صيغة السنهوري المتواضعة لخلافة العصر…/ أحمد بيضون
مع عبد الرزاق السنهوري، نجد أنفسنا مرّةً أخرى أمام مشكلة المصدر المقدّر للحقّ. نواجه المشكلة هذه بصدد السلطة التنفيذية بعد أن واجهناها بصدد التشريعية.
فإذا كان مصدر الحقّ إلهياً كان العلم بكلام الله وإرادته هو المقدّم في اختيار من يباشر إجراءه وفي محاسبته أيضاً إذا وجد من يقوى عليها. وإذا كان مصدر الحقّ بشرياً كان تقدير الجماعة لمصالحها هو ما يملي الاختيار ويقرّ الخطة ويقدر على العزل… وكانت السياسة (في هذه الحالة الأخيرة) تدبيراً لأنواع خلافٍ لا تنقضي: أي تحصيلاً متغيّراً لحاصل الإرادات في الجماعة… ولم تكن قراءة للنص المقدّس بحروفه ولا تكهّناً بما يمكن أن يكون مراد الخالق من النصّ.
في كلّ حال، كان مراد السنهوري إنقاذ ما يستطاع إنقاذه من وحدة إسلامية جسّدها تاريخ الإسلام أو جسّد مقدارها بصعود الخلافة وهبوطها. وقد بقي البعد الاجتماعي غائباً عن هذا المسعى، فلم ينظر الباحث في حاضر المجتمعات وما يعد به هذا الحاضرُ مطلبَ الوحدة ولا في من يحمل هذا المطلب في تلك المجتمعات. وإنما اعتبر الهوية الإسلامية للدول والمجتمعات قمينة بحد ذاتها، بإطلاق تيار التوحيد وصيانة اندفاعه. وهو قد اقتصر أيضاً من النظر في السياسة الدولية الجارية على ملاحظة التفاوت في القوة واحتمال عرقلة المسيطرين نهوض المغلوبين. فلم يتلبّث كثيراً عند المفاعيل السياسية المحتملة للصدوع الحاصلة في الجهتين.
وهو قد أفضى من بحثه الحقوقي والتاريخي المستفيض إلى اقتراح أو مشروع أدخله في عنوان الكتاب إبرازاً لما رآه له من أهمّية. ذاك هو مشروع «عصبة الأمم الشرقية»، التي أراد لها الحقوقي المصري الفتيّ (كان في نحو الثلاثين من عمره عند صدور كتابه) أن تجسّد الوحدة الإسلامية، فتكون صيغة الخلافة في هذا العصر. وهو وصفها بالـ»شرقية»، وإن قصد «الإسلامية»، لتبقى شاملةً غيرَ المسلمين من مواطني البلاد الإسلامية. وقد أوصى بجعل الشريعة الإسلامية متّسعة لرعاية أحوالهم، مفترضاً أنهم يحبّذون هذا التوسّع. وهو ما يوحي أنه ضرب صفحاً عمّا هو معلوم بصدد القيم التي باتت راعية للتنوّع في المجتمعات، وعن تعذّر اعتبار الشريعة منصفةً لمن لا يأخذ بها من غير المسلمين ولمن لا يراها من صلب دينه من المسلمين.
وهو استهدى نموذج عصبة الأمم القائمة في ذلك العهد في جنيف، وشاء لعصبته أن تكون عضواً جامعاً فيها، فضلاً عن العضويّة المنفردة لكلّ من الدول المشكّلة لها.
لم يتحقّق، على الفور، مراد السنهوري ولا مراد رشيد رضا من قبله. كان على السنهوري أن ينتظر عقدين ليشهد ولادة جامعة الدول العربية فيرى فيها مرحلةً نحو تحقيق حلمه. وهو قد باشر تعاوناً مديداً مع أمانتها العامّة في مجالي التشريع والدراسات الحقوقية. حتى إذا أنشئت منظّمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969، كان الهرم والمرض قد أقعدا الحقوقي المصري، الذي لم يلبث أن توفي في صيف عام 1971. فعاد إلى صهره توفيق الشاوي (الذي كان أحد الأركان في الجيل المؤسّس لجماعة الإخوان المسلمين) وإلى ابنته نادية السنهوري أن يريا في المنظمة الجديدة تحقيقاً أقرب من جامعة الدول العربية لحلم الحقوقي العلامة.
مهما يكن من شيء، تقدّم السنهوري باقتراحه وهو يعدّ «العصبة» العتيدة نوعاً من الخلافة «غير النظامية»، بعبارته، أو «الناقصة»، بعبارة مترجمه. ولم يخفِ أن هذه الصيغة هي ما قد تأذن به دول مسيطرة على العالم لا يرضيها أن ترى العالم الإسلامي وقد استردّ من العافية ما يهدّد سيطرتها عليه. يذكر السنهوري سبباً آخر للقناعة بهذا الحدّ الأدنى من الوحدة الإسلامية أو من «الخلافة» هو ما يلاحظه من تعلّق بالقوميّات وبالدول الوطنية وهذا سبب لا جدال في وجاهته.
والحال أن الناظر في أحوال جامعة الدول العربية وأحوال منظمة التعاون الإسلامي اليوم يرى أن ما تحصّل من خلافة السنهوري ليس «ناقصاً» أو «غير نظامي» وحسب، وإنما هو شبحي المبدأ والمآل. وأما خلافة أبي بكر البغدادي فليست شبحاً، بل هي مصّاص دماء خرج من طلب الخلود المهيمن على عالم لا ينفكّ يتهاوى… وقد بذل السنهوري وغيره جهوداً عظيمة اتّحد فيها التوفيق بالتعمية حتى لا نجد لنا زورق نجاة يخرجنا منه.
كاتب لبناني
القدس العربي