صفحات غير مقروءة من ‘كتاب الرمل’ السوري
منصف الوهايبي
واقع سحري حقا هذا الذي تعيشه سورية منذ بداية الحراك الشعبي فيها. واقع أشبه بقصّة خورخي لويس بورخيس الشهيرة ‘كتاب الرّمل’، وهو كتاب له بداية ككلّ الكتب ولكن ليس له نهاية.. يتصفحه بطل القصّة ويصفه وصفا واقعيا حتى ليذهبنّ في الظن أننا نقرأ قصّة واقعية، على أنها واقعية شديدة الغرابة، فلا يكاد البطل يُنهي قراءة صفحة ذات رقم محدّد، ويغلق الكتاب حتّى يجد نفسه عاجزا عن العثور على تلك الصفحة ثانية. وهكذا دواليك والنتيجة هي هي.. فهو يقرأ ولكن دون أيّ إمكان لاستعادة ما قرأ، وكأنّ الكتابة مثلها مثل الصّوت محكومة هي أيضا بسرعة العطب والزوال.
ربّما كان من مقاصد الكاتب في هذه القصة غسل بصيرتنا من شريط الألفة الذي يحجب عنّا غرابة العالم الذي نعيشه فيه، فما نتوهّمه حكمة ونظاما قد لا يكون سوى عَمَاء وفوضى. وربما كان من مقاصده الإيحاء بلا نهائية المعرفة حيث لا شيء سوى الوقوف على تخوم الرعب والعدم والتلاشي. ولذلك كان ‘كتاب الرّمل’ كتابا بلا نهاية أو نوعا ممّا كان يسمّيه القدامى ‘علم الرّمل’، وهو بحث عن المجهولات أو فيها بخطوط تُخطّ على الرّمل وتمحى ثم تُعادُ.. على نحو ما كان يفعل شاعرنا الكبير المغمور ذو الرمة:
عشيّةَ ما لي حيلةٌ غير أنّني بلقط
الحصى والخطّ في الترْب مولعُ
أخطّ وأمحو الخط ثمّ اعيده بكفّيَ
والغربان في الـــدار وقّــــعُ
أما الذي قدح في ذاكرتي قصّة بورخيس، فهو هذا الواقع السوري’السحري’ الذي يلابس في غرابته عوالم الحلم والكابوس وما يخرج عن الواقع المألوف من رموز وأساطير نجدها فجأة تثور في مكامنها وتهبّ من رقادها وتطالب بحقّها في الحياة ثانية، في زمن ليس بزمنها. فقد رسم النظام تفاصيل قراءته هذه ‘الثورة’ في مشهد تلفزيوني في غاية البساطة.. بل في منتهى السذاجة والسخافة والاستخفاف بالعقول؛ فهو لا يقتلُ ولا يقتّل، وكأنّه كليل النفس، ناضب المعين، أو هو لم يُرزق حظا من خيال.. أوكأنّ البلاد خلت من جنودها وحماتها؛ وإنّما هي ‘الشبّيحة’ التي تفعل ذلك كلّه في وضح من نهار. ولقد زاد ذلك من غرابة المشهد مقارنة بما كانت عليه سورية قبل هذا الحراك: بلد ‘آمن’، تستطيع أن تتسكّع فيه أو تتجوّل دون خوف من شبّيحة أو من عصابة أو من قطاع طرق.
وقد كنت الصيفَ الماضي في طرطوس وجبال العلويّين ودمشق، ولم نر أيّ أثر لهذه ‘الشبّيحة’ ونحن نسهر إلى ساعة متأخرة من الليل. أمّا اليوم فيشتبه علـــــيك الشيء ونقيـــضه.. أليفه وغريبه، فهما يتداخلان ويطلاّن برأسين في اتجاهين ، فلا تميّز هذا من ذاك. وربّما سلّمت بأنك واقع لا محالة تحت كابوس مرعب، ثمّ أعقب هذا المشهد مشهدُ قتل الناس والتنكيل بهم.
وهل ثمّة هدف من هذه ‘الشبيحة’ ومن إثارة نعرات’طائفيّة’ لا أحد يلحظها في سورية حيث لا تفرّق بين سني وعلويّ ودرزي ومسيحي وفلسطيني وكردي..غير تهييج خلايا ‘الملل والنّحل’ الثاوية في بطون الكتب من مرجئة وخوارج ومعمّرية وخطابية وجناحية وظاهرية وقشرية.. وما إليها من طوائف الغلاة والنزعات العدمية؟ وربّما سلّمت أيضا بأن قاطع الطريق الذي يفصح عن هويته حالما يباغتك في مفترق مظلم، خير من السفاك الذي يأتيك في مسوح الرهبان ثم يرتكب جريمته وهو هادئ السّرب وادع النّفس!
رفع السوريّون شعارا يقتلنا نحن مثلما يقتلهم ‘صمتكم يقتلنا’.. فلا تكبيت ضمير ولا وخز ندم.. ونحن نرى ما نرى..وكنّا نأمل أن تبادر تونس ما بعد 14 كانون الثاني/يناير 2011 بإدانة هذا الصمت العربي المقرف.. لا صمت الأنظمة فهي والحق منسجمة مع سياساتها، وإنّما صمت شعوبنا ونخبها. وحسنا إذ استفاق العرب الذين يحضنون آبار النفط كما يحضن الطير بيضه، ويرخّمون عليها للتفريخ كما يرخّم، ويفقسونها كما يفقس؟! وعسى أن تدرك أنظمتهم أنّها لن تكون بمنأى عن هذا ‘الربيع العربي’ الزاحف بقوّة تسونامي.. وإنّ ‘اليوم’ لناظره قريب.
