ضد الجميع معاً .. لأجل سوريا فقط.
خلود الزغير
كنتُ وحيدة.. أو ربما مع بضعة أصدقاء، أمشي في أحد شوارع دمشق. فجأةً رأيتهُ قادمٌ نحوي، أو نحونا، إنّه أحد أصدقائي السوريين في باريس الذين نتواصل بشكل مستمر. كان غاضباً وعيناه حمراوان فلمْ تكدْ تميزاني. لم أدرك للوهلة الأولى سبب هيجانه المحموم في الشارع وهو يحمل عصاً وينزل من سيارة مكشوفة راكضاً نحونا بقصد ضربي أو ضربنا؟ عندما اقترب تيقنت أنّ غضبهُ أعماهُ عن معرفتي أنا .. صديقته! بدأت أصرخ في وجهه : … ، أنا خلود، لك أنا خلود، يلعن أبو السياسة.
لأستيقظ من نومي مذعورة.
ليس غريباً أن أرى هكذا كابوس، أنا المصابة بالحلم، بعدما لاحظتُ كيف نصبَ أهلي وأصدقائي وأبناء وطني المتاريس وتموضعوا خلف نافذتين على الفيسبوك أو شعارين في الشارع، أحدهما وضع العلم السوري رمزاً للوطن سورية، والآخر وضع صورة لسيّد الوطن. وأعلنوا النفير.
الشعب السوري الذي حَلُمَ بأن يسمع ما يزيد عن رأيٍ واحد ويرى ما يتعدى شعاراً واحد في ساحاته، لم يتمن أبداً أن يكون أحد هذه الآراء أو الشعارات مكتوباً على قماشٍ أبيض والآخر مُبلّلاً بالدماء ومُثقّباً بالرصاص. ما حلمَ به السوريون إعلاماً واقعيّاً لا محطات مسعورة، بعضها ناطق بلغة خشبية وآخر بلغة حديدية.
لذلك إذا كان لهذا الإنتظار الطويل للسوريين أن ينتج مرحلة جديدة تنتقل لها سورية فلتكن واقعية بقدر ما هي ديمقراطية، عقلانية اكثر مما هي تنظيرية، تعددية لا إقصائية ولا انتقائيّة ولا ترقيعيّة. إنّ مرحلة كهذه تفترض إزالة المتاريس من الجانبين لكن أولاً وقبل كل شيء احتراماً لوقف مُبادلة الكلام بالنار والحرية بالإعتقال.
سورية التي تولدُ الآن من رحم زنزانتها بغير حنين، تطالبُ الحرس القديم بالسلطة بكفّ اليد عن عنقها لتخرج سالمة، وهي بنفس الوقت تطلب ذلك من الحرس القديم في المعارضة أيضاً. فقط لأنها تُولد بيد شبابها خارج أيديولوجيات وحزبيات الجبهتين ومعاركهما القديمة وغير مسؤولة عن نتائجهما.
الشعب السوري الذي خرج متحدياً الرصاص، لا خراطيم المياه ولا القنابل المُسيّلة للدموع فقط، ليطالب بإصلاحات ومطالب مشروعة لكل إنسان مُعترف بكرامته كمواطن في أي دولة بالعالم، وردد هتافات لم يكن يوماً ليهمس بها داخل جدران غُرف نومه، يستحق بعد هذه التضحية لأجل مستقبل سورية وأبناءها وقفة مسؤولة تتناسب مع دمائه ومع سورية الجديدة. فتقسيم الشعب السوري بين مندسين أو أغبياء مُغرّر بهم هو احتقار وإهانة لرقي ووعي السوريين الذين أسقطوا كُل تُهم الطائفيّة في الشارع وأمام الجميع عبر هتافاتهم المُعبّرة عن وحدتهم الوطنية وخرجوهم بمعظم شرائحهم وطوائفهم معاً. وحين أسقطوا أيضاً تهمة الإثنيّة والإنفصالية التي طالما ألصقت بالأكراد السوريين الذين وضعوا مطالبهم وحقوقهم كشعب سوري فوق أي مطلب قومي ونزل للشارع تضامناً مع إخوته في درعا واللاذقية هاتفاً لدماء الشهداء ورافضاً الجنسية التي حصل عليها بعد 50 سنة حتى تتحقق الحرية لجميع السوريين، مؤكداً على سوريته أولاً. هذا الوعي والنضج للشارع السوري يستحق أن ترفع عنه تهم الإندساس والخيانة والإستغباء، وأن يرفع عنه أولاً الرصاص والعُصي لأن تاريخه يشهد بوطنيّته وحاضره يتكلم الآن.
