“صلاة البحر”..رواية الأفغاني خالد الحسيني عن الطفل السوري إيلان/ سناء عبد العزيز
أحدثت الصورة المروعة لجثة الطفل إيلان السوري رد فعل عالميا ضخما، حين جرفتها مياه البحر إلى شاطئ بودروم جنوب غرب تركيا منذ عامين، وهم يفرون من الجحيم الذي اندلع في سورية تحت مسمى الحرب الأهلية. وأصبح الجسد الممدد على بطنه رمزًا مأساويًا لا لدولة بعينها؛ بل لكل لاجئي العالم. وأشارت أصابع الاتهام بقوة إلى بعض الدول ومنها كندا، إلى الحد الذي دفع ببعضها إلى التصريح بفتح أبوابها للهاربين من تلك المهازل البشرية؛ انطلاقًا من مسؤولياتها الأخلاقية.
إنها الصورة المفزعة التي منها استوحى الكاتب الأفغاني المهاجر خالد حسيني عمله الأخير “صلاة البحر”، ومُثلت بتقنية الواقع الافتراضي بالتعاون مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وصحيفة الغارديان البريطانية والقائمين على موقع غوغل. والصلاة هي بمثابة رسالة يقرؤها أب عبر مونولوغ طويل فلم يعد هناك من يحاوره، حتى هذا الطفل النائم هانئا مغمض العينين في حضنه، لن يسمع الرسالة.
في عكس اتجاه عقارب الساعة
في الفيلم الأميركي الدرامي الحالة المحيرة لبنجامين بتن The Curious Case of Benjamin Button لمخرجه ديفيد فينشر، تحكي ديزي العجوز لابنتها وهي على فراش الموت قصة صانع ساعات أعمى اسمه غاتو، أوكلت له صناعة ساعة محطة قطار نيو أورلينز، بعد أن جاءه نبأ مقتل ابنه في الحرب العالمية الأولى، أكمل غاتو عمله في صناعة الساعة لكنه صممها عمدًا لتدور بالعكس؛ عسى أن ترجع بالزمن ليعود قتلى الحرب. لقد أراد الرجل “صانع الساعات” أن يورطنا معه في اللحظة ما دام افتقدها للأبد، وما دمنا لا نشعر بتلك الجمرة المشتعلة فوق قلب أب فقد ابنه، عبر إجبار عقارب الساعة على العودة للوراء. وهي الثيمة التي نجدها في كل أعمال حسيني منذ روايته الأولى “سباق الطائرة الورقية” المكتنزة بالتفاصيل الإنسانية لرصد مقتطفات مفصلية من تاريخ بلده أفغانستان ومعاناة الشعب الأفغاني، قبل سقوط الملكية بقليل وقيام الجمهورية والاحتلال السوفييتي حتى عام 2001، قدمها لنا من خلال قصة صبيين؛ أمير الفتى الباشتوني الذي يلعب دور الراوي وصديقه المقرب حسان، وقد أثارت الرواية في بعض أجزائها جدلاً واسعًا في أفغانستان. تقول الكاتبة إيزابيل الليندي “كل المواضيع المهمة في الحياة هي تركيبة هذه الرواية الاستثنائية: الحب، الشرف، الذنب، الخوف، التوبة. هذه الرواية من القوة لحد أنه لوقت طويل سيبدو كل ما قرأته سطحيًا”.
وبنفس ثيمة التداعي جاءت روايته الثانية “ألف شمس مشرقة” في عام 2007. التي تصدرت بدورها المبيعات لفترة أطول من سابقتها، ولكنه بدأ العمل مع المفوضية قبل روايته الثالثة والأخيرة، “ورددت الجبال الصدى” عام 2013، وهي التجربة التي غيرته ككاتب حسب تصريحه للغارديان.
يقول حسيني: “إن ما فكرت فيه، عندما رأيت الصورة، هو كل عمل غير مرئي يدخل في تربية الطفل”. مخاوفنا وقلقنا الدائم حياله، حرصنا البالغ على توفير متطلباته عبر مراحل نموه، التأكد من تغذيته بشكل صحيح، جرعات تطعيمه، ملابسه، نومه، تزويده بكل ما يحتاجه من فيتامينات، قلقنا الدائم حيال رفاهيته. وبعد أن نفعل كل هذا نرى الشخص الذي أغدقنا عليه كل هذا الحب وكل تلك المشاعر، جسدًا مقلوبًا على وجهه على شاطئ …”.
