صفحات العالمغازي دحمان

صورة ما يجري في سوريا


                                            غازي دحمان

ما تصورات أطراف الصراع  في سوريا لمآلات الحرب الدائرة بينهم؟ قوى الثورة التي بات يمثلها الجيش الحر، وقوى النظام بعد أن تعطل جزء كبير من نسقه العسكري والأمني بفعل الانشقاقات والضربات العديدة التي تلقاها في أماكن مختلفة. وما إستراتيجباتهم لكسب الحرب التي باتت على أشدها؟

مما لا شك فيه أن ثمة إستراتيجيات معينة يجري اتباعها لحسم الصراع والفوز بالمعركة، وهذه الإستراتيجيات تتوافق بالطبع مع ظروف كل طرف وإمكاناته، ويجري تعديلها تبعا للمتغيرات التي يشهدها واقع القوى لدى الطرفين.

إستراتيجية الكلب والبرغوث

تستخدم هذه الإستراتيجية في إطار حرب العصابات، وفي ظل وجود قوتين غير متساويتين في القوة وحجم الانتشار والقدرة على السيطرة والتحكم، وقد جرى تجريبها في أكثر من مكان في العالم خاصة في الحرب الفيتنامية. وتقضي هذه الإستراتيجية بقيام البرغوث بلسع الكلب في أكثر من مكان من جسده مما ينتج عنه قيام الكلب بحك جلده حتى يجرحه ومن ثم تلتهب جراحه حتى تقضي عليه.

وقد استخدم الجيش الحر هذه الإستراتيجية منذ بداية العمل المسلح في سوريا انطلاقا من درعا، ولم يكن ذلك في بداية الأمر خيارا من ضمن جملة الخيارات التي لجأ إليها الجيش الحر، بل إن جماعات المنشقين ونظرا لصغر عددها وعدم قدرتها على الانتشار الكبير واستخدام التكتيكات العسكرية المناسبة لم تجد غير هذه الطريقة في العمل والممارسة العسكرية حيث تم الارتكاز في هذه المرحلة على القيام بعمليات نوعية ضد بنك واسع من الأهداف، وقد حقق هذا النمط نجاحات مهمة دفعت إلى اعتماد هذه الطريقة منهجا للعمل ضد النظام، وقد تمثلت أهم بوادر هذا النجاح في الأتي:

– المحافظة على العنصر البشري، أولا لمواجهة التفوق العددي لقوات النظام، وثانيا من أجل تحقيق فعالية أكبر في ساحة المعركة الممتدة على نطاق واسع من الأراضي السورية، رغم نسبة الخطورة المرتفعة أمام قوات نظامية تملك كثافة نيرانية هائلة، استطاع الجيش الحر أن يحافظ على بنيته الأساسية التي تكونت في البداية من جنود منشقين ثم طور هيكليته إلى أن أصبحت تشمل بنى إضافية قوامها ثوار المناطق وعدد مهم من المتطوعين.

– المرونة في الحركة والتنقل خاصة أن الجبش الحر يعمل في ساحة مكشوفة، وكان النظام في بداية الأزمة يمتلك وسائل كثيرة للرصد بما فيها العنصر البشري، وبالتالي فإن مرونة الجيش الحر وقدرته على تفكيك وحداته وتمويه عناصره وإعادة ربط الوحدات خاصة تلك التي تعمل داخل المدن والحواضر أرهقت قوات النظام كثيرا التي لم تحقق نجاحات تذكر في هذه المواجهة.

وبالطبع كان للحاضنة الشعبية دور كبير في هذا المجال، فبالإضافة إلى قيام أبناء المناطق التي يوجد بها الجيش الحر برفد صفوفه بالمتطوعين وتقديم المساعدات الضرورية من الإطعام والملبس وحتى شراء السلاح، فقد ساعدت هذه البيئة على تقديم مساعدات لوجستية مهمة من نوع تسهيل المعلومات الاستخبارية وتقديم وسائط النقل وتأمين الطرق والمساعدة في عمليات التمويه كذلك، وقد أدرك النظام حقيقة هذه العملية فصار يعمد إلى تدمير المناطق التي يتواجد بها الجيش الحر.

تهدف إستراتيجية (الكلب والبرغوث) إلى تحقيق انتصارات كمية الهدف منها بالدرجة الأولى قتل الروح المعنوية لدى قوات الجيش وأركانه وتخفيف الرغبة في القتال لدى عناصره، وكذلك تعطيل القسم الأكبر من أذرعه العسكرية وصولا إلى حالة الإنهاك الكلي، وفي هذه الحالة، وفق التصور الميداني، سيعمد النظام إلى التخلي عن مناطق يعدها غير مهمة أمنيا وغير ضرورية في الحفاظ على أمنه ومن غير الضروري تاليا بذل جهود كبيرة فيها والغرم بخسائر مؤثرة على مستوى المعدات والأفراد.

وهذه الحالة في حال تحولها إلى قناعة ومن ثم إستراتيجية نظامية ستصبح مقدمة للقيام بقضم أماكن كثيرة منه تتحول في عرفه ونظرا لظروفه إلى مناطق غير مهمة وصولا إلى محاصرته في العاصمة التي بالتأكيد ستكون قدس أقداس النظام، وعندها يصار إلى تجهيز إستراتيجية وتكتيك مختلفين.