الشعب السوري المكلوم بأبنائه سيكون عزاءه أكثر هدوءاً لو كفَّ بعض الفنانين الذين سلّوا الشعب في فترة سباته عبر بعض الأعمال الدرامية ، عن التشدّق بما لا يتناسب مع طقوس العزاء والموت، الأعمال التي كانت تعكس آلام ومعاناة وواقع الشارع السوري فآمن بشخصياتهم التمثيلية وأحبّها لذلك لم يعد جميلاً اليوم أن يكذّبوا هذه الأعمال ويتنكروا لها وكأنهم يقولون لنا كنا نتكلم عن الواقع في تونس أو اليمن أو ليبيا وليس عندنا!! وليكفّوا عن العمل في الدعايات بعد أن وصلوا للدراما والسينما. وهي نصيحة لرجال الدين الأفاضل كذلك، الذين صالوا وجالوا في العقود الماضية حين لم يبق للناس غير الله وغيرهم واكتسبوا شعبية ومستمعين كُثر من الناس، لذلك يبدو توظيفهم في الدعايات والفتاوى مجدياً في كبح جماح العديد من البسطاء والمريدين وتوجيه الرأي.
من جهة أخرى، وبعد ما يقارب الشهر على خروج الشارع السوري وسقوط مئتي شهيد تقريباً وآلاف الجرحى والمعتقلين، لم نسمع حتى الآن بتشكيل ما يُسمى ائتلاف للثورة يجلي للحائرين من الشعب السوري من يقوم بالتنسيق لهذه الثورة؟ ومن ورائها؟ وما هي أهدافها وأفقها؟ ويقدم حزمة أفكار تُطرح للنقاش بين أفراد هذا الشعب الذي يدفع الدماء الآن، كي لا يستشهد شخصين لهدفين مختلفين. لأن عدم وجود مثل هذا الإئتلاف يترك الباب مفتوحاً لإتهامات بالمؤامرات الخارجية والإندساس وغيرها.
ما نسمعه حتى الآن أصوات وبيانات متفرقة لمثقفين سوريين معارضين أو مُحللين سياسيين أو حقوقيين أو نُشطاء وشهود عيان والإعلام مُغيّب طبعاً ومقموع!!
لذلك إذا ما شكّل كل هؤلاء معاً ائتلاف مبدئي على الأقل، رغم كل ما سيعيق هذا التجمع من قمع أو تخوين، لكن بما يتكافئ مع دماء الشهداء وتضحيات الشارع السوري، ويقدم رؤية واضحة إلى حد ما لما يجري وجرى ولخطوات هذه الحركة الثورية في سورية الآن من حيث توجهاتها وأهدافها ومكوناتها ومبادئها ويبعد عنها الشبهات التي تجعل فئات كثيرة اليوم تكيل لها إما الإتهامات أو تنظر لها بتوجس وحذر. ويقدم هذا التجمع ميثاق شرف بين أفراده وعلى مستوى علني وإعلامي أوسع من الفيسبوك بأن سوريا إذا كان لها أن تدفع دماً فهو لدولة مدنية لكل السوريين وليس لدولة دينية أو طائفية. وبالتالي تقديم مشروع سياسي واضح يقف خلف نضال الشعب ويسانده، وبنفس الوقت يساعد على فهم ما يجري في ظل هذه الفوضى والإعلام الأيديولوجي. فلا يمكن لثورة أن تستمر بدون قلب لها يُصر على بدء حوار عقلاني مع النظام، وإن رفض، ككتلة واحدة متفقة على مجموعة مطالب ذات مشروع سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي مبدئي على الأقل، بعد أن صار لهم قاعدة شعبية مستعدة للموت لأجل الحرية. لأن بالمقابل الفئات الأخرى المتوجسة تنتظر منهم إثبات أو نفي أي إرتباط مشبوه بجهات ذات حساسية للشعب السوري للإزالة الخوف من قلبها. فإذا كنتم ترون أن ما يجري اليوم في سورية هو ثورة شعبية تشبه ما حصل في باقي الدول العربية، فتحركوا ولا تتركوا الشعب السوري وقوداً إمّا لنظام لا يرحم معارضيه، وإمّا وقوداً لمعارضة أو أجندات خارجية لن ترحم شعباً في مقابل الوصول لكرسي الحكم.