هكذا يعود حسيني بتلك اللحظة الأخيرة التي التقطتها الكاميرا لجثة الطفل المنتفخة بالمياه إلى الوراء، في قصته “صلاة البحر”، مضيفًا أبعادًا إنسانية للمأساة من خلال طفولة الأب صاحب الرسالة الموجهة لطفله، إذ كان يتمدد آنذاك مع أعمامه، هانئا فوق سطح منزل جده في مزرعته الواقعة خارج مدينة حمص، يستيقظ على حفيف أشجار الزيتون وثغاء معزة جدته ممزوج بقرقعة أواني طهوها، وإذ تختفي الطائفية بوجهها البغيض فيتجاور المسجد والكنيسة، وحيث يوجد السوق الزاخر بالمصوغات الذهبية وثياب العرس، قبل أن يأتي الاحتجاج والحصار وتمطر السماء بالقذائف والجوع والجنائز وتتحول سورية الضاجة بالحياة إلى أفغانستان أخرى.
كلنا نبحث عن وطن
كان والد حسيني دبلوماسيًا أفغانيًا يعمل في باريس عندما غزت روسيا وطنه في عام 1979. وطلبت أسرته اللجوء إلى الولايات المتحدة، فوصلها في سن الخامسة عشرة، ولم يكن يعرف من الإنكليزية إلا القليل. وهناك أكمل دراسته في كلية الطب وبدأ مزاولة عمله كطبيب في ولاية كاليفورنيا. وفي نفس الوقت بدأ كتابة روايته الأولى “سباق الطائرة الورقية”، على أمل رسم صورة حية عبر تفاصيل موغلة في الإنسانية عما كانت عليه الحياة في وطنه.
يضيف الحسيني للغارديان: “كنت أتوقع أن يجد الكتاب صدى عند الأشخاص المهتمين بالمنطقة وربما المهتمين بأفغانستان على وجه التحديد، ولكني فوجئت بمدى الذيوع الذي حققه”. فقد تصدرت روايته الأولى قائمة الكتب الأكثر مبيعًا على مدى أربعة أسابيع محققة أصداءً واسعة، استثمرها حسيني سفير النوايا الحسنة لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين في خدمة هدفه، ألا وهو تسليط الضوء على معاناة النازحين من الأفغان والصوماليين والعراقيين والإريتريين والسوريين بعد أن تمزقت أوطانهم إلى أشلاء، منتظرين بزوغ الشمس بفارغ الصبر، وهم يحملون مصيبتهم إلى مكان آخر، وكلهم يبحث عن وطن.
وذكرت الغارديان “أن كاتبًا آخر حقق مثل هذا النجاح غير المتوقع (فقد باعت روايته “عدَّاء الطائرة الورقية” أكثر من 7 ملايين نسخة في الولايات المتحدة وحدها) قد ينغلق على نفسه بعيدًا عن العالم. لكن الحسيني، الهارب من جحيم الحرب، التزم بدلاً من ذلك بتوثيق حياة اللاجئين، على أمل أن تلفت كتابته انتباه العالم لمحنتهم. فالجميع يعلم أن هناك حربا، ولكن لا يرى وجهها البشع سوى هؤلاء الذين خبروا ويلاتها ويصبح من المتعذر عليهم التصرف حيالها بحيادية “إنها تخز وعيك” بمعنى ما، كانت مهمة الحسيني بأكملها ككاتب هي وخز وعي العالم الغربي.
“إنها أزمة إنسانية هائلة، يقول الحسيني، ومن المهم أن يعي العالم كله هذا الأمر. إنها مسؤوليتنا جميعًا، وأعتقد أن من المهم أن نقص الحكايات من الواقع لأن الناس لا تتفاعل عادة مع الأرقام والإحصائيات ولكنهم يتفاعلون مع القصص الإنسانية. مجرد زيارة هذا المخيم والجلوس مع بعض الأشخاص جعلني أكثر تفهمًا وقربًا من الوضع”.
من يقرأ أو يشاهد أعمال حسيني بدءًا من “عدَّاء الطائرة الورقية” وانتهاءً بـ”صلاة البحر”، سيصطدم لا محالة بتلك الشحنة العاطفية المزلزلة التي تثيرها لغته الشعرية وجملته المكثفة وهو يستدعي هذا التراكم لتفاصيل إنسانية من ذاكرته المضببة بدخان الحرب والصراع. إنها تشبه لوحة من الفسيفساء تتوالد فيها الحكايات من بعضها البعض وتتضام معا لتكوين مشهد مقلق ومخيف لما أصبحت بلادنا عليه. وفي “صلاة البحر” يضعنا حسيني أمام مفارقة مربكة، ما بين الإحساس بالجمال المطروح عبر سرد يتسم بثراء اللغة الشعرية وبين السخرية والعبث من أن يلبي البحر؛ فالأب ليس بمقدوره بكل ما يحمله من لهفة ورجاء أن يحمي ابنه من الغرق، ولم يعد بإمكانه سوى أن يفكر وهو نائم في حضنه كم هو عميق هذا البحر، وكم هو شاسع ومختلف، وكم هو عاجز عن حمايته منه، حيث لم يعد أمامه سوى تلك الصلاة.
ضفة ثالثة