غير أن عمل الجيش الحر تعيبه مشكلة وهي أن الجانب السياسي بات يتفوق على الرؤية الميدانية، بمعنى أن أعماله أصبحت ذات أهداف سياسية عبر التركيز على الجوانب التي لها ردات فعل سياسية دون التركيز على الجدوى الميدانية، وهذا خطر يتوجب التنبه له وعدم الاستمرار فيه.

من الرهانات الدولية إلى الدولة العلوية

ظل النظام وحتى ما قبل شهر من الآن يعمل على رهان واحد، وهو إمكانية تبدل المواقف الدولية، لذا عمل على وضع تواريخ معينة لحسم صراعه مع المعارضة، مرة بإعادة انتخاب فلاديمير بوتين في روسيا، على أساس أن هذا الأخير له رؤية مختلفة للأزمة السورية باعتبارها حربا لإعادة ترتيب العالم وقد سوّق النظام كثيرا لهذه النظرية، كما راهن على انتخاب فرانسوا هولاند الذي سيلتفت لمشاكل فرنسا الداخلية وبالتالي إمكانية تغيير موقف بلاده التي لها دور محوري في الموقف الغربي نظرا للوضع الإستراتيجي غير المريح للولايات المتحدة الأميركية.

وعلى طول هذه المدة تناغمت إستراتيجية النظام في القضاء على الثورة مع هذه الرهانات مستندا على هامش القوة الإقليمية والدولية التي يحظى بها ومراهنا كذلك على فترات السماح الممنوحة له، وعليه كان النظام يعتقد أنه يسير في الطريق الصحيح وهو إنهاك الثورة عبر ممارسة كل أنواع القمع في مواجهتها، ورهانه في ذلك على عدم قدرتها على الصمود، لذلك وعندما أدرك النظام أن رهاناته أخذت تتساقط من بين يديه وتحديدا منذ بداية العام الحالي، بدأ يلجأ إلى القوة الباطشة ويتجاوز كل الخطوط الحمر بارتكاباته، وأعلن رأس النظام أن البلاد بحالة حرب حقيقية وشكل حكومة سماها حكومة حرب.

وبعد تفجير خلية الأزمة وبدء المعارك في دمشق وحلب، بدأ النظام يلجأ إلى إستراتيجية جديدة كثيرا ما تحدث الخبراء الإستراتيجيون عنها كخيار ممكن أو أخير عند النظام، لكن أهل سوريا لمسوا هذا التوجه منذ مدة، والمقصود هنا إستراتيجية الرحيل باتجاه الدولة العلوية، ومن مؤشرات هذه الإستراتيجية أن النظام بدأ يقطع كل طرق الرجعة مع البيئة المحلية، حيث يعمد في المناطق التي يجتاحها إلى القيام بعمليات قتل عشوائية وإعدامات ميدانية بكثافة، ويقوم بتدمير ونهب الممتلكات والأثاث ويمارس كل السلوكيات المنفرة، وهو سلوك يكشف بالدليل القاطع أن من يقوم به يفعل ذلك ولم تعد تهمه أي اعتبارات.

وفي هذه الحال فإن النظام يمارس حربا طائفية ومكشوفة، غير أنه يرفض الإعلان عنها، ولذلك اعتبارات متعددة، منها أن النظام يطمح في ذلك إلى الاستفادة من إمكانات الدولة من قوة عسكرية ومالية وشرعية قانونية لإكمال حربه على الطرف الآخر، وكذلك الاستفادة من الجنود الذين يحتجزهم بالقوة لديه، وليبقي له شرعية بوصفه يمثل الدولة لاحتجاز عشرات الآلاف من السجناء وهم قوة سنية محيدة قد يفاوض عليهم في مرحلة لاحقة أو قد يعمد إلى إبادتهم.

من جهة أخرى ليتسنى للنظام تأمين خط ترحيل لقوات النخبة لديه وإيصالها إلى دولته الموعودة، وبالمناسبة يعكس استخدام النظام للطائرات الحربية بكثافة ضد المناطق الثائرة عليه رغبته في توفير عناصره وحمايتهم من القتل.

في هذه الاثناء يقيم النظام خط نار من دمشق إلى حمص ومن حمص إلى حلب لإشغال العالم بهذه المناطق ويقوم هو بتحديد دولته التي تمتد من البحر المتوسط وحتى سهول حماة وحلب وحمص وإدلب، بالتزامن مع تدمير حلب ودمشق لينشغل السوريون الباقون بجراحهم سنوات طويلة قبل أن تلتئم هذه الجراح ويفكروا بالانتقام.

بين إستراتيجية الجيش التراكمية وإستراتيجية النظام التهديمية موت ودمار كبيران، لكن ثمة فجر جديد يوشك على البزوغ في سوريا، من بين كل ذلك الخراب، ليس بالضرورة أن يكون التقسيم هو المصير الوحيد لمستقبل سوريا، فالثوار الذين قدموا كل تلك التضحيات لن يقبلوا إلا بسوريا بحجم تضحياتهم.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى