صمتان قاتلان ونخبوية متهافتة/ علا شيب الدين
بعد يوم واحد من وقوع مجزرة الحولة المروعة في ريف حمص، التي ارتكبتها قوات النظام و”شبّيحته”، وقضى فيها البعض ذبحاً بالسكاكين وحراب البنادق في 25 أيار 2012؛ وزّعنا على بعض الناس في أحد الشوارع بمدينة السويداء، صوراً لبعض ضحايا تلك المجزرة من الأطفال، مقرونةً بسنابل قمح. سبعُ صبايا كنّا، وكانت الصور، التي وزّعناها بقلق العارف وهو يشقّ عصا الطاعة أنه بلا سندٍ اجتماعيّ، مرفَقةً بعبارة “بأيّ ذنب تُذبَح براعم المستقبل؟ سوريا تنزف… وصمتكم يقتلنا”.
“الصمت القاتل” إذاً، كان المقصود من خاتمة العبارة التي تلمّح ولا تصرّح بضرورة الثورة عليه، وبأهمية التحاق جارة مهد ثورة الحرية والكرامة، بركب الثورة، إضافة طبعاً إلى الاحتجاج الصريح على المجزرة المذكورة. الصمت اللاأخلاقي، المهادن، المتواطئ، القاتل، هو نفسه الذي طالما دعا الثائرون والثائرات في المدائن والبلدات السورية المختلفة، إلى الخروج عليه.
لم تكن الدعوة موجَّهة إلى بعض الداخل الصامت صمتاً قاتلاً فحسب، بل أيضاً إلى العالم القاتل بصمته، الشاهد على مذبحة العصر السورية دونما اكتراث، وقد سُمِّيت إحدى الجُمعات “صمتكم يقتلنا” 29 تموز2011. غير أن ما يثير الاستغراب خلال مسيرة الثورة، نتوءُ اصطلاحات من طراز “الشرفاء الصامتون” يرددها من دون تمحيص، بعض الثائرين أو المعارضين من غير الراغبين في أن يتكلّم نظراؤهم عن تجاربهم الخاصة وسِيَرهم الثورية، أو ممن يعتقدون أن كلام المرء عن تجربته الثورية هو بالضرورة، تبجّح لا يليق بالثائر “المتواضع”. لكن إذا كانت معاداة “التبجّح” مشروعة، فهل معاداة الكلام مشروعة؟ ألم يكن منع الكلام واحداً من الأسباب المهمة التي أفضت إلى الثورة؟ أليس من شأن منع المرء من الكلام عن تجربته الثورية الخاصة، أن يطمر تجربة قد تكون ثرية وفيها ما يفيد وينمّي ويطوّر؟ ثم، مَن ذا الأجدر في التعبير عن التجربة الشخصية إن لم يكن صاحب التجربة نفسه، وخصوصاً أن ما من أحد يمثّل أحداً أو يتكلم باسم أحد إلا على سبيل التضليل والوهم والخداع؟ ترى كيف ستتعرّف الأجيال المقبلة إلى تجارب الأسلاف الثائرين في ثورة لا نجانب الصواب إن قلنا إنها واحدة من أهم الثورات التي مرّت على التاريخ الإنساني، بكل ما يعتورها من غرابة وفرادة وصبر واستبسال وغير ذلك؛ ما لم يتكلم الثائرون عن يومياتهم في الثورة وتجاربهم الخاصة شفاهةً أو كتابةً وبأيّ طريقة يرونها ملائمة، على الأقل من باب التوثيق؟
