ضائقة النظام: احمد صياصنة ورياض الترك في المسجد العمري!
صبحي حديدي
إذا لم يكن ظهره قد دُفع، صاغراً لا مختاراً، إلى جدران البقاء الأخيرة؛ وأخذت خياراته في قمع الإنتفاضة الشعبية تتخبط، قبل أن تنهار، أسبوعاً بعد آخر؛ كيف يمكن لنظام بشار الأسد أن يعتمد أحدث خطّ دفاع يتمثّل في تحويل سورية إلى سجن كبير، واعتقال أكثر من ثمانية آلاف مواطن خلال أقلّ من أسبوع؟ وكيف لا يكون سقوط النظام وشيكاً، وقاب قوسين من أقصى اليأس، إذا خال أنّ الوسيلة المثلى لمنع التظاهرات هي… اعتقال كلّ مواطن/ مشروع متظاهر، واستخدام الدبابات في احتلال ساحات المدن والبلدات، ونشر الوحدات العسكرية حول وداخل درعا ودوما وبانياس وحمص واللاذقية والقامشلي، وإطلاق قطعان ‘الشبيحة’ بعد أن صارت جيشاً خاصاً تتوحّد في صفوفه عناصر الأجهزة الأمنية وأزلام رجالات النظام؟
وكيف لا تتكشف ضائقة النظام، حتى في خبيئة حاسري البصر والمتعامين عن عمد وحاجبي شمس الحقيقة بغربال التدجيل والتزييف، إذا كانت السجون وأقبية الأجهزة قد عجزت عن استيعاب الأعداد المتزايدة من المعتقلين، فزُجّ بهم في معسكرات اعتقال جماعية؟ وكيف إذا كانت بعض هذه المعسكرات مخصصة، أصلاً، لأنشطة تلامذة أطفال لا تزيد أعمارهم عن 12 سنة، كما في معسكرات ما يُسمّى ‘طلائع البعث’، هنا وهناك في مختلف المحافظات السورية؟ وهذه منظمة كانت مفخرة ‘الحركة التصحيحية’، لأنها استهدفت الإستيلاء على مدارك الطفل منذ تفتحها، وتنشئته على عبادة الفرد/ القائد حافظ الأسد، ثمّ وريثه من بعده، ‘إلى الأبد! إلى الأبد!’ كما يقول الهتاف الشهير. وها هي معسكرات المنظمة، الأشدّ ابتذالاً من أي ابتكار تربوي فاشي، تعود إلى أداء الوظيفة الفعلية المناطة بها في الجوهر: اعتقال العقل، ومصادرة الوعي!
وفي مستوى آخر من سياسة تحويل سورية إلى سجن كبير، ثمة هذا التبدّل الدراماتيكي في مواقف السلطة من مناطق الشمال الشرقي، و’الجزيرة’ بصفة خاصة، ذات الأغلبية الكردية. ذلك لأنّ السلطة لجأت إلى رشوة المواطنين الكرد، عن طريق ما سُمّي ‘منح الجنسية’، فقوبلت بصفعة من جماهير القامشلي وعامودا والدرباسية ورأس العين وسواها من المدن والبلدات والقرى التي شهدت تظاهرات واسعة ردّاً على تلك ‘الرشوة’، فأعلن المتظاهرون أنهم طلاّب حرّية، لا جنسية. وهكذا، عادت السلطة إلى سياستها المعهودة في القمع والتنكيل والحصار، وكان اعتقال الناشط الحقوقي عبد القادر معصوم الخزنوي في القامشلي مثالا صارخا على انقلاب ‘الرشوة’ إلى نقائضها.
مثال آخر هو الشيخ أحمد صياصنة، المطلوب اليوم ميتاً من الأجهزة، وليس حياً؛ إذْ أين ذهبت مناقبه الكثيرة التي لم يتوقف إعلام النظام عن تعدادها وسردها في الأيام الأولى من اندلاع تظاهرات درعا، حين كان التكتيك يقتضي مغازلة الشيخ بهدف تليين عريكته، أو اكتسابه إلى صفّ النظام، أو حرق مكانته على الصعيد الشعبي؟ وكيف، ما بين طرفة عين وانتباهتها، جرى تأثيمه وصار رأسه مطلوباً، فأعدمت الأجهزة ابنه، أسامة، في قلب الجامع العمري لأنه رفض الإفصاح عن مكان اختفاء أبيه؟ كذلك صار الشيخ موضوع تلفيق رخيص، وتمّ إجبار البعض على ‘اعترافات’ تنسب إليه تسليح ‘الإرهابيين’ وتمويلهم (أحد هؤلاء وصف الشيخ صياصنة بأنه أخضر العينين أبيض اللحية، في حين أنّ الرجل ضرير، بعين مغلقة وأخرى بيضاء، كما أنه غير ملتحٍ!).
