ضدّ دُعاة الأصالة/ علي جازو
قد تُكوّن الجذور الدينيّة والعرقيّة معرفة خطيرة إذا ما اكتُفِي بالانتماء إليها وحدها. إنها منغلقة يقينيّة وتكاد تكون جامدة. فكيف يمكن الخطير والجامد أن يحمي من يلوذ به!
ثمة عداء نفسيّ يتأزّم ويتكرر عن سقم العلاقة مع مرور الوقت، ولربما يكون هذا النوع من العداء أخطر من خلاف حقيقي حول مسائل محددة، أو هو نوعٌ من قناعِ أزمةٍ لا تجد حلاً خلف الأقنعة، فتبقى مؤجّلة ومؤجّجة، كمن لا يجد أي طعام فيأكل من رفات أجداده.
تعادي الأصالة التجربة المحايثة والواقع الجاري، وتفضّل برد النموذج وأسبقية المثال على لحم الواقع الساخن. يبدو الزمن ساحة جدل حول أصالة بلا نهاية وبلا ضفاف، حيث يستريح حاضرٌ مُهمَل ضعيفٌ ويقوى فشل حالّ.
وكي يستقيم الفصل، يقطّع التواصل الحيّ والمستمر إلى حاضر ٍوماضٍ ومستقبل. هكذا يفعل التجريد المنطقي فعله المنير والصافي من كل شائبة. الحنين مراوحةً في المكان يتحول إلى تقليد شافٍ يجلب الصبر لما لا يطاق عليه صبرٌ. غير أن الأصالة هي الوحيدة التي ينصرف مضمونها إلى الماضي السعيد، حيث يخفّ العبء وتوهن العلاقة، ويكمن تناقضها في أنّها تشكل أساس الدعوة إلى المستقبل أيضاً. هي قائد في السبيل وهي دليل على الصحة ودرء عن الشّرَك، كما لو أنّ كل خطوة إلى الأمام ليست سوى خطأ، وأن الارتداد إلى الماضي هو العلاج الوحيد.
إنه الوصف الذي يمكن أن نجد الاستحالة في قلبه، فما مضى لا يعود إلا في شكل مرضٍ جنينيّ الصفات، يحمله من لم يعد طفلاً، ولا ابناً لأحد.
قوامُ الأصالة الشبحيّ يزيد من متانته النقية المدّعاة حيث لا وجود لنقاء أكيد. تكاد تكون الأصالة حلم يقظة، رغم ما للأحلام من قوة غير مشــروطة بشيء، فيما الأصالة هي شرط لكل ما عداها، ذلك أنها الميزان الذي يفرز الخاطئ عن الصحيح، والحقيقي عن المزيف، والجميل عن القبيح. إنـــــها حجة من لا شيء في يده سوى سوط الفرز الأعمى.
غير أن قوة الأصالة تنحدر من بدهية بلا مساءلة، ويتحول نقاؤها إلى ما يشبه ديناً من دون موضوع، وفي ذلك قوتها وطفوليتها.
إنها بديل عن عقيدة فقدت تبريرها، وهي أيضاً حاجة إلى ملء فراغ لا يملأه الحاضر. دعاة الأصالة أقرب إلى مبشرين بالماضي، إنهم لذلك يتقون الحاضر كما لو أنهم يقيمون بين جدران قديمة، ظناً منهم أنها تحميهم، كما لو أن الزمن المعاصر مرضٌ سيفتك بهم.
الحاضر يسأل، ولا يكفّ عن السؤال، وهو في ذلك يشبه التواء جسد جائع، حيث لا حماية ولا توقف عن حدّ من حدود الكفاية. لكنّ الأصالة ترمي خُوَذها على الحشود فتخفيهم لأنها تخيفهم، ويرفض مروّجوها الاعتراف بأن ما تحت الخوذة ليس سوى جثة، وأن الجثث غذاء مسموم. ثمَّ من يدري، قد يكون الملوث بالزمن وأحداثه أقرب إلى النقاء من ذاك الذي يحيط نفسه بكفن الأصالة النظيف!
ولربما يكمن سرُّ الأصالة الجاذبُ في سهولة نيلها. ذلك أنها موضوع للفرجة وحسب، حالُها حالُ البؤس المستعاد الذي لا يؤذي أحداً طالما ظلّ المتفرج سعيداً ببُعده عنه.
* كاتب سوري
الحياة