الصمت الذي يعتقده البعض شرفاً، قاتل إذاً، من حيث هو دفن للحظة تاريخية، لتجربة حيّة ليس عدلاً أن تُدفَن حية وتموت ولا يدري بها أحد. من غير المفهوم وغير المنطقي أن تنتشر مقولة “الشرفاء الصامتين” حتى تصير بمثابة مثلٍ دارج، فالصمت أحياناً يكون شكلاً من أشكال الاضطهاد المعنوي. مثلما هو أحياناً أخرى شكل من أشكال البلاغة. يُلاحَظ هنا، أن الصمت يجري تسييسه وفقاً للمصالح والأهواء والأمزجة، فهو “قاتل” لمَن لا يفيد منه، و”شريف” لمَن يرى فيه منافسةً مثلاً، فيُنتقَص أو يُنقَض أو “يُجتهَد” فيه. على ضوء التسييس هذا، يمكن مثلاً استيعاب ما طالبَ به، أحد “المحللين” ذات إطلالة على إحدى الشاشات، في شأن “منعِ” الناشطين الميدانيين الإعلاميين من الكلام في السياسة، أو تقديم تحليلات سياسية، كون هذا “مِش شَغْلِتْهم”، ضارباً عرض الحائط بما اندلعت من أجله الثورة أصلاً، لعل أهمّه ربما، تحرّر الناس جميعاً من الأميّة السياسية، واستحالتهم جميعاً مواطنين أحراراً، لديهم آراء في شأن بلدهم، لا يهابون التصريح بها أو المشاركة السياسية الفعّالة استناداً إليها، بعد عقود خلت من مستمعٍ لرأيٍ يبديه راءٍ أو نقضٍ يسوقه ناقض. “ليس مُهمّاً أن تكون أفكارنا صحيحة. المهم أن ننتج أفكاراً. ألاّ نتوقف عن الإنتاج”. على ما جاء في كتاب “حوارات” لـجيل دولوز وكلير بارنيت.
إن شئنا أن نستطرد، من شأن ثقافة منع الكلام، السائدة، المتجذِّرة، التي طالما نكّلت بـ”المتكلمين”، بشكل يعكس تخوّفاً شديداً من الكلام، وخصوصاً أن الكلام يختلف عن اللغة، كون هذه الأخيرة، عامة، مضبوطة، وتخضع لقواعد صارمة وحاسمة. من شأن ثقافة كهذه، إنتاج أشخاص يهابون التعبير عن أنفسهم وتجاربهم الشخصية بحرية، بصيغة المتكلِّم، ربما خوفاً وهرباً من رقابة الآخرين وأحكامهم ومعاييرهم، فيسيطرون على كلامهم، متجاهلين ربما بذلك نداءاتهم الداخلية، مضيفين إلى رقابة الآخرين رقابةً مضاعَفة، الرقابة على الذات، وهي الأخطر. هكذا، يصير التعبير عن الأنا، وعن أخصّ الخصوصيات وأقربها إلى الذات، بصيغة الغائب، فيكتب أحدهم مثلاً، معبِّراً عن نفسه “كاتب هذه السطور شعرَ بكذا أو فعلَ كذا أو قالَ كذا. بدلاً من أنا شعرتُ، أنا فعلتُ، أنا قلتُ”. أو يصير أحد آخر، مغترباً هارباً إلى “الشيء في ذاته”، إلى التجريد، ظانّاً نفسه بذلك “مترفِّعاً” عن “الصغائر”، أو قد يتخذ من الإغماض الدائم نهجاً، خوفاً من تبعات الكلام أو الكتابة الصريحة عن الواقع وتسمية القتلة والأشياء القاتلة بمسمياتها، ظانّاً روحه أغلى من أرواحٍ بُذلت ثمناً لكلمة واضحة جلية لا لبس فيها.
* * *
هناك تصوّر مغلوط، ليس عاماً بكل تأكيد، يتوهّم أن الحراك النسبيّ المحدود الثائر في مناطق الأقليات، “أرقى” من نظيره في بقية المناطق السورية الثائرة بالمعنى الحقيقي والأصيل والعميق للمفردة. وقد ذهب “الغلوّ” بالبعض إلى حدّ وصف الحراك في بعض المناطق التي تسكنها أقليات دينية كالسويداء، بـ”النخبوي”. أما السبب المباشر لهذا الوصف غير اللائق من وجهة نظرنا، أن غالبية المعارضين أو الثائرين – وهم أقلية وسط أغلبية مؤيِّدة أو محايدة- من حمَلة الشهادات الجامعية أو من ممتهني وظائف ذات مكانة اجتماعية “مرموقة” كالهندسة والطب والصيدلة والمحاماة والتدريس.