وإذا كان الشيخ صياصنة في عداد المتهمين بالوقوف وراء ‘الإمارة السلفية’ المزعومة؛ فما هي تهمة عمر قشاش (85 سنة)، النقابي السوري المخضرم والشخصية القيادية في ‘حزب الشعب الديمقراطي’؛ أو تهمة حسن عبد العظيم (81 سنة)، الأمين العام لـ’حزب الإتحاد الإشتراكي العربي الديمقراطي’، والناطق باسم ‘التجمع الوطني الديمقراطي’؟ وما هي تهمة فهمي يوسف، أو لينا محمد، أو منهل باريش، أو دانا الجوابرة (التي اعتُقلت للمرّة الثانية منذ اندلاع الإنتفاضة!)، والآلاف من المعتقلين، الشيوخ والنساء والأطفال، العرب والكرد والأرمن والسريان، المسلمين والمسيحيين، السنّة والعلويين والدروز؛ إذا كان من غير المعقول أن تُلصق بجميع هؤلاء تهمة السلفية تارة، أو الإندساس في صفوف التظاهرات طوراً؟
إجابة أولى عن هذه الأسئلة، وهي كاشفة عن القيعان الفاضحة التي هبط إليها إعلام النظام، كان قد اقترحها أحد أبواقه، الدكتور طالب إبراهيم، حين أعلن على الملأ أنّ رياض الترك (الأمين العام لـ’رابطة العمل الشيوعي’، كما قال هذا الجهبذ العبقري)، متواجد داخل المسجد العمري في درعا، ممّا يعني اشتراك الشيخ السلفي أحمد صياصنة مع الشيوعي العلماني رياض الترك في التآمر على النظام. ولقد فات الدكتور، وهو الذي يزعم المعرفة والمعلومات والتواصل مع القيادات الأمنية ومكتب وزير الدفاع (رغم أنه ليس بعثياً، كما يردّد دائماً، يا سبحان الله!) أنّ الترك مناضل مخضرم وقيادي بارز في ‘حزب الشعب الديمقراطي’ وليس في ‘حزب العمل الشيوعي’؛ وأنّ هذا الحزب الأخير تخلى، منذ سنوات طويلة، عن اسم ‘رابطة العمل الشيوعي’!
ما لم يكن قد فات على هذا البوق، إذْ يقول المنطق أنه كان يعي تماماً، أنّ المعلومة التي ساقها ليست أقلّ من تحريض مباشر على تصفية الترك عن طريق اغتياله، أينما ثقفته الأجهزة الأمنية في أيّة بقعة من سورية، ثمّ الزعم بأنه كان يقاتل (وهو ابن الـ 81 سنة!) في الجامع العمري، كتفاً إلى كتف مع الشيخ صياصنة. ومن جانب آخر، أيّ ضير في أن يكون الترك متواجداً مع أهله ومواطنيه أبناء درعا، في المسجد أو في سواه؛ بل يا له من شرف أن تكون قيادات سياسية مخضرمة حاضرة على رأس الحدث، في قلب الإنتفاضة، وعلى حافة الإستشهاد من أجل الوطن، في برهة صناعة التاريخ؟ صحيح أنّ الترك، وربما الشيخ صياصنة أيضاً، كان يفضّل مجابهة النظام من ساحة المرجة أو ساحة يوسف العظمة، ولكن ما دامت الدبابة تحتلّ الميدان، والفضاء بأسره مغلق أمام المتظاهر، بقوّة السلاح والحصار، فممّ يشكو المسجد؟
ما لا تجيب عنه الأبواق، في المقابل، هو السؤال التالي: أين ذهبت، إذاً، ‘مكرمة’ الأسد المتمثلة في رفع حال الطوارىء، إذا كان الإعتقال العشوائي، خارج أية سلطة قضائية، هو القاعدة الأولى؛ وإذا كانت آلة القمع تدور بوتائر أسوأ من ذي قبل، وأشدّ استهانة بكرامة المواطن وحقوقه؟ الإجابة، هنا أيضاً، تستمدّ بساطتها من حقيقة أنّ النظام كان يكذب في حكاية ‘الإصلاحات’، من الألف إلى الياء؛ وأنه غير راغب في الإصلاح، وعاجز عنه حتى إذا دُفع إليه؛ لأنّ أية خطوة إصلاحية ذات معنى كفيلة، في وجهها الآخر، بتقويض ركن من الأركان التي ارتكز ويرتكز عليها النظام.
ويهمني، في هذا السياقات من تطوّر خيارات النظام الأمنية، إعادة تثبيت سلسلة من الأفكار التي سبق لي أن طرحت بعضها في مناسبات شتى، ومنذ الأسابيع الأبكر في انطلاق عمليات تحضير بشار الأسد لوراثة أبيه؛ وكانت أحدث المناسبات حوارا جمعني، مؤخراً، مع الصديقين فاروق مردم بك وبرهان غليون، وأداره الصديق الكاتب والأكاديمي اللبناني زياد ماجد:
ـ أنّ نظام الأسد الابن هو امتداد عضوي لنظام ‘الحركة التصحيحية’ الذي بدأ سنة 1970 مع انقلاب الأسد الأب؛ وقام، سيما بعد حرب تشرين الاول (أكتوبر) 1973، على ركيزتين: الأجهزة الأمنية الشديدة الولاء له بمختلف الرتب فيها، والسياسة الخارجية (الموقف من الحرب العراقية ـ الإيرانية، والتدخل العسكري في لبنان، وحرب المخيمات، ومحاولة تدجين المقاومة الفلسطينية…) بوصفها جالبة أموال وصانعة اقتصاد سياسي.
ـ طوّر النظام نظرّية قسّمت الناس الى فئات ثلاث: الأولى للسواد الأعظم من المواطنين الباحثين عن الرزق اليومي، العازفين عن السياسة بسبب من مشقة ذلك البحث أساساً؛ والثانية هي شبكات الولاء والإرتزاق والفساد، وهؤلاء جمهور النظام بالضرورة؛ وأمّا الفئة الثالثة، فهي للمثقفين والمعارضين والناشطين، ومن أجلهم شُيّد سجن المزّة، كما عبّر الأسد الأب ذات مرّة.
ـ حين دخل النظام مرحلة التحضير للتوريث، دُفعت جميع الأجهزة الأمنية وشبكات الإنتفاع إلى الولاء للوريث الأوّل، باسل الأسد. لكن مقتله في حادث السير المعروف، أدخل النظام في دوّامة سباق مع الزمن لتحضير الوريث الثاني، بشار، من جهة أولى؛ ولإعداد مؤسسة الحكم، بأطرافها العسكرية والأمنية والاقتصادية، للقبول بالوريث الجديد، من جهة ثانية. ولم يكن الأمر يسيراً في البدء، خاصة وأنّ الوضع الصحي للأسد الأب كان يتدهور بشكل حثيث، ويطلق سباقاً ثانياً مع الزمن.
ـ لكنّ المؤسسة الحاكمة، التي لم تكن جاهزة تماماً لموالاة بشار، عادت فوجدت ضالتها فيه، بل لعلّه كان الخيار الآمن الأفضل لاستمرار التعايش، واقتسام النهب، بين أطراف الحكم العسكرية والأمنية والاقتصادية. ولهذا فقد جرى اعتماد نظرية جديدة تقسّم الشارع السوري الى فئتين (بدل الثلاث السابقة): الشارع المدجّن/المحاصر، القابل بالوضع الراهن أو المحال الى السجون عبر قضاء كاريكاتوري أو اتكاء على حال الطوارىء؛ وفئة الجمهور الصامت (وهو الأكثرية)، الخائف من وقوع سورية ضحية السيناريو العراقي أو اللبناني. فإذا أُضيف عامل السياسة الخارجية، حيث اقتات النظام على حماقات أمريكا أو مغانم إيران جراء تلك الحماقات، يصبح جلياً سبب اقتناع النظام بأنه محصّن ضدّ انتفاضة شعبية على غرار ما شهدته تونس ومصر (وهو ما عبّر عنه الأسد في حواره الشهير مع ‘وول ستريت جورنال’).
ـ المؤسسة الحاكمة فوجئت بالإنتفاضة الشعبية السورية، فأصابها ارتباك في البدء، لأنها غير معتادة على مواجهة احتجاجات شعبية واسعة. كذلك فإنّ الجهاز الأمني، الذي لا تراتبية حقيقية فيه (ليس تماماً على غرار الحال في الفرق العسكرية) بدا تائهاً من حيث مرجعية القرار التنفيذي على الأرض، ومخاطر الفشل في مواجهة الإنتفاضة بالأساليب الكلاسيكية المعتادة.
وهكذا فإنّ القرار اليوم هو في عهدة مجموعة محدودة من الأشخاص، العسكريين والمدنيين، على رأسهم الأسد وشقيقه (وما بينهما تقسيم أدوار، بين العصا والجزرة، ليس أكثر)؛ وفي عدادهم كبار المقرّبين من ضباط الأجهزة الأمنية وعدد محدود من قادة الفرق والألوية في الجيش، فضلاً عن رامي مخلوف ابن خال الرئاسة، وصفوة عليا من رجال الأعمال في دمشق وحلب بصفة خاصة.
وإذا كانت غالبية هؤلاء تنتمي إلى الطائفة العلوية، في صفوف العسكريين بصفة خاصة، فإنّ تركيبها ليس طائفياً، بل هو اجتماعي ـ اقتصادي في المقام الأوّل، وهم، جميعاً، يتخبّطون اليوم إزاء الحلّ الأمني، ولا خيار أمامهم غير اللجوء الى العنف، إذْ لا يلوح أنهم ينوون تقديم تنازلات جوهرية، فكيف بالرضوخ للإرادة الشعبية.
ذلك يدفعهم، أكثر فأكثر، إلى جدران الخيارات الأعنف، ليس دون يأس سريع من هذا الخيار، وانتقال أسرع إلى سواه؛ وليس دون ذعر متعاظم من اتساع نطاق التحركات الشعبية، وتبلور أهدافها على نحو أكثر صفاء، وأعلى جسارة واستعداداً للتضحية، وأبعد عن أضاليل ‘الإصلاح’ وانكشاف طوية ‘المصلحين’.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس