صفقات تكشفها حقائق/ حنا صالح
طيلة أيام والعالم يتابع رحلة باصات «مدارس المهدي» في التيه السوري. باصات حملت بضع مئات من إرهابيي «داعش» وأسرهم، نتيجة لصفقة أبرمها «حزب الله» وقضت بنقل الإرهابيين من الجرود الشرقية للبنان والقلمون السوري إلى دير الزور. وفي الصحراء أوقف الطيران الأميركي القافلة مكتفياً بقصف الطرق ومنع التقدم باتجاه الحدود مع العراق، فيما بدا رسالة تضع حدوداً أمام عربدة النظام السوري وحاضنته الإيرانية، وتفضح السكوت الروسي عن الصفقة – الفضيحة.
والتبرير من الأميركيين للاكتفاء بالحصار بوجود عائلات في القافلة، تبرير مردود؛ لأن الإمكانية كانت متوفرة لتنفيذ عملية بسيطة من الجو لأخذ الإرهابيين، بما كان سيكشف أبعاد الصفقة وأسرارها، وحجم التعاون بين الإرهابيين والنظام السوري والميليشيات التي تدعمه، وربما كان أهالي العسكريين اللبنانيين ومعهم كل اللبنانيين، اطلعوا على بعض ما جرى في الجرود طيلة السنوات الماضية، ومن وراء تلك التهديدات للبنان، بعدما حال انحناء السلطة اللبنانية أمام «حزب الله» دون معرفة الحقيقة عما جرى، وهذه الحقيقة كانت وحدها ستحمل بعض التعويض عن الدماء الذكية التي سُفكت.
المشهد سريالي؛ حفنة من إرهابيي «داعش» في حماية النظام السوري و«حزب الله»، الذي فاجأ كل الأوساط بإطلاق حالة من الهلع «الإنساني»؛ محملاً المجتمع الدولي المسؤولية عن وجود أطفال ونساء وحوامل يعانون نقصاً في الماء والغذاء. وتباكت طهران فطرحت الصوت معلنة أن «محاصرة الطائرات للقافلة قد تتسبب بكارثة إنسانية، وتساعد على انتشار العنف في المنطقة»، وأنه «على الأمم المتحدة التدخل للحيلولة دون مجزرة».
ومع الانشغال بالقافلة المحاصرة بحرِّ الصحراء واكتفاء الأميركيين بالتهديد، استعيدت الصور عن حصار حي الوعر وحلب والغوطة والزبداني ومضايا، عندما تمّ حرمان الملايين من حبة الدواء وكسرة الخبز وجرعة ماء. عندما اقتات الأطفال لحاء الأشجار، ولحوم حيوانات نافقة، ولم يلتفت لهم العالم، بل تُركوا لمصيرهم، يلاحقهم القتل أو التهجير والاقتلاع عن مدنهم وقراهم وكل حياتهم، وكلما كان الصوت يرتفع بالدعوة لحدٍ أدنى من الحماية للمدنيين، كان الجواب جاهزاً: كلهم من الجماعات الإرهابية!!.
الصفقة بين «حزب الله» و«داعش» واحدة من صفحات الكوميديا السوداء التي أماطت اللثام مرة جديدة، عن مرحلة طويلة بدأت بالمتاجرة بالقضية الفلسطينية، وصولاً لهذه الصورة للوضع في سوريا، حيث الاقتلاع والتهجير واللجوء طال أكثرية السوريين المتهمين بالإرهاب، والحماية كانت من نصيب إرهابيي «النصرة» و«داعش»، بعدما تكرر التقاء مصالح الجهتين، وكلتاهما كان تعاونهما استراتيجياً في العمل على تصفية «الجيش الحر» وسائر الفصائل السورية المعتدلة، وتمكين محور «الممانعة» من استعادة السيطرة على أكثر المناطق التي أخرجها التظاهر السلمي من تحت القبضة الديكتاتورية.
