صفحات العالم

صورة اليرموك..!!/ حسن خضر

شاهدتُ، مساء أوّل أمس، فيلماً وثائقياً، عن حصار الفلسطينيين في مخيم اليرموك، وموت البعض جوعاً، وما يُبذل من جهود سياسية وإنسانية لإدخال مواد غذائية، وطبية، إلى ما تبقى من سكّان تحت أنقاض المخيّم.

وأوّل ما يتبادر إلى الذهن، في هذا الشأن، أن مأساة الفلسطينيين، في سوريا، جزء من مأساة السوريين أنفسهم، ولا يمكن فصلها، أو التفكير فيها، خارج سياق الحرب التي يشنها النظام على مواطنيه من ناحية. ومن ناحية ثانية، المآل المُفزع للثورة السورية على نظام آل الأسد، بعدما أصبح الصراع في سوريا صراعاً عليها، بين أطراف إقليمية ودولية مختلفة. وفي الحالتين لا يمكن، ولا ينبغي إعفاء النظام السوري من المسؤولية، بالمعنى السياسي، والأخلاقي، والإنساني العام.

بيد أن لمأساة مخيم اليرموك تداعيات تشبه النص الغائب في كتاب مفتوح. فالكلام عن مسؤولية النظام، أو المجتمع الدولي، مُتداول في وسائل الإعلام، وفي السجال السياسي العام. واللافت للنظر، في هذا الشأن، تجلياتها في النسق الثقافي والسياسي الفلسطيني، حيث يُصوّر الفلسطينيون في سوريا باعتبارهم النموذج الحي للضحية المثالية.

وهم كذلك بالفعل. ولكن ما يغيب عمّا تثيره المأساة من تجليات، وردود فعل “فكرية”، و”سياسية” أن أحداً لا يُفكر فيها على خلفية أن هؤلاء (والفلسطينيون في لبنان) جزء من بضاعة الاقتصاد السياسي للمقاومة والمُمانعة. فهم مصدر الموارد البشرية التي يحتاجها “أمراء الحرب” المُقاومون والمُمانعون للبقاء في السوق. ولعل في هذا ما يضفي على هوية الضحية دلالة إضافية هي الرهينة.

وهم رهائن، بالفعل. ولكن البطولة غالباً ما كانت قناعاً لتمويه وجه، وهوية، الضحية. في وقت مضى، ولم يمض تماماً، في حروب الطوائف والعصبيات والمقاومات والجهاديات، في لبنان. وحتى عندما اغتيل رفيق الحريري، فكّر شخص ما في ضرورة أن يكون الانتحاري فلسطينياً، ولو على شريط مُسجّل ومُزوّر، للحفاظ على القيمة التبادلية والاستعمالية للبضاعة الفلسطينية في السوق.

وهي القيمة نفسها، التي حاول شخص آخر استثمارها، عندما حرّض شباناً من اليرموك (ووضع باصات تحت تصرفهم) على محاولة اختراق الحدود في الجولان، في الذكرى الثالثة والستين للنكبة. فقُتل وأُصيب العشرات منهم، لأن نظام آل الأسد أراد تنبيه الإسرائيليين إلى خطورة انهيار سلطته في دمشق.

وقد انتبه أهالي الضحايا، وغيرهم، في اليرموك إلى حقيقة كهذه، فهاجموا مقر جماعة أحمد جبريل، ومنعوا “ممثلي الفصائل” من حضور مراسم الدفن، والأهم من هذا وذاك منعوهم من إلقاء كلمات في “مقبرة الشهداء”.

وهذا أسوأ ما يمكن توقعه من عقاب، فليس أشد وأقسى على “ممثلي الفصائل” من فقدان الحق في الكلام والخطابة. فلحظة الذروة، حتى بالمعنى الإيروسي للكلمة، في حياتهم “المهنية” هي الكلام والخطابة، خاصة في أجواء، وطقوس، درامية مهيبة، تغيب فيها ملامح الضحية والرهينة وراء قناع البطولة.

وهي لحظات لا تُقارن بالدقائق القليلة التي ينالونها على شاشة التلفزيون من وقت إلى آخر، قد يطول أو يقصر حسب الميول الأيديولوجية لأصحاب المحطة، للتعقيب على الجاري من الأحداث، وتأكيد “الثوابت”، والهجوم على هذا أو ذاك من المتواطئين والمُفرّطين في القضية المقدسة، ناهيك بطبيعة الحال عن بلاغة العداء للإمبريالية والصهيونية.

في الاعتراف بالهوية الحقيقية للفلسطينيين في سورية، ولبنان، باعتبارهم ضحايا ورهائن، دلالة سياسية تبدد ثوابت الاقتصاد السياسي للمقاومة والممانعة، وتُحرّض على إعادة النظر في استراتيجيات ورهانات العرض والطلب.

بمعنى أن الكلام عن “حق العودة المُقدّس”، بقدر ما يمثل موقفاً مبدئياً، يمثل، أيضاً، وبقدر ما يصبح الحق نفسه جزءاً من لعبة السوق، عائقاً أمام إمكانية التفكير في حلول عملية، وواقعية، تضع حداً لمأساة اللاجئين الفلسطينيين، لا في سورية وحدها بل في كل مكان آخر.

فلو كان الإنجاز الوحيد لمنظمة التحرير الفلسطينية، في المفاوضات مع الإسرائيليين، دولة فلسطينية، مستقلة وذات سيادة، تتمكن من استيعاب فلسطينيين في ضائقة، أينما كانوا، ووقتما أرادوا، لكان هذا أهم إنجاز للفلسطينيين منذ النكبة، وحتى يوم الناس هذا.

هناك مشاكل في المفاوضات مع الإسرائيليين، واستيعاب لاجئين فلسطينيين في ضائقة لا يمثل حلاً نهائياً، وعادلاً، لقضية اللاجئين، وحقوقهم السياسية، والإنسانية، التي اعترفت بها الأمم المتحدة، في ما لا يحصى من القرارات الدولية، ولكنه يمثل أفضل الممكن، بدلاً من انتظار المجهول.

إنجاز كهذا شاق ومحفوف بالمخاطر والمصاعب بالتأكيد. ولن يكون ممكناً في وقت قريب. ولكن مجرّد التفكر بهذه الطريقة يكفل العثور على، وإنشاء، معيار جديد، بالمعنى السياسي والفكري العام، للخروج مِنْ وعلى لعبة السوق.

المهم، أن لا بطولة في اليرموك، هذه الأيام. فلا يتجلى منه سوى صورته الحقيقية، لا الوهمية والمتوّهمة: ضحية ورهينة في آن، وفي وضع لا يمكّن حتى أكثر المضاربين في السوق، من التخفي وراء قناع البطولة.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى