. والأوضح أنها عجزت عن تحقيق نقلةٍ نحو الاشتراكية، بل باتت تعاني من أزمةٍ كبيرة، هي التي فتحت على سقوطها. وبالتالي، لم تُظهر أنها اشتراكية، ولم تستطع الصمود وفق المعادلة التي أوصلتها إلى السلطة، أي الانتخابات. بهذا، نحن نشهد تلاشي “اشتراكية القرن الواحد والعشرين”، وتحولها إلى تجربة عابرة، وإلى أمل مقتول.
ربما كانت الهزيمة التي لحقت بالاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية قد فرضت “التعلُّق” بقشة، وبالتالي، تجاهل البحث في أسباب انتصار اليسار في أميركا اللاتينية، وطبيعة هذه الأحزاب التي تطرح، وهؤلاء الأفراد الذين يطرحون، الاشتراكية. وهل أن خططها وتصوراتها اشتراكية حقيقةً، وتحمل مشروعاً بديلاً؟ فقد سقط اليسار هناك، أو على طريق السقوط، وتلاشت التجربة التي أُظهِرت باعتبارها بديلاً عن اشتراكية منهارة، خصوصاً أنها وصلت إلى السلطة عبر الانتخابات. لكن، في ما عدا البرازيل التي وصل إلى السلطة فيها حزب هو حزب العمال، وربما نيكاراغوا التي عادت فيها الجبهة الساندينية إلى السلطة، وتشيلي التي حكم فيها الحزب الاشتراكي، فإن التجارب الأخرى قامت على أفراد، على شخصيةٍ محوريةٍ لديها طموح يساري. وحتى شافيز الذي أراد بناء حزب، فقد بنى حزباً أشبه بـ”الاتحاد الاشتراكي العربي”، بعد أن بات في السلطة، وحاول دمج أحزاب اليسار فيه، وهمّش الحزب الذي رفض ذلك (الحزب الشيوعي)، على الرغم من دعم الحزب له.
لماذا فشل اليسار؟
شهدت أميركا اللاتينية عملية نهب طويلة من الشركات الأميركية، تصاعدت، بعد سبعينيات القرن العشرين، وأدت إلى انهيار المعجزة البرازيلية في السبعينيات، وانهيار الأرجنتين أوائل الثمانينيات، وانهيار المعجزة المكسيكية في التسعينيات. حيث بُدئ بتعميم الليبرالية الجديدة في القارة، بعد انقلاب بينوشيه في تشيلي سنة 1973. لهذا، جاء القرن الجديد، والقارة تعاني من فقر شديد وتهميش وبطالة، فرضت انهيار الأرجنتين من جديد، لكنها فتحت على وصول اليسار إلى السلطة، عبر الانتخابات التي فرضت الأزمة الاقتصادية تحقيقها، بعد عهد دكتاتوري طويل. وهذا ما أوصل شافيز إلى السلطة في فنزويلا، وحزب العمال البرازيلي في البرازيل، وعاد الحزب البيروني في صيغةٍ يساريةٍ إلى السلطة في الأرجنتين، ونجح الحزب الاشتراكي في تشيلي، ووصلت شخصيات يسارية إلى السلطة في بوليفيا وأورغواي. وكان الطموح الذي أوصل كل هذه الأحزاب والشخصيات هو تجاوز الأزمة الاقتصادية وتحقيق العدالة للشعوب الأصلية والمهمشين.
ولقد حُملت هذه الأحزاب والشخصيات على أكتاف الشعوب الأصلية في بلدانٍ عديدة، منها
“كانت الأزمة الاقتصادية الناتجة عن اللبرلة، وتهميش الشعوب الأصلية، سبباً في انتصار اليسار في الانتخابات” فنزويلا وبوليفيا، والمهمشين في البرازيل. لكنها حُملت، في البلدان الأخرى، على ضوء الأزمة التي جاءت بها الليبرالية، والتي فرضت انهيار الدول، وإفقار الشعوب. بالتالي، كانت الأزمة الاقتصادية الناتجة عن اللبرلة وتهميش الشعوب الأصلية، سبباً في انتصار اليسار في الانتخابات، ومن ثم كان يجب أن تعيد الحكومات اليسارية الجديدة بناء الاقتصاد لمصلحة حل المشكلات المجتمعية، ولتجاوز الفقر والبطالة والتهميش. وكان يفترض ذلك جرأة في مواجهة الرأسمالية التي أسست، بترابطها مع الطغم المالية الأميركية، لهذه الأزمة، ولكل حالات البطالة والإفقار والتهميش التي عانت منها أميركا اللاتينية.
وقد تحقق تحسين كبير في وضع السكان الأصليين في فنزويلا وبوليفيا، والمهمّشين في البرازيل، وتحقق تحسينٌ في وضع الاقتصاد، واستقرار لأكثر من عقد. لكن، لم يتحقق ما يحاصر البرجوازية ويضعفها، بل استفادت من الوضع الجديد، ولم يتحقق تغيير جدّي في بنية الاقتصاد، بما يفرض السير نحو الاشتراكية. بل إنها عادت لتنشط ضد النظام، وعملت على إحداث الأزمات له، وتوصلت إلى العودة إلى السلطة ديمقراطياً في عدد من البلدان، وبدأت هجوماً مضاداً في بلدان أخرى، مثل فنزويلا، بعد أن هيمنت على البرلمان، وعزلت رئيسة البرازيل. وبالتالي، تسير الأمور نحو إعادة سيطرة للبرجوازية المترابطة مع الطغم الإمبريالية الأميركية.
لماذا؟ بالضبط، لأن اليسار لم يقم بخطواتٍ جذرية لتطوير الاقتصاد عبر التشريك، واكتفى بإصلاح وضع السكان الأصليين والمهمشين (وهي خطوة كبيرة، لكنها ليست كافية)، وبالتالي، أبقى الاقتصاد رأسمالياً مع تدخل للدولة، لتحسين وضع تلك الفئات. لكن الأخطر يتمثل في أن هذا اليسار في بلدان عديدة، ربما باستثناء فنزويلا، استمر في سياسة اللبرلة والخصخصة. هذا ما ظهر في البرازيل، حيث قام حزب العمال البرازيلي بخصخصة مجمل الاقتصاد، ما كان يعزّز من قوة البرجوازية، ويُضعف الحزب شعبياً، وهو الوضع الذي سمح بـ”الانقلاب” عبر عزل الرئيسة “قانونياً”. وهو ما يحدث في فنزويلا، حيث سيطرت البرجوازية على البرلمان، وتسعى إلى عزل الرئيس مادورو. وقد ظل اليسار الحاكم في تشيلي والأرجنتين يسيران وفق السياسة الليبرالية نفسها، على الرغم من أنها كانت في أساس سقوط اليمين ونجاح هذا اليسار.
بالتالي، يمكن التأكيد أن هذا اليسار كان يعبّر عن فئاتٍ مهمشة، كانت تريد تحسين وضعها، ولم يكن تعبيراً عن يسار حقيقي، واشتراكي جذري يريد تجاوز الرأسمالية. وقد فرضت الأزمة الاقتصادية وصولها إلى السلطة على أساس أنها “اشتراكية”، لكنها حاولت تحسين وضع الفئات التي تعبّر عنها فقط، ومن ثم انخرطت في اللبرلة من جديد. ولأن التوفيق بين تحسين وضع تلك الفئات واللبرلة مستحيل، كانت اللبرلة تتهيأ لأن تعود البرجوازية الليبرالية والتابعة إلى السلطة، فقد خسر هذا اليسار دعمه الشعبي، في وقتٍ عزّزت البرجوازية من وضعها الاقتصادي، ما سمح لها بأن تعود إلى السلطة، ومن خلال الانتخابات كذلك.