ودعك من أمريكا، فهذه الكلمات ‘تكبيت الضمير ووخز الندم’ كلمات وسخة في عرف السيد الامريكي ـ في ما قرأت ـ وأفكار شرّيرة فاسدة مخرّبة ترتبط بالمناورات والمعاملات المنحطة أو هي تتذرّع بها.
وليس ثمّة شيء يخشاه أهل أمريكا الشمالية مثل المناورات كما تقول الكاتبة والشاعرة الأمريكية أدريان ريتش ‘لأنّنا نحن الأمريكان ندرك على مستوى ما أنّنا ننتمي إلى نظام فارق في المناورة’.
تتابع ولا تزال صفحات من ‘كتاب الرّمل’ السوري وقبله العراقي.. وكلّ صفحة تنسخ سابقتها وتمحوها.. في بلد أنهكه الفساد والبطش ولم تنهكه الحرب، فلا أحد يفكّر في الجولان المحتلّ، وما تزال جراحه تدمى.. ولعلّ هذا ما يجعل أمريكا رغم تصريحات السيّدة كلينتون الرنانة، تفضّل بقاء النظام الحالي،لكن مع مسحة رتوش
وماكياج لابدّ منها،على نحو ما يفعلون بوجوهنا قبل أن نُدفع إلى البلاتوهات في
البرامج التلفزيونيّة: تلميع صورنا بالبودرة، ومسح حبّات العرق عن جباهنا، حتى نظهر بمظهر لائق.
كم أتمنّى لو يقرأ الرئيس أوباما(وهو من الرؤساء القرّاء) كلمات جوليا دي بورجوس : ‘كان جدّي عبدا. ذلك هو حزني. ولو كان سيّدا لكان ذلك عاري!’.. ولو قرأها حقا، واستوعبها حقا، لربما منح وجهه وعينيه وجلده رعشة الانسان الطبيعية، وأدرك كم هو قريب من هؤلاء الســـوريّين الذين احتجزهم نظامهم قبل أن يقفوا مدفوعين مصدودين على عتبة البيت الأبيض حيث يبدأ تقويم الزمن الأمريكي.. بله الزمن العالمي السوريين الذين تتلوّى أيديهم في درعا وحمص واللاذقية ومعرّة النعمان وحماة وحلب… أقواس دوائر أو في هيئة أجنحة تتلهّف للطيران.
فلربّما عقد مصالحة مع الشام وما يتبقّى من أشجارها ومنتزهاتها، بعد رحيل النظام، وهو راحل لا محالة. أليست الثقافة الأمريكية ‘ثقافة حقوق الانسان؟’ أليست هي التي تدعو الى احترام الكائنات الحيّة؟ والسوريّون ينتمون إلى هذه الكائنات على ما نظن.
قد لا يساورنا شكّ في أنّ أمريكا إله بقناع ‘إنسان’ يسيطر سيطرة تامة على كون صنعته الفيزياء والكيمياء والرياضيات (وقد يحظرها في مدارسنا وجامعاتنا فقد تفرّخ علماء صغارا يفرّخون بدورهم أسلحة دمار صغيرة لا يمكن العثور عليها أبدا) إله لا يستهان به أمريكا،، فهو خطة الكون ونظامه الذي يسوطُ الأجزاء ويسوسها حتى تنضوي للكلّ وتنصاع.. إله يقدّم لنا فرصة أن نتعلّم الديمقراطية ونتهجّاها حرفا.. حرفا.. جرْسا..جرْسا..بالانكليزية الأمريكية طبعا.. وربّما اضطررنا الى إجراء أكثر من عملية جراحية على حناجرنا المتعودة على الضّاد، وتفخيم الأصوات الرقيقة كأن تجعل الكاف قافا والتّاء طاء.. وذلك حتى ننطق بالديمقراطية كما ينطق بها إلهُنا الجديد.. والويل لنا إن نحن خرقنا إرادته، فأمريكا قادرة على أن تحيي العظام وهي رميم ..أمّا لماذا لا يأبه بها ولها النظام السوري،فذلك شأن أمريكيّ خاص.. وسرّ سوريّ خاصّ يطوي عليه ‘الحاكم بأمره’ صدره، وهو يتنزّه على ضفة النهر حيث لا يعكس الماء إلاّ صورة الحمار.. أغلق ‘كتاب الرّمل’ السوري. ثمّ أتذكّر أنّي نسيت جملا أخرى في صفحة بعينها.. أفتح الكتاب ثانية.. ولكن دون جدوى.. أتذكر فقط ما رواه لي شاعر عراقيّ من أن جدّته كانت أعزّ أصدقاء، طفولته، منذ أن حاولا معا إنقاذ السندباد من الجزيرة المهجورة.. وأنه استيقظ صارخا عندما حلم بموت أمّه.. كما صرخ عندما انسربت بالونته من بين أصابعه وطارت بعيدا.. ذات صباح جمعة.. قد لا نحتاج نحن الذين يقتلنا صمتنا، حتى ندرك حقيقة ما يقع في سورية، إلى أكثر من البراهين العمياء.. براهين حواسّنا.. وقد آن لنا نحن الذين يخزينا صمتنا أن يستيقظ شيء ما فينا وفي ركام تشابيهنا واستعاراتنا وأن يغسل ظلال الليل الذي يحفّنا.
في تونس، كان انتحار البوعزيزي، القشة التي قصمت ظهر النظام.. أما في سورية فلم يبق للشعب السوري من خيار سوى الانتحار الجماعي، حتى يتحرّر منه النظام الذي سيجد نفسه ـ إذا واصل قتل الناس وتقتيلهم ـ بلا شعب يحكمه.
‘ شاعر واكاديمي من تونس
القدس العربي