صوت الجبل يرتجف/ روبن داريو
الحداثة وروبن داريو
اسمه الحقيقي فيلكس روبن غارسيا ساريمينتو. وُلد في نيكاراغوا عام 1867. عمل سفيراً لبلاده في عدد من الدول. لقد كان لرحلاته المتعددة أثرٌ كبيرٌ في تولعه بالأدب عموماً وبالشعر بشكل خاص، ولا سيما رحلاته إلى فرنسا حيث تعرف إلى نتاجات الشعر الفرنسي الحديث كأعمال بودلير مالارميه وغيرهم من الشعراء الحداثيين، وبهذا نستطيع القول إنه عاش ثورة الشعر الفرنسي في كل تفاصيلها وتبناها في مسيرته الأدبية. توفي عام 1916.
استطاع روبن داريو أن يحدث قطيعة مع أشكال الشعر التقليدية، محدثاً ثورة جديدة في أشكال التعبير ومدخلاً إلى الشعر صوراً جديدة ومفردات غريبة رنانة ومعبرة. غير أننا ولكي نعرف حق المعرفة هذا الشاعر الحداثي – بكل ما تعرفه كلمة حداثة من معنى- لا بد من التعرف إلى ديوانه (azul[1]) 1888. يُعد هذا الديوان نقلة نوعية في الشعر، بل في حقيقة الأمر، يشكل بالنسبة لما كان يكتب بداية ثورة الحداثة في الشعر الإسباني الذي بدأت على يد داريو وأكملها من بعده كبار الشعراء الإسبان من أمثال خوان رامون خيمينيز وأنطونيو ماتشادو وغيرهما. غير أن اللافت في هذا الكتاب هو روح الشعر الفرنسية، فكما قلنا سابقا إن داريو قد قرأ كل ما كتبه الحداثيون من بودلير إلى مالارميه مروراً برامبو إلى درجة تشعر فيها أنك عندما تقرأ قصيدة لروبن داريو فإنك تتعامل مع قصيدة تحتوي على التاريخ، على الفلسفة الرياضة الكيمياء اللغة الخيال الأسطورة، كما كان يفعل الفرنسيون آنذاك، وبهذا المعنى فإننا نرى روح شعراء فرنسا في النص. وبعد تجربته الأولى يأتي داريّو بديوانه الجديد بعنوان Prosas Profanas [2] . لقد استطاع داريو في هذا الديوان أن يخلق إحساساً جديداً في الشعر مبرزاً بشكل كبير الألوان وخالقا لعالم من الزخرفة الفنية الجمالية دون خلو الروح الفرنسية فيه. أما في ديوانه (Cantos de vida y esperanza [3]) 1905 فإن العلامة الفارقة هي عزفه عن استخدام روح الشعر الفرنسية وميوله إلى ما هو إسباني محض. في هذا الديوان نلاحظ محاكاة الروح الإسبانية مهدياً العديد من القصائد إلى شعراء إسبان من بينهم سيرفانتس.
القصائد التالية قد تكون أوفى وأجدر بالحديث عن شاعر من قيمة روبن داريّو على أن نكون قد وفقنا في اختيارها وترجمتها.. من الإسبانية:
نهار استوائي
إنه النهار رماديٌّ حزين.
السماء البعيدة يكسوها الحزن
والبحر يرتدي ثوباً مخملياً ناعماً.
من الهاوية تتعالى الأصوات الحزينة
و الموجة تبكي مع غناء الريح.
كمانات السحاب تعزف للشمس الميتة
والزبد الأبيض يرتل موسيقى مقدسة.
السماء تملؤها نغمات الموسيقى
والنسمة تحمل معها أغنية البحر الحزينة العميقة.
من بوق الأفق تتفجر سيمفونية غريبة
كأنها صوت الجبل يرتجف،
كأنه صوت غريب،
كأنه صوت قوي جاف،
هل سيقدر أسد مرتعش أن يجابه الريح؟.
الفرس بيغاسوس[4]
“الحياة نقية جميلة”: قلتُ.
عندما كنت أمتطي ذلك الحصان العنيف المرتعش.
عارياً، بين عينيه المتقدتين رأيت النجم الساطع
في السماء الزرقاء.
بترسه الذهبي الأبولي المنعكس على جبهتي
تمكنت من اللحاق ببيليرفونت[5].
كل قمة عظيمة إذ صعدها بيغاسوس
وأنا، بقوة، صعدت معه أنّى تمكن من الصعود.
أنا فارس القوة الإنسانية
أنا ذلك الفارس الذي يقدم رأسه المنتصر مكللاً
بغار الإله؛
أنا مروض الجياد ذوات الأجساد الألماسيّة
تابعاً الفجر في السماء الزرقاء
دائماً إلى الأمام.
ساناتوس إله الموت
“في منتصف طريق الحياة”: يقول دانتي
“في منتصف طريق الموت” هذا ما تحوّل إليه شعره.
غير أنه ليس لنا أن نكره ملكة العدم المجهولة
فحياتنا منسوجة لها، وهي، بكأس الأحلام، تسكب
نخب شراب سحري معاكس:
أنها لا تنسى!
تشاؤم
صديقي، أنت الذي تملك الضوء، أعطني ضوئي
فأنا كالأعمى أمشي بحذرٍ دون اتجاه
أمضي في الأعاصير والعواصف
أعمى الحلم
مجنون الإيقاع.
هذه فجيعتي يا سيدي
فالشعر قميص حديدي مليء بأسنان دامية
ألبسه فوق روحي
وأشواكه الدموية تذرف قطرات تشاؤمي.
وهكذا أمضي مجنونا أعمى في هذا العالم المر
تارةً يتراءى لي الطريق طويلٌ وتارةً قصير
وبين تردد الروح والموت
أحمل فجيعتي التي بالكاد أتحمل.
ألا تسمع قطرات تشاؤمي تسقط ، يا سيدي؟
في الخريف
“لماذا لا يكتب كما كان يكتب سابقاً الجنون المتناغم؟
يقول الآخرون.
غير أنهم لا يعرفون عمق الكتابة
لا يرون جهد اللحظة ، آية الزمن.
وأنا، يا شجرة مُقفِرة، خلقت الهواء من الرياح
عندما نضجت. أنا صوت مبهمٌ وجميل.
مر زمانٌ ضحكت فيه كاليافعين:
فاتركوا الآن للنيران أن تحرك أحشائي.
غير أنه
مرة شعرت ببابل تتكسر كالبلور في جمجمتي
آه منك يا زلزال العقل!
وهكذا رحت أنظر مع باسكال إلى الهاوية
ورأيت كل ما تمكنت من رؤيته عندما
اكتشف بودلير سحر اللغة
آه منك يا زلزال العقل!
غير أنه لا بدَّ من القوة لعبور الهاوية
لا بدَّ من قهر الرزيلة
لا بدَّ من سحق الجنون والموت.
ولت ويتمان
كأني أراه عجوزاً كبيراً يعيش في بلاده، بلاد الحديد
هادئاً قدّيساً.
تجاعيد وجهه المقدس تأخذ بسحر
وتسيطر بنبلٍ.
روحه مرآة لما لا ينتهي
أكتافه المتعبة هي التي تليق بالمعاطف
من قيثاره المصنوعة من بلوط معمر
وكمثل الرسول الجديد يغني نشيده.
يا من تبعث فينا نفساً مقدساً، يا قديسنا
قل لنا إن هنالك في المستقبل وقتاً أفضل
قل للطير “حلق” وللبحار “ابحر”
وللكادح “اعمل”
هكذا يمضي هذا الشاعر في الطرقات
بوجهه المضاء
بوجه القائد وهو يقول لنا نشيدنا.
فينوس
ها هو الشوق المر في الليلة الهادئة يأكل أعضائي.
وبحثاً عن الدفء، خرجت إلى حديقتي العطرة الصامتة
ورأيت فينوس الجميلة بنورها المرتعش في السماء المظلمة
مرصعة بالأبنوس، ياسمينة ذهبية مقدسة.
تراءت لروحي العاشقة على أنها ملكة شرقية
مستلقية في المدى العميق، مشعةً
أو أنها
تنتظر حبيبها تحت سقف غرفتها.
“الروح تطيق إلى الخروج عن الجسد، إليك
لتقبيل فمك المشتعل
للغوص في نورك الذي ينزف على جبينك ضوءًا شاحبا،
للاحتفاء في حبك نشوة فلكيّةً من دون توقف” . قلتُ للملكة الشقراء.
هكذا أخذ الهواء العليل يجدد وجه المكان
وفينوس من الهاوية تنظر بحزنٍ إلي.
إشارت:
[1] ” أزرق”
[2] ” قصائد نثرية مدنّسة”
[3] أغاني الحياة والأمل
[4] بيغاسوس حصان مجنح جعل الماء يتدفق برفسة من حافره من نبع هيبوكرين كما تقول الأسطورة اليونانية.
[5] هو الفارس الذي روض الحصان كما تقول الإسطورة.
المترجم: جعفر العلوني