هذه هي حدود هذا اليسار الذي أصبح “المثال” ليسارٍ كان يموت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وهو يجده الآن ينهار في إطار اللعبة الديمقراطية نفسها التي جاءت به إلى السلطة، فقد عبّر عن فئات وسطى، تسعى إلى تحسين وضعها، على الرغم من أن أحزاباً وشخصياتٍ عديدة وصلت إلى السلطة كانت تنتمي للماركسية. ولا شك في أن فشل الحروب المسلحة التي خاضتها أحزاب ماركسية (ماوية في الغالب)، أو دخولها في حالة استعصاء، كما حدث في كولومبيا وبيرو والسلفادور، وهزيمتها ثم عودتها إلى السلطة في نيكاراغوا، كان يؤسس لتحوّل “يميني”، وليس إلى تصويب آليات الصراع، كان يتلاقى مع أزمة مجتمعية فرضت أن يصل إلى السلطة كل هؤلاء. لكن كان برنامجها قد تراجع من التغيير الجذري إلى تحسين الوضع الاقتصادي، ووضع فئاتٍ مجتمعية، ولم تعد تطرح مسألة تجاوز الرأسمالية حلاً جذرياً وحقيقياً للأزمة المجتمعية.
ربما يمكننا القول إن يسار أميركا اللاتينية الذي بدا، مع مطلع القرن الجديد، أنه البديل
“أوضاع شعوب أميركا اللاتينية بحاجة إلى حلّ جذري، بعد هيمنة اللبرلة وتحكّم الرأسمالية المافياوية، لكن هذا يحتاج يساراً جديداً” الاشتراكي الجديد، بعد انهيار الاشتراكية، والذي يعبّر عن “فهم روح العصر” عبر التزامه الوصول إلى السلطة عبر بوابة الانتخابات الديمقراطية، لم يكن سوى الصورة المقلوبة (وربما نقول المسخ) عن يسار “ثوري”، كان يريد الانتصار من خلال حربٍ ثوريةٍ، من أجل تحقيق الاشتراكية. وإذا كان اليسار القديم عاجزاً عن الانتصار عبر السلاح، فقد انتصر عبر الانتخابات، لكن بعد أن تخلى عن ثوريته، واقتنع بأن تجاوز الرأسمالية ليس ممكناً، وأن ما يمكن هو “تحقيق العدالة” التي خصت السكان الإصليين، والمهمشين، وهم فئة في المجتمع في كل بلدان أميركا اللاتينية، من دون تجاوز الرأسمالية أو الخروج من النمط الرأسمالي العالمي.
وبالتالي، إذا كانت الحرب الثورية (ربما كان غيفارا أول من بدأها بعد كوبا)، قد فشلت (بعكس ما حصل في كوبا، ربما لأن الثورة في كوبا كانت تمرداً مسلحاً وليست حرباً ثورية)، فقد فشل الطريق الديمقراطي كذلك. لم تعبّر الحرب الثورية عن طريق إلى التغيير، لأنها حصرت الصراع في الريف، وهمّشت دور الطبقات في المدينة (والعمال خصوصاً)، وبالتالي، ربما قادت، في بعض الدول، إلى السيطرة على جزء من البلد (كولومبيا وبيرو والسلفادور)، لكنها لم تستطع الهيمنة في المدن، ففشلت في هزيمة السلطة. وحين أتى اليسار إلى السلطة عبر الانتخابات، عمل على حلّ مشكلات الريف فقط، بالتالي، لم يحلّ مشكلات المجتمع. كما أن هدف الحرب الثورية كان تحقيق الاشتراكية في وضعٍ يحتاج إلى تحليل أدق، ورؤية تنطلق من مشكلات المجتمع، فقد بات هدف اليسار هو معالجة مشكلات فئة مجتمعية، هم السكان الأصليون والمهمشون، من دون كل المجتمع. في الحالين، كانت الرأسمالية قادرة على إفشال اليسار، والعودة الى السلطة.
لا شك في أن أوضاع شعوب أميركا اللاتينية بحاجة إلى حلّ جذري، بعد هيمنة اللبرلة وتحكّم الرأسمالية المافياوية، لكن هذا يحتاج يساراً جديداً، يستفيد من تجارب اليسار القائم، والذي يسير نحو الفشل.
العربي الجديد