يدفع هذا التعاطي “النخبوي”، الاصطفائي الانتقائي، والفوقي مع الواقع والناس، إلى سؤال كالآتي: هل حصول المرء على شهادة جامعية يجعله كائناً نخبوياً لا ينتمي إلى الناس، إلى الشعب؟! حدّثني مرّة سائق تاكسي، عن أشياء تجرح شعوره دوماً، منها “الاعتقاد الواهم بأن “جميع” السائقين “زعران”، وقال إنه لم يشارك في التظاهرات، لكنه كان يفرح كلّما التقى بتظاهرة تهتف للحرية، متكلماً في دخيلة نفسه “شو أَنِي (أنا) ما بدّي حرية يعني؟ أَني كمان بدّي حرية”، وأفاض في الحديث عن انتهازية الشبّيحة، حتى أنه لم يستبعد أن يكون هؤلاء أوّل مَن سيحمل علم الثورة ذا الخط الأخضر والنجمات الثلاث إذا سقط النظام”.
يبدو أن من الواجب الأخلاقي والإنساني هنا، تذكير القائلين بـ”النخبوية”، بأن مَن فجّر ثورة الحرية في سوريا، هم أطفال كانوا لم ينتهوا بعد من مرحلة التعليم الابتدائي أو الأساسيّ، وبأن بعض حمَلة الدكتوراه في السلطة الأسدية وغيرها ليسوا سوى مجرمين وقتلة.
يشي الاصطلاح، أعني “الحراك النخبوي”، ببنيةٍ كامنة في نمطِ تفكير، جاهزة دوماً للعمل على المنوال نفسه، إذ الاصطلاحات تعود إلى مهدٍ وموئل، فهي لا يمكن أن تطفر فجأة من الفراغ. فإذا نظرنا من زاوية سوسيو/ثقافية، لربما تكشّف لنا إلى أي حد يتقاطع الحديث عن نخبوية الحراك الثائر في منطقة ما وأفضليته على غيره في مناطق أخرى من البلد نفسه، مع الحديث ذي الطابع “الباطني الجوّاني”، عن أفضلية هذا الدين أو تلك الطائفة على غيرهما. لا تفوتنا هنا الإشارة إلى تعبيرات لغوية خطيرة من مثل “ديننا أشرف دين”، أو “مجتمعنا أحسن مجتمع” ومن وراء ذلك الكثير من الحوادث والوقائع التي تعكس تمحوراً حول الذات.
يلجأ البعض ممّن يريدون حصر “الرقي” في حراك ثوري بعينه، أو في أشخاص بعينهم، أو في منطقة بعينها، إلى استحضار أمثلة غاية في الرومنطيقية، كسلسلة الاعتصامات التي حُملت فيها الشموع بالسويداء ترحّماً على أرواح الشهداء، في بواكير الحراك الأولى. بيدَ أن ما يغيب ربما عن البال هنا، أن تلك الاعتصامات كانت في معنى ما بمثابة ردّ فعل ثوري جميل ومهم، يتفاعل مع فعل ثوريّ أصيل ملازِم للورد والماء والزيتون والحمام أيضاً، حصل في مناطق سوريّة أخرى وكان وقوده من أرواح الثائرين ودمائهم.
مَن الأجدر إذاً بنعته بـ”الرقي” في هذا المثال البسيط – إن كان لا بدّ من النعوت ولا مفرّ من ذلك- ردّ الفعل أم الفعل؟ خصوصاً عندما لا نُسقط من الاعتبار، أن نظام الأسد عمد إلى التنكيل بالناس في المناطق التي ثارت بكليتها ثورة حقيقية، أبشع تنكيل، بينما ظلّ حريصاً أشدّ الحرص على أن يكون التنكيل مخفَّفاً في شأن أي حراك ثائر في مناطق الأقليات التي لم تثر بشكل حقيقي، مواظِباً بذلك على تنفيذ مخططٍ طائفيّ، إثنيّ، مَناطقيّ، وعنصريّ، يسعى إلى تمزيق النسيج السوري الوطني، الذي بُدِئ الاشتغال عليه منذ اندلاع الثورة، بل قبل ذلك بكثير، طوال عقود حكم آل الأسد ومُلكهم.