وجود «داعش» و«النصرة» وأضرابهما، كان ضرورة لجهات كثيرة إقليمية ودولية تغولت في الوضع السوري. إيران في مقدمة هذه الجهات، وهي وضعت استراتيجية الاستفادة من التنظيمات الإرهابية التي تدعي الدفاع عن السنة (…)، استراتيجية قديمة بدأت علانية مع استضافة طهران زعماء «القاعدة» وكوادرها بعد سقوط كابل، وبعد تصفية بن لادن، وجدنا جريدة لبنانية مقربة من «محور المقاومة» ترثي هذا الإرهابي تحت عنوان «وردة على بحر العرب»، وبالأمس بعد صفقة خروج إرهابيي «النصرة» من جرود عرسال غانمين، أتحفتنا الجريدة إيّاها بالإشادة بحياة نضالية ميّزت تاريخ أبو مالك التلة (…) استراتيجية طورها الثنائي بشار والمالكي، فأطلق الأول من سجونه أبرز القيادات الإرهابية، وأبرزهم الذين عرفوا بـ«أصدقاء صيدنايا»، وأطلق المالكي الألوف، وتدفقوا من كلِّ حدبٍ وصوب، وكانت تلك الوسيلة لتخيير بلدان العالم بين نظام بشار أو هذه الجماعات، ومن تردد ناله بعض بطشها: عبوات متفجرة، وهجمات بالأسلحة النارية وبالسلاح الأبيض على المدنيين، وعمليات دهس مريعة بالشاحنات في الأماكن السياحية و… و… وشهد العالم أعنف انقلاب بصري عن هذا التوحش، حيث أصاب جبروت القتل الناس بالذهول!!
إنها الكارثة تلف المشرق العربي وتهدد كل المنطقة، وهي ما تفاقمت إلا نتيجة طبيعية لديكتاتوريات سوداء، استسلمت للطامحين وراهنت عليهم لقمع شعوبها، فشطبت تاريخاً وحضارة ومزقت عمداً نسيجاً بشرياً عاش مئات السنين، فبتنا، مع الترويج لبقاء الحكم الديكتاتوري، نشهدُ ملامح واقع جديد حيث في كثير من العواصم يتمُّ رسم خرائط النفوذ والوجود الخارجي، لا سيما ما تسعى إليه طهران من مدِّ السيطرة الفارسية، وتسعى إليه إسرائيل من تأبيد للاحتلال والنفوذ، وتفوز روسيا الحالمة باستعادة أمجاد القياصرة باعتراف أميركي بالنفوذ، واستعادة بعض دورها في الوضع الدولي، ويبقى لواشنطن أن تضع الخطوط الحمراء من عدمها.
بشكل سريع تنهار قوى الإرهاب، ويتمُّ طي صفحة سوداء، لكن السواد في كلِّ هذا الموت واللجوء باق مقيم ويتمدد، ما بقيت الديكتاتوريات والحكم الأحادي، والتغيب المتعمد للديمقراطية والمحاسبة، وما بقي القمع الذي تتناسل معه كل فترة مظلومية جديدة، يكفي مثال لبنان اليوم الأشبه بطائرة مخطوفة، حيث يعبّر الناس، الذين ابتهجوا بجيشهم في حرب الجرود وشعروا بالأمان، عن غصة حيال الصفقة المريبة بإخراج الإرهابيين دون حساب، وحزن كبير لأن منع الجيش من انتصار كان ممكناً إنما شكل تراجعاً لمصلحة ميليشيا مسلحة. وفي بلد يُحكم من خارج الدستور لا بد من كثير من التبصر عندما يتلمسُ أي مواطن حالة نشوة لا مثيل لها عند «حزب الله» وجمهوره، يقابلها احتقان لم يعرفه قبلاً الوسط السني، وقلق كالنار في الهشيم يسود الوسط المسيحي، وتململ أُفقي وعمودي في الوسط الدرزي، رفضاً لنهج الانسحاب العام.
الشرق الأوسط