صناعة الديكتاتور في زمن العولمة/ طلعت رميح
تبدو مواجهة صناعة الديكتاتور، واحدة من أهم الدروس والخبرات التي تكتسب الآن في خضم أحداث العالم العربي، بعد أن شهدت المنطقة حالات ارتداد عن مساعي بناء الدولة المدنية الحديثة، إذ يعود قطاع من الناس تحت ضغط الإخفاق والفوضى وتزايد معدلات الفقر والجوع، للقبول بفكرة الحاكم الفرد الديكتاتور بتصور أن ذلك هو الحل لتلك الأزمات التي تعيشها كثير من البلاد. هذه الصناعة تنتج الآن أمام أعين الجميع، وتدور ماكيناتها بمشاركة وطاقة وهندسة إقليمية ودولية، استثمارا لحالة الاضطراب وعدم الاتزان التي دخلت فيها تجارب دول الربيع العربي، التي تشهد انتكاسة ونقوصا عن تجربتها وأهدافها في بناء نظام ديمقراطي حديث ومؤسسات اقتصادية وإدارية تعتمد النهضة محورا لنشاطها.
أسباب الانتكاسة وتسرب قطاع من الجمهور من الانتظام والاحتشاد في صفوف الانتخابات والحرية وبناء الدولة الجديدة، إلى القناعة بعدم أهمية دور الشعب مقارنة بدور الفرد الحاكم المطلق، هي أسباب كثيرة ومتنوعة. فالربيع العربي لم يتمكن قادته مثقفوه ومنظروه من أن يقدموا للناس رؤية، تظهر أن إعادة بناء نظم الحكم الجديدة، هي عملية معقدة وطويلة تحوطها مخاطر الثورة المضادة طوال الوقت، بما يتطلب الحذر والحيطة والصبر، ولم تطرح رؤية تتعلق بالمخاطر الإقليمية والدولية التي تحيط بتلك التجارب، وأن دولا كثيرة ستحاول إعادة الشعوب إلى مصاف العبيد حتى لا تنتقل العدوى من ثورات الربيع إلى دول الخريف، كما لم تقدم تلك النخب رؤية لتطور ونهوض الاقتصاد والمجتمع على أسس تحقق العدالة والنمو. وأسهم في تلك الانتكاسة، أن الجميع قد تصور الأمور سهلة وأن مجرد خلع الديكتاتور أو إقصائه يحدث التغيير وأنه لا حاجة بعدها لإحداث تغيير شامل بخطوات ثورية متلاحقة، وأسهم في ذلك أنه لم تكن هناك تجربة ثرية في الإعداد للثورات، يجري خلالها إعداد برامج وخطط إصلاحية سياسية واجتماعية واقتصادية. وهكذا وجد الناس أنفسهم بعد اندلاع ثورات الربيع في لحظة حلم مزدهر بالكلام عن الربيع العربي وواقع يشكل كابوسا في معاشهم وحياتهم اليومية وهم كانوا من الأصل قد وصلوا خلال الحكم السابق إلى تحت خط الفقر. نجحت الخطط التي جرى إعدادها على عجل من قبل قوى الثورة المضادة التي كانت الأبرع والأشد قدرة على التخطيط والتنفيذ، في هز ثقة الناس في مستقبل الربيع، فارتد بعض منهم إلى ذكريات العيش تحت ظلال الديكتاتورية. وجد الناس أنفسهم بلا أمن ولا تقدم في حياتهم المعيشية وشاهدوا الدول التي تعيش الخريف مستقرة، بلا فوضى، ولا اقتتال. لم يدروا أن ما يجري لهم هو إعداد لكي يقبلوا مجددا بحكم الديكتاتور.
كانت الولايات المتحدة على الطرف الآخر، قد وضعت خبراتها في إدارة المجتمعات والدول والصراعات الداخلية،لإنتاج هذا الديكتاتور وفق صيغ جديدة مبتكرة تتفق مع دعاياتها وسحابة دخانها حول إيمانها وعملها من أجل الحرية وحقوق الإنسان، فجاءت بالمالكي عبر قواتها العسكرية ومكنته من حكم العراق –محملة إيران وحدها نتيجة صعود هذا الديكتاتور-وهي في الحالة السورية كانت أبرع، إذ بدت أمام الناس وكأنها في الصف الآخر ضد الديكتاتور، بينما هي صاحبة الدور الأكبر في صناعته وتلميعه واستمراره، وفي الحالة المصرية شكلت مظلة ناعمة وأدخلت دولا إقليمية لتحمل تبعات تلك الحالة ونتائجها، وصارت هي تحقق أهدافها في إضعاف الجميع، دون أن تدفع أي ثمن.
الديكتاتور الفرد هو الحل، في الأغاني التي تحاكي أزمان مضت وانتهت (وماذا يهم هؤلاء إلا الشهرة والمال)، ولدى الحركات والمجموعات المصنوعة وماذا يهمهم أكثر من وجود فرص للعمل (وهل وجدوا عملا آخر وفضلوا ذاك عليه)، وعند الساسة الذين فقدوا أنفسهم ومصالحهم ومواقعهم، فزينوا لأنفسهم أنهم يستعيدون حقوقا سلبت منهم، ولدى المشتاقين إلى دور يحقق ذاتهم ولو على حساب الآخر أو بتكلفة تعد بالجماجم والقتلى.
تجري صناعة الديكتاتور في كل مكان في العالم العربي. لكن هناك طلائع جديدة تعيد إنتاج حالة الإيمان بالشعب ودوره. والصراع جار.
الشرق