في العودة إلى بعض التفاصيل في المثال المطروح عن اعتصامات الشموع، فقد جُبهَ مثلاً أحد هذه الاعتصامات في ساحة سلطان الأطرش، الذي لم يكد ينهي خمس دقائق من الوقت، بمجموعة من أمناء الفِرَق الحزبية (حزب البعث) وموجِّهين “تربويين” وعناصر أمن احتلّوا مكان المعتصمين، وانبرى هؤلاء يردّدون شعار “يا بشار لا تهتم/ عندك شعب بيشرب دم”، في الوقت الذي كان المعتصمون آنذاك، وكنتُ معهم، يرددون نشيد “حماة الديار” وبعضهم يردد “حرية حرية”، حاملين الشموع وأغصان الزيتون. إلا أن الشعار المذكور لم يتخطَّ في المحافظة المذكورة حدود اللفظ، بالمعنى الصريح العلنيّ المستفز، فقد قُتل مثلاً، العديد من الشباب المعارضين المدنيين، لكن قتلهم كان مستتراً، انطوى عن الأنظار وانزوى عن الأفهام، كالتصفية تحت التعذيب في ظلمات أقبية المخابرات.
هذا من جهة النظام، أما من جهة المجتمع، فكان هناك ربما ما يشبه اتفاق تهدئة ضمنيّاً لا واعياً، غير متفق عليه صراحة بين الموالين في المحافظة والمعارضين. فبدا المشهد في عمومه، درامياً وتراجيدياً في آن واحد، لم يُرد فيه المعارِض المعارَض حتى من أقرب الناس إليه، العارف أنه الثائر بلا ثورة، التصعيد في الثورة في معنى ما. كما لم يُرد الموالي في المقابل، التصعيد في الموقف المؤيد. وعليه، ظلّت الأمور هادئة نسبياً حتى اللحظة. بطبيعة الحال، تبقى هناك تفرّعات وتفصيلات واستثناءات وجزئيات لهذا المشهد العام الذي يمور برؤى ووجهات نظر مختلفة وشائكة ومعقدة.
لكن الشعار نفسه، جرى تطبيقه تطبيقاً حرفياً واقعياً مستفزاً ومهيناً في المناطق السورية الثائرة ذات الغالبية السنيّة، وحصل بالفعل “شرب الدم”! فالمجزرة الفظيعة التي وقعت يوم 10نيسان 2013 في مدينة الصنمين بدرعا، على سبيل المثال لا الحصر، وراح ضحيتها العشرات بينهم نساء وأطفال قضوا ذبحاً بسكاكين “الشبّيحة” وفق ناشطين ميدانيين هناك، حتماً لم يقع مثيلها في المحافظة الجنوبية المجاوِرة. على “ضوء” وقائع كهذه، تغدو قراءة اصطلاحات من مثل “الرقي” والنخبوي” أكثر واقعية، وربما يتبيّن أن التقييمات ذات الشأن والمعنى، هي تلك التي تأتي بعد التجربة لا قبلها.
إن الاعتراف الدائم بكون الماهية الإنسانية واحدة، ومداومة النظر في اللغة المستعمَلة والسلوك الممارَس، والمكاشفة، ذلك كله وما يشابهه، قد يكون بديلاً آمناً من الاستتار المنذِر بعواقب وخيمة. لذا وجب نقد اصطلاحات من مثل “شرفاء صامتين”، “حراك نخبوي” وغيرهما من تعبيرات لغوية لا يصحّ أن تكون بمثابة هوية ثابتة، ناجزة، ودامغة لمجتمع ما أو فرد ما أو جماعة ما.
ملاحظة: كل الوقائع المذكورة في المقال، موثقة بصور وفيديوات موجودة على الإنترنت.
كاتبة سورية
النهار