رزان زيتونةصفحات مميزة

صُنَّاع الثورة


رزان زيتونة

يحتاج الأمر إلى ثلاثة أو أربعة “فدائيين” في كلّ مسجد، ليبدؤوا بالهتاف بعد انتهاء الصلاة. يعتمد الأمر على الكثير من العوامل. مثلاً، في مدينة مثل بانياس الساحليّة، أهلها يعرفون بعضهم بعضًا بشكل جيّد، ومن السهل تمييزُ “الغرباء” أو “العواينية،” كان يكفي أن يبدأ شابٌّ مثل أنس الشغري الذي يحظى باحترام كبير من قبل الجميع ويتمتّع بكاريزما معقولة رغم صغر سنّه (23 سنة)، بالتكبير والهتاف بعد الصلاة، حتى يتبعه جميعُ المصلّين، ومن ثمّ معظمُ أهل المدينة. كان ذلك في البدايات بشكل خاصّ، حيث البداية في حدّ ذاتها تحتاج إلى جرأة ومغامرة كبيرتين.

أنس معتقل اليوم منذ أكثر من شهر عقب اجتياح المدينة والتنكيل بأهلها. الشبّان يفتقدون أنس إلى درجة كبيرة. ولا يزالون حتى اللحظة يربطون أيّ حديث عن المدينة بقصص عن أنس وشجاعته، وعن دوره في الحراك الاحتجاجيّ هناك وفي إشاعة أجواء من الأمل والتفاؤل بين الجميع.

 يقول شبابُ الثورة في بانياس إنّ غياب أنس الشغري، باعتباره ممثلاً للتيار الشبابيّ للثورة في المدينة، وغيابَ الشيخ الشابّ أنس عيروط (لكونه متواريًا بفعل الملاحقة)، باعتباره ممثّلاً للتيّار الدينيّ، قلّصا بنسبة النصف حراكَ المدينة التي كانت من بين الأنشط والأسبق في المظاهرات الحاشدة والهتافات المرتفعة المطالب. اليوم، المسجد الذي كانت تنطلق منه المظاهرات مغلق ومحاصر بالرشّاشات وعناصر الأمن والجيش. وقد تكامل غيابُ قادة الاحتجاجات مع الحضور الأمنيّ والعسكريّ الضاغط بشدة، ليحدّ قليلاً من حراك المدينة وأهلها. لكنه لم يستطع وأد هذا الحراك بأيّ حال من الأحوال.

قادة الاحتجاجات لا يلعبون دورًا مماثلاً في جميع المناطق، ولاسيّما في المدن الكبيرة التي لا يُعرف فيها “ابنُ البلد” من “الغريب.” هذه هي الحال مثلاً في دمشق العاصمة، حيث مهمّةُ تنظيم المظاهرة والانطلاق بها أمرٌ بالغ الصعوبة والتحدّي. يقول شابٌّ من إحدى تنسيقيّات دمشق إنّ أحدًا لا يعرف الآخر، وبخاصّةٍ في الجوامع الكبيرة. ويظنّ البعض أنّ من يبدأ التكبيرَ رجالُ أمن يحاولون الإيقاع بالمصلّين، أو ربما ينتظر معظمُ الموجودين أن تكبر المظاهرة لينضموا إليها، وهو ما يجعلها توأد في مكانها. في بعض الحالات، يقوم عدد من الأهالي “الموالين” بقمع المحتجّين وضربهم واحتجازهم حتى وصول الأمن.

في المحصّلة، لا بدّ من أحدٍ يبدأ، والبداية محفوفة بالمخاطر، خصوصًا في المناطق ذات الوجود الأمنيّ الكثيف. في محاولات التظاهر الأولى انطلاقًا من الجامع الأمويّ بدمشق، أظهرتْ مقاطعُ فيديو عشرات الشبيحة والأمن يضربون شبّانًا في ساحة الجامع، ويسحلونهم على أرضه ودماؤهم تسيل من خلفهم، في الطريق إلى سيّارة الأمن التي ستسوقهم إلى المجهول. سألتُ أحد هؤلاء الشبّان مرةً عن اللحظات الأولى التي يبدؤون فيها بالهتاف، عن مدى الجرأة التي يحتاج إليها المرءُ كي يبدأ بالهتاف “حريّة حريّة.” صديقي لم يجد جوابًا. قال إننا نبدأ هكذا. لا نفكّر بالقادم. نفكر أنه قد ينضمّ إلينا العشرات أو المئات أو الآلاف.

يقول في لحظات البداية تلك، تكون هناك مؤشّراتٌ إلى الفشل أو النجاح. بالتأكيد، تكون هذه المحاولات منظّمة مسبّقًا، وليست عفويّة كالتي تحصل أيّام الجُمع في المدن التي اعتادت التظاهر بعشرات الآلاف. الشباب يصلون في الموعد المحدّد. بعضُهم يصلون لدواعي التظاهر، بمعنى أنهم غيرُ متديّنين، أو غيرُ مسلمين في بعض الأحيان.

في اللحظات الأولى، إما أن يتداعى آخرون للمشاركة، أو يتغلّب الخوفُ والوجود الأمنيّ على المحاولة. لكن ما إن تنطلق، وتكون بين كلّ أولئك “المندسين،” والصوتُ يهدر هدرًا، حتى تتخيّلَ نفسَكَ محمولاً على الهتافات، وتتراءى كلُّ جدران الخوف وأمارات الذلّ تركض من أمامك. أنت هناك ولا شيء يمكن أن يزيحك عن المكان: لا عناصر الأمن والشبّيحة، ولا رصاص القنّاص، ولا الدبّابة. تشعر أنك ستبقى هناك منتصبًا ومواصلاً صراخك الهستيريّ، لأنك للمرة الأولى تسمع لنفسك صوتًا. تبقى هناك وإنْ غالبتك رصاصةٌ في القلب أو الرأس، وشوهد جسدُك ينزف في مقطع فيديو، محمولاً كخرقة على يد عشرات الشبّان الملتاعين، يصرخون “الله اكبر،” ويطلبون إليك ويكرّرون الطلب أن تنطق بالشهادة، وأنت تتردّد قليلا، لا لشيء إلا لأنك مازلت هناك واقفًا تهتف للحريّة.

أحد الأصدقاء من قياديّي المظاهرات في منطقة الزبداني في ريف دمشق يقول إنّ مشاعره في تلك اللحظات، عندما كانوا خمسين “مندسّاً” فقط، تقتصر على الخوف، وكان “قلبي دائمًا بين قدميّ.” ويتابع:

“في البداية، كنّا ندخل الجامع نحو خمسين شابّاً، نتوزّع في أنحائه. وعندما يبدأ الأصدقاءُ بالهتاف نتْبعهم بالتدريج، لإعطاء إيحاء بأنّ المصلّين يتجاوبون، وأنّ الجامع كله قام. أما اليوم، ومع المظاهرات اليوميّة الحاشدة، فأحسّ أنني أملك نفسي وحريّتي فعلا… حتى إنني أحيانًا ألتفت إلى أصدقائي في المظاهرة وأقبّلهم ونتبادل التهاني.”

يقول صديقي إنّ للمظاهرة ثلاثة عناصر أساسيّة: الحشد، والإعلام، وأمن المظاهرة. الإعلام هو الأصعب. أحضرنا “البافلات” من مضايا، ووضعنا لها بطّاريّة تركس، وحملناها على عربة. الشعارات تمّت بالاتفاق. القماش الخام نجلبه من دمشق، والخطّاط شخص “مندسّ.” الهتافات غالبًا نستوردها من الفيديوهات التي نشاهدها للمظاهرات الأخرى. وبعد انتهاء الصلاة، إذا وجد “عواينيةُ” المندسّين أن الوضع الأمنيّ يسمح بانطلاق المظاهرة، فإنها تنطلق بسلاسة. ومع بدء الهتاف، ينضمّ المئاتُ فورًا.

أسأل صديقي إنْ كان يصلّي قبل الثورة، فيقول إنه كان يذهب أحيانًا إلى صلاة الجمعة، أما اليوم فهو لا يترك صلاة… ويقصد أنه لا يترك مظاهرة.

يهوى الشباب وصفَ تلك اللحظات بكثير من التفاصيل، خصوصًا أنّ التخطيط لها يستغرق ساعاتٍ ولياليَ من النقاش والاجتماعات والخلافات. والأطر المختلفة التي تشكّلتْ من أجل جمع المجموعات الميدانيّة المتناثرة تحت مظلّة من التنسيق والرؤية الموحّدة حقّقتْ كسبًا معنويّاً للشبّان على الأرض أكثر ممّا تحقّق عمليّاً. وعلى هذه الصورة تأسّس “ائتلاف شباب الثورة” و”اتحاد التنسيقيّات” وغيرُها كثيرٌ من الأطر المشابهة.

لجان التنسيق المحلية كانت من أوائل تلك الأطر. وقد تشكّلتْ باجتماع عدد من الشباب الناشطين ميدانيّاً في عدد من المناطق والمدن، بالإضافة إلى بعض النشطاء الحقوقيين. وسرعان ما أفرزت اللجانُ مكتبًا إعلاميّاً يتولّى متابعة الأخبار والتواصل مع شهود العيان ووسائل الإعلام المختلفة. معظم أعضاء المكتب من النشطاء المغتربين والمتطوّعين الذين لم تكن لهم خبرةٌ سابقةٌ في أمور الإعلام. ومع ذلك، وبزمن قياسيّ، أصبح للمكتب حضورٌ بارزٌ بوصفه أحدَ أبرز مصادر أخبار الثورة.

تقول إحدى الصبايا الناشطات في المكتب: “في البداية لم يكن أحد من شهود العيان والنشطاء الميدانيين الذي نتواصل معهم من أجل الأخبار يعلم شيئًا عن اللجان. مع الوقت أصبحنا نتحدّث عن الأمر، خصوصًا مع تردّد اسم اللجان في الإعلام. ثم أصبح هؤلاء بشكل تلقائيّ يعتبرون أنفسهم من اللجان، ويشاركون الرأي في نشاطها، ويشعرون أنهم تحت مظلّتها. الإحساس أنّ هناك من ينطق باسمهم ويعبّر عن مواقفهم هو الأهمّ بالنسبة إليهم؛ فالأمور على الأرض تمشي على أيّة حال!

في مكتب ممثّلي اللجان تُطبخ عمليّاتُ التنسيق من أجل النشاط الميدانيّ، فيتمّ الاتفاقُ على الشعارات والهتافات وسواها. ولا يزال أصعبُ التنسيق وأكثره تعقيدًا في لجان دمشق، التي تحتاج دائمًا إلى قرارات وتخطيط و”فدائيين،” بعكس بقيّة المدن التي أصبحتْ فيها المظاهراتُ من قبيل تحصيل الحاصل.

يناقش الممثّلون أيضًا المواقفَ والمستجدّات السياسيّة. معظم الشباب لا تجارب سياسيّة سابقة لهم. قد يخوضون نقاشاتٍ مطوّلة على خلفيّة اختلاف البيئة والثقافة التي أتوْا منها: من الدفاع عن الشيخ العرعور، إلى إدانته واتهامه بالتسلّق على الثورة… لكنه لا يختلفون أبدًا على ما يعتبرونه مسلّمات: الحريّة وإسقاط النظام.

في جميع الأحوال، يبدو الشباب على الأرض أكثر استرخاءً وأقلّ انفعالاً منا، نحن الذين نراقب الأحداث عبر شاشة الكمبيوتر والتلفزيون وأصوات شهود العيان وروايات الأصدقاء الناشطين ميدانيّاً. ربّما يعود ذلك إلى أنهم يشعرون أنهم باتوا يمتلكون الطريق. حتى في الأماكن المحاصرة بالدبّابات والقنّاصة، يسرق الشباب لحظاتٍ ليليّة للخروج والهتاف، ولإثبات أنهم ما يزالون يملكون المساحة التي حرّروها من الخوف، وأنّ الأبواب التي لم تفتحْ بعدُ بشكل كامل لم يعد من الممكن إقفالُها بعد اليوم على الإطلاق.

 المقالة منشورة في مجلة الآداب, عدد ٧-٩ /٢٠١١

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى