صليب أوروبا وهلال أردوغان/ حمّود حمّود
افتتح مرة أوليفييه روا أحد كتبه المهمة بهذه الجملة: «إنّ تصادم الإسلام مع الغرب قديم بقدم الإسلام نفسه». هذه الجملة مهمة من ناحيتين، الأولى أنها تكشف استمرار بعض الغربيين في الانغماس بشعبوية فكرية في تناول الإسلام والغرب والتصادم الأبدي بينهما (على رغم أهمية روا في معظم ما قدمه)، والثانية تقول كم أنّ هذا التصادم على رغم مخياليته اللاتاريخية ينطلق من بعد اللحظة التاريخية التي يحيك بعضَ خيوطها اليوم شعبويو الغرب ومتطرفو الإسلام، السنّي منه والشيعي، بل هو مثقل بها. ليس من الصعب أبداً إدراك أنّ الرجل يحمل كتلتين ذهنيتين مغلقتين في عقله، الإسلام والغرب، ربما يُقيّم بهما ومن خلالهما أسباب معركة مؤتة مع أتباع بيزنطة ونتائجها (مع افتراض أنه سمع بالمعركة ولو مرةً واحدة) بالآليات الذهنية نفسها كما يُقيّم بهما الغزو الأميركي على العراق! وإذا كانت الحال هكذا، فسيكون ما بين مؤتة وما افتتحته لاحقاً من جهة، وما بين الغزو الأميركي للعراق، من جهة أخرى، رابطٌ خفي هو الذي يقود الجنون اليوم ما بين الصليب والهلال!
لا مناص، ربما، ونحن نقرأ ما أعلنته أصولية رجب طيب أردوغان لاحقاً من أنّ أوروبا بدأت «صداماً بين الصليب والهلال»، وأنّ الاتحاد الأوروبي يُطلق «حملة صليبية» ضد الإسلام، أنْ نتذكر حروب بوش الابن الصليبية. هل هناك ما يربط بين الاثنين في هذا السياق؟ بالطبع نعم، بل كل الروابط التي تتعلق بالمخيال والجنون. الاثنان يعبران عن سرديات مخيالية، كل منهما تستشف بالأخرى مرتعاً تمارس به أسطورتها. الغرب والإسلام وفقاً لهاتين النُظيمتين الشعبويتين كتلتان ذهنيتان تحمل فيها «الأسماء» (الأسماء فقط) قوى كاريزمية تدميرية، لكنْ أسطورية في بنيتها، لا تاريخية في مسارها، تعبّر عن تأزمات الأنا والآخر، أكثر مما تشير إلى قوى تاريخية وسياسية فاعلة على الأرض. الإسلام والغرب ما هما في مثل هذه الذهنيات سوى تمركزات ميثية يعاد فيها خلق الذاكرة الأسطورية لتُستخدم كسلاح في وجه الطرف الآخر.
عن أيّ هلال، عن أي صليب، نتحدث؟ هل لنا أنْ نتصور ماذا يفهم أردوغان من تعبير «حملة صليبية»؟ سواء كان الرجل أذكى من أنْ يعتقد أنّ أوروبا بمنعها الرموز الدينية، ومن بينها الحجاب، في الدوائر العامة للعمل يساوي إطلاق حملة صليبية، أم لا (يُقال إذ لو كان يحمل مثل هذه الترهات في عقله، فإنه لن يكون قد وصل إلى ما وصل إليه اليوم، وهو ما زال يقف إلى الآن في حكمه على أرضية أتاتوركية). حسناً، لكن سياسياً يُفهم منه أنه تعبير أيديولوجي يُعلّق عليه أردوغان زيّه النيو – عثماني، وهو يتخيل نفسه السلطان سليم الأول قد انتهى لتوه من معركة جالديران، ولا يهدف داخلياً سوى إلى دعم حملته الانتخابية المسعورة لكي يكمل الطباق على تركيا ويقتلع التراث العلماني الأتاتوركي، من جهة، واللعب على أوتار المسلمين بتمثيل نفسه أميراً للمؤمنين، من جهة أخرى (وبالفعل تُكمل خيوط المسرحية بإعلان القرضاوي في مجلسه الأعلى للعلماء المسلمين: «النظام الذي يدعو إليه أردوغان هو النظام الذي يتفق مع التعاليم الإسلامية، التي تجعل أمير المؤمنين أو الرئيس الأعلى هو الرقم 1 في السلطة»).
النقطة الثانية في هذا الإعلان النيو – عثماني تؤكد مرة أخرى أنّ الرجل، أردوغان، يعاني بالفعل من أزمة دينية، أزمة إسلام، وهي أزمة ورثها عن سلفه وإخوانه في الأصولية، عصبها الرئيس هو الغرب، الحداثة، المسيحية إلخ… فهذه التعابير الأخيرة ما هي سوى تمثيلات ترى الذات الأصولية فيها أنها كانت، وما زالت، العلة الأولى، لا في إسقاط «ظل الله على الأرض»، الخليفة فحسب، بل تمثيلات موجودة وجود الإسلام على الأرض، تحيط به من كل جانب، والصراع معها سماوي مفتوح. إنه وبسبب مخيالية مثل هذه الذهنيات، فإنّ الصليب لا يشير إلى الصليب، بل هو تعبير يمثّل سردية مخيالية يُكوّنها الأصولي وفق متطلباته الإحيائية ولحظته السياسية التي يعيشها إذا كانت أصوليته من النمط الثيو – بوليتيكي، كما هي حال أردوغان. هولندا ليست هي هولندا، بل هي «صورة» في ذهن أردوغان، صورة مدنسة، تنتمي إلى «مركب ذهني صليبي»، يسمى الاتحاد الأوروبي، ولا يمثل سوى استمرار لصورة «العدو الصليبي» (لكن لماذا يصارع أردوغان بكل تركيا للدخول في هذا المركب الصليبي الذي بدأ حملة ضد الإسلام، وهو اليوم لا تخلو خطبة من خطبه من شن حملة عليه أو على الغرب عموماً؟!).
والحال، أن مسمى أوروبا ذاته، تاريخياً، ما هو سوى مجرد اسم لم يستقر عليه الأوروبيون إلا بعد القرن الخامس عشر ليشير إلى قوالب جغرافية وتجمعات بشرية. قبل ذلك، لم تكن هناك أوروبا بالمعاني الهوياتية المستقرة عليه اليوم. فهذا الاسم احتاج إلى ما يقارب ثلاثة قرون حتى تشكل له هوية جامعة انبنت لاحقاً بعد الحروب الصليبية بفترة معتبرة (التي استمرت حتى القرن الخامس عشر، ولم تطاول شعوب المشرق الإسلامية فحسب، بل حتى شعوباً أوروبية اعتبرت خارج حظيرة الإيمان المسيحية). المؤرخون الغربيون يقرون بأنّ ما انتهت إليه هذه الحروب هي ما ساهم في منح اسم أوروبا وفي بناء «شعور مسيحي» جامع، لكن أيضاً الشعور الذي ترجرج مرة أخرى في ظل حداثة القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحروب أوائل العشرين. من المهم إدراك أنّ مثل هذه الهوية هي تعبيرات تحوّلية دينامية غير ثابتة ومستقرة. واليوم ما يحدث في الكثير من الدول الأوروبية يشير إلى مثل هذه التحولات. الإسلام أيضاً هو عبارة عن عمليات تاريخية، مسارات متوافقة بعض الأحيان، متناقضة في معظم الأحيان بين شعوب تحمل في مساراتها كل شيء يناقض أنْ يجمعها السيد أردوغان به في سلة اسم واحدة اسمها: الإسلام. تجاوز هذه الفواعل بكونها تمثل تواريخ سوسيولوجية متحولة، لا يعني السقوط في أفخاخ الأسماء فحسب، بل أيضاً استمراراً في النكوص بإكساب الغرب والإسلام بكونهما نُظيمات جغرافية لها استحقاقات ثقافية ثابتة، استحقاقات تحدها مقدسات ومدنسات تتجاوز التاريخ وتحكم بناها الداخلية باراديمات مثقلة بالهيجان والعداء للآخر.
مساواة أوروبا بالمسيحية، والحال هذه، ومساواة هذين بحملة صليبية، فقط لأنهما وقفا موقفاً نقدياً من خطواته الديكتاتورية، سيعني بالتالي توسيع «الجرح الإسلامي» المديد كما يتخيله الإسلاميون في عدائهم للغرب، وبالتالي الإصرار على العيش في كهوف وطلاسم الأسماء واستحقاقاتها الميثية، لكن الدموية.
* كاتب سوري.
الحياة