صنم الحداثة/ عباس بيضون
لا نزال في مرحلة من أدبنا وفنوننا وفكرنا يستسهل البعض نعتها بالحداثة ويستملح البعض هذا النعت لها، فقد تحولت الحداثة، بعد أن تكررت على أفواه أدبائنا الرواد، شعراء بالدرجة الأولى، إلى صنم من أصنامنا الثقافية. صار لها في منتدياتنا وحواراتنا وصحفنا وكتاباتنا ما يليق بكليشيه دارجة، كانت بذلك أقرب المصطلحات سيرورة ودارجية إلى مصطلحات سياسية زادها التبني غموضاً وزادها التداول تسطيحاً، وأخرجها كل ذلك من البحث بحيث صارت مضغة في الأفواه.
توقف كثيرون عند هذه التسمية، استطرد البعض إلى ما بعد الحداثة، لكن هذه ظلت في المابعد، فيما بقيت الحداثة من قبل ومن بعد هي الوثن العالي، لكن التداول والسيرورة والدارجية ما كانت لتضيء شيئاً، فالأغلب انها تعمّي أكثر مما تضيء، والأغلب أنها تستدعي من صاحبها أقل بحث ممكن وأقل تأمل وأقل تفكير، فقد صارت الحداثة علماً على شيء لا تُعرف حدوده، ولا مرجع له ولا سابقة أو تاريخاً. انها كلمة في الفم، يكفي أن تلفظ في أي معرض كان وفي أي مجلس وفي أي سياق ليغدو لها معنى ولتغدو للكلام نفسه نهاية واستخلاص.
لم يزدها الوقت إلا غموضاً. الأرجح أن السابقين سعوا وسعهم وعلى قدر إمكانهم ليتميّزوا لهذا المصطلح تاريخاً ومعنى، بيد أن بياناتهم لم تكن على درجة وافية من التركيب والتحديد. الأرجح انهم سبقوا إلى التداول السهل للمصطلح. سبقوا إلى التغني به ومديحه ورفعه عالياً. لم يصلنا منهم ما يدفع إلى سجال أو ما يتضمن نبرة سجالية أو إطاراً نظرياً أو إشكالية محددة، لا يدهشنا أن المصطلح صار بسرعة فاشياً بين شبان الأدب وشبان الفن وشبان السياسة والفكر، لا يُدهشنا أن نجد أن المصطلح صار يندرج في كل كلام، في موضعه وغير موضعه، وبمناسبة وبلا مناسبة. لا يدهشنا أن المصطلح بات له تلامذة وحواريون يدعون بالحداثويين. صار هناك شعر حديث وآخر غير حديث، لقد وقفوا عند هذا المصطلح وجعلوا منه رايتهم كما جعلوا منه سلاحهم ومعركتهم، وعندما بدأ الحديث عما بعد الحداثة فهموا منها أنها إفراط في الحداثة وتوكيد لها. فهموا منها أنها الحداثة الزائدة وهكذا بقينا حوالي المصطلح وزدنا إجلالاً له وتصنيماً.
السفير