أحد المتاريس التي لازال البعض يتلطى خلفها هم بعض المثقفون “النخبويون” المترددين حتى الآن بإعلان موقفهم مما يجري أو حتى عزائهم لأسر الشهداء ريثما ترجح كفّة على كفّة في الداخل السوري، كي لا يخسروا مناصبهم ومصالحهم. أو ربما لا زالوا مقتنعين أن هذا المنعطف التاريخي الثقافي للوعي النخبوي والعامي معاً والذي أزال الحاجز التقليدي إلى حدٍ بعيد بين الوعيين، لم يطلْ برج المثقف بعد، وهو ليس عليه سوى مراقبة مجازر الشعوب وكتابة القصائد عن أساطير الموت والولادة والحب. متناسين أن المثقفين كانوا في ساحة التحرير يضربون ويسحلون ويتلقون الهراوات والرصاص في مصر وتونس وليبيا واليمن لأن هذه الدول أدركت أن أصدق عشّاقها من يكتب تاريخها بالدم لا بالحبر.
ارفعوا المتاريس أرجوكم سورية وطن وليست كعكة. على هذه الأرض عشنا وعشقنا جميعاً وسنموت جميعاً بجانب بعض. سورية دولة، والدولة لشعبها والشعب الآن يريد قول كلمته لكن فقط اتركوه يكملها قبل وصول الطلقة.
أنا المفجوعة بما يقارب المئتي شهيد وبالسجون وبالدماء أشعر أني ضدّ كلِّ شيء لا يضع سورية كوطن خارج وفوق مصالحه الشخصية الضيقة وانتماءاته الثانوية، لذلك أنا ضد جميع المؤدلجين الآن والإنتهازيين والإقصائيين.
أنا ضد النظام حين يترك قوات “الأمن” تفتك بالمتظاهرين لتبحث عن “عصابة” تلبس قبعة التخفي.
أنا ضد “العصابة المسلّحة” التي باعت نفسها منذ زمن لتقتل من يموت اليوم لأجلها ولأجل مستقبل أبنائها ولأجل سورية.
أنا ضد الحرس القديم من السلطة الذي لم يفق من عصر الصقيع إلاّ ليحرق الأخضر واليابس بقصد إعطاء الدروس في التربية الوطنية.
أنا ضد الحرس القديم في المعارضة التي لم تستطع طوال الفترة الماضية خلق جيل شاب أو التواصل معه، وترغب الآن بتقاسم الحقائب الوزارية للحكومة القادمة بعد سقوط النظام والشهداء لازالوا في الشارع.
أنا ضد المدافعين عن الجحيم من أجل البقاء على الكرسي.
أنا ضد المزايدين المؤدلجين الذين لا دور لهم سوى شحن الشارع من الطرفين وتأجيج العنف والكراهية وحس الإنتقام.
أنا ضد الخائفين من أي تغيير ولو على حساب ذُلٍّ أبدي وحياةٍ بلا كرامة.
أنا ضد الثوريين الهائجيين الذين لا يترددون في إحراق البلد من غير إمتلاك مشروعٍ بديل يضمن حقوق الجميع بشكل مدني ديمقراطي وحداثوي.
أنا ضد رجال الدين المتشددين الذين لا يفكرون بغير الإنتقام لحقبةٍ مضت، والحقد لا يصنع سياسة والطائفة لا تتسع لوطن.
أنا ضد رجال الدين “المعتدلين” المنافقين وكل الأبواق المأجورة منهم بصفة الدين.
أنا ضد الملحدين الرافضين لكل الإعتقادات الذين يناقشون العلمانية قبل التحرر، ويدخلون الآن في مهاترات حول فصل الدين عن الدولة قبل ولادة وتشكيل الدولة بالمعنى الحديث.
أنا ضد الفنانين المتطفلين على السياسة بصفة المونة والأمليّة.
أنا اليوم مع سورية فقط وطن للجميع ضد العنف والتطرف والدماء، وكلمة ضد لا تعني نفي أو اقصاء أو قتل بل تعني موقف، أنا مع سورية دولة حرّة ديمقراطية موحّدة. حيث أنام دون أن أحلم بصديقٍ أو جارٍ يريدُ قتلي فقط لأني …