صلاة الكرسي الألماني/ أحمد عمر
نصبه الزملاء بطلا، وهنؤوه في الاستراحة بين الحصتين مصافحين وهم يتوجسون خيفة.. موسى!
فقال لهم: هذه المعلمة نازية يا أقوام.. ومدّ يده إلى ظهره الموشوم بذكريات الكرسي الألماني وعناق الدولاب في معتقلات الوطن المعطاء .. اللغة هنا دين، والاكراه على اعتناق الدين مستمر لدي غير تنظيم الدولة الإسلامية مقنّعا!
جميع الطلاب يرهبونها، فهم نازحون من بلاد مدبوغة بملح الاشتراكية الصخري، ومنجّدة بمبرد الطغيان تنجيدا، حاملين معهم فيروس الخوف الذي يستمر سنين عددا من غير شفاء، اسمها السيدة شتايا، أي السيدة الثور.
إنها تذكّره بالبعث العربي الاشتراكي ودروس الفتوة، فهي قاسية، صارمة… الويل للذكور من بأس المرأة إذا حقدت. الطلاب وعددهم أربعة عشر طالبا وطالبة، من جنسيات مختلفة بولنديون وبلغار وأفغان وسوريون، ومعهم سيدة أمريكية متزوجة من ألماني، أرسل زوجته إلى المدرسة لتعلم القواعد والنحو والإعراب والدين الألماني، الجميع يلاحظون حظوة الطالبة الأمريكية لدى السيدة شتايا، ويحاولون أن يعرفوا أهي حظوة بلدها ومهابته، ومثابة هوليود والقنابل النووية، أم هي حظوة السيدة التي جاءت لتعلم الألمانية طوعا لا من أجل العيش ودينه غير الحنيف؟
هي شقراء في الثامنة والستين، لكن الكهول في ألمانيا يعاندون الزمن، ويحسبون أنهم مخلدون، وينكرون السن والسنين، سأل أقرانه من الطلاب الشباب اللاجئين في المدن المجاورة والبعيدة، فاستغربوا خبره، فمعلماتهم رقيقات لطيفات، جميلات، أرق من النسيم المصفى بالأشجار، يدعين إلى دينهن بالابتسامات. وأضافوا: أغلب المعلمات من جنسيات غير ألمانية ووافدة! السيدة الثور غاضبة من سياسة ميركل، ومذعورة من جيوش اللاجئين الاحتلالية التي اقتحمت البحار من غير عصا موسى، وهي تستعجل الطلاب تعلم اللغة الألمانية خوفا على صحة اليورو الاقتصادية، أو خوفا من حمّى الضرائب، حتى الآن لم تظهر أي علامة لوعكة اقتصادية من هجمة اللاجئين والنازحين من قارتي أفريقيا وآسيا على العملاق الالماني، فألمانيا ثالث أغنى دولة في العالم، بل هي الأولى إن تم تصنيفها تصنيفا جديدا يأخذ عدد السكان والمساحة بعين الاعتبار وأنف الرشد، لكن السيدة الثور مذعورة من اللاجئين وغاضبة من ميركل، وخالد السوري الخمسيني يهتف بصمت: أحدٌ أحدْ، وهو لا يستجيب لتكاليف الوظائف المدرسية وواجباته، تسأله ماذا تعرف يا سيد خالد من الألمانية غير التحية؟ فيقول النازح الأسير، إنه يعرف أن في الألمانية ألف كلمة عربية، والبرهان في كتاب زيغريد هونكه، بل هي أكثر من ألف… الفان ربما ثلاثة …
تقول مندهشة: العربية !! هات مثلا..
فيقول: تعريف، قهوة، سكر، يلقي، صراط، قحف.. فعل الكون .. الكيلو ، المتر..
تتفاجأ وتقلب شفتيها وقد بوغتت بكلمات عربية في لغتها غير مصدقة، فمن أين غزتها. الكيلو والمتر كلمتان عربيتان! يجمع النازحون والغرباء أن الألماني يتجنب الكلام بالانكليزية لعزة قومية في أنفه .. العزة لها اسم آخر هو العنصرية.. يا موسى.
يقول لها : أعرف أيضا الكرسي الألماني في السجون والمعتقلات السورية الذي صلبت عليه طويلا، وأن الألمان يجهلون أن ألمانيا ليس لها حق المنة على النازحين العرب، فهي الدولة التي حقنت فلسطين بمستوطنيها اليهود الألمان، وشردت أهلها، وهي صاحبة الفضل في ولادة دولة إسرائيل، وهذا النزوح من تداعيات مكرمة الهولوكوست…
يا موسى..
فتصمت شتايا، فقد اقترب خالد من الشجرة المحرمة…
قال لها: سيدة ثور، أنا ممزق، وطني يحترق، وأهلي مشتتون في قارات العالم، و عقلي وقلبي معهم، وتريدين مني أن أتعلم لغة ليس فيها سوى ثلاثة حروف هي الشين والفاء والراء! ويضيف.. تقريبا، أو كما يبدو لي.
قالت بصلافة: لا يهمني بلدك وأهلك .. ستتعلم رغما عن أنفك، أو عدّ إلى بلدك..
السيدة الثور مثل كل المعلمات تعبر بالحركة لترجمة المعاني العجماء، لكن قاموس الحركة أكثر عجمة و رسومها ضعيفة التعبير، المعلمات الألمانيات بارعات بالتمثيل، ومرده كثرة الوافدين إلى البلد بعد الحرب العالمية ونكباتها، فقد تتابعت موجات الوفود: الموجة الإيطالية ثم التركية، ثم السورية .. أحيانا ترقص أو تطرب فتهز خصرها، الكلام بالانكليزية ممنوع في صلاة الدرس المقدسة، هي تعدّه كفرا، لكن هذه الطريقة غير مجدية كما يرى خالد، لتكن الإنكليزية لغة وسيطة، وهي تريد تعليمهم مباشرة ، وتتكلم بسرعة، فيحتج خالد، ويطالبها بالإشارة أن تتحدث بروية وبطء حتى يلاحق المعاني الهاربة في كشكشة الكلام وفأفأته، فتصرخ: لن تطلب من الناس أو المذيعين أن يتكلموا ببطء غدا. ولكن أيتها السيدة الثور نحن في مدرسة تعليم لغة، ولسنا في الشارع، السيدة الشقراء عنيدة ودقة قديمة من العهد النازي، وإذا ما ذكر اليهود بكت: مساكين تعرضوا إلى مذابح جماعية، وهم موهوبون ونوابغ .. لسان حالها يقول : تعالوا نبكيهم.
وهي تتجنب الكتابة على اللوح، وتكلف دائما أحد الطلاب بالكتابة، تطلب منه جملة أو رسماً : تفضل يا خالد إلى اللوح، يرفض خالد الصلب على اللوح بعد أن أستقر على الكرسي مصلوبا، فتصرخ فيه: اخرج، فيهز رأسه بهدوء صارم. فتبهت وتباغت، فهذه مرة نادرة يبدي فيها طالب لاجئ غضبه الذي هنأه عليه زملاؤه الطلاب الشباب قبل قليل.
يحاول السيد خالد جاهدا مجتهدا أن ينخرط في الدرس، لكنه ينزلق إلى ذكرياته وآلامه على الكرسي الألماني القاسي الذي حكم سورية نصف قرن ، ويتذكر أن ولي العهد السوري الذهبي المهندس المظلي الطيار.. وخود نفس .. مات في مهمة مقدسة إلى المانيا، اللغة الألمانية صعبة، والبلاد العربية تضيق بالعرب، وظلم ذوي القرابة أشد مضاضة….. لكن قسوة السيدة الثورة تبلغ بها مراقي أخرى، فهي بحكم خبرتها الطويلة تعرف عقيدة المسلمين، وتخلص المعلمة الثور إلى الطالبة اليوغسلافية نجوى مارتا، جارة خالد في المقعد، نجيا، التي تباسطه الكلام، وتضع يدها أحيانا على كتفه أو فوق يده، أو فوق فخذه، فتنبهها: المسلمون قوم يتجنبون النساء الأجنبيات، وفيهم من يحرم مصافحة النساء، تبوح مارتا لخالد بالنجوى والتحذير: بنت الكلب .. الندلة، تريد حرمانه من فاكهة الدرس الوحيدة، لكن مارتا واليزا لا تلبثان أن تنسيا التحذير، وتتصرفا على السجية المرسلة الجديدة بعد الحرب العالمية في تحطيم سور العزل بين الجنسين.
تحل هدنة الاستراحة القصيرة في حرب الدرس وصلاته الخشنة، فتخرج السيدة الثور قطعتين من الخبز المنفوش بينهما شريحة لحمة، وتباشر الأكل أمام الطلاب، الطلاب الأوربيون بلغار ويوغسلاف يأكلون في الحصة وفي الهدنة أيضا! خالد لايزال يرى مشهد الأكل في الصف نافرا . من أمريكا، والصلاة فيها أشق ، أرسل له صاحبه السوري النازح هناك قائلا عبر رسائل الفيسبوك: في مدرستي يتبادل الطلاب الذكور سوى الطعام القبلات الحارة مع الزميلات الإناث!
عيد الأضحى يقترب، تهدد السيدة الثور الطلاب الأفغان والباكستانيين والسوريين وتحذرهم من الغياب عن الصلاة، فيتذكر السوريون أيام العمل الطوعي الإجبارية. هذه تهديدات فارغة، القوانين الألمانية معروفة، فلتبلط البحر، يغيب الجميع إلا خالدا. تستغرب السيدة الثور ذات المزاج القلاب،الذي تدهمه خسوفات مفاجئة ، وتنهض مرحبة به، وتقول: كيف تهنؤون بعضكم في العيد، فيأخذها بالأحضان ويقول هكذا: يا حجة.
تبتسم العجوز المتقلبة القلب، ويغمرها حنان طارئ: هل يمكن أن تصف لنا هذا العيد وتعرفنا به، وهو سؤال سألته كثيرا لطلابها المسلمين علها تحيط بعيد المسلمين الذي يسميه الباكستانيون عيد القربان ، علما..
سيدتي هذا عيد يأكل فيه المسلمون جميعا اللحم ببركة برِّ النبي اسماعيل بأبيه إبراهيم عليهما السلام، ذكرى لاتصال السماء بالأرض، لايزال المسلمون يأكلون من كبش الجنة اكثر من ثلاثة قرون .. ويحاول أن يبين لها أن هذا الغرب التقدمي الفاضل يحب أكل لحم البشر الأحياء فتخونه اللغة أو الشجاعة : تفضلي وهذه حصتك هديةً من النبي إسماعيل وأبيه عليهما السلام..
عن إذنك سأعود
ستعود إلى الاحتفال ؟
أي احتفال يا مولاتي.. أنا وحيد، أنا آخر الموهيكان .. لكن ظهري يؤلمني من هذا الكرسي ولا حائط يريحه سوى الأرض. ويشير إلى كرسي الصلب،إلى مقعده بجوار الحسناء مارتا ذات اليد الطرية وأصابع الملبن.
وقبل أن يعود إلى العيد، أو تخونه اللغة في استذكار قصة فتى اسمه إبراهيم جعل الأصنام جذاذا بفأسه، فأوقدوا له نارا عظيمة، وأن شعبا كسر صنما غربيا كبيرا مدللا فأوقدا له نارا ،ما تزال تحرق الشعب السوري الثائر، فيسكت .. ويقدم لها علبة فيها لحم معذَّب على النار تعذيبا بطيئا، ومحاط بزينة من الخضار الملونة، ومرفق بعدة أشكال من الحلويات والكعك ذكرى من الفردوس المفقود، المحترق… يا موسى.
المدن