ضرورة الدولة المدنية (وخاصة للإسلاميين)
عفراء جلبي
لو مرض طفلك، هل ستأخذه لأفضل طبيب أم لآخر يشبهك بالشكل أو لأن عنده نفس الذوق في الملابس؟ فلنكن صريحين. عندما تكون الأمور جليلة والمخاطر عظيمة فإننا نتوخى الكفاءة فيمن نتوجه له. وحياة أطفالنا بيد الدولة. أليس علينا، إذن، أن نفكر جديا بنوعية وكفاءة هذه الدولة؟ لا يمكن أن تكون دولة ناجحة إن كانت فيها المناصب تابعة لغير الكفاءة والمقدرة. الدولة مؤسسة حيادية وظيفتها حماية حقوق وحريات المواطنين. وكلما تقدمت البشرية في جعل السلطة والقضاء ومؤسسات الدولة أجهزة حيادية منفصلة عن بعضها كلما حققت الأمن والسلام. لأنه عندها نؤسس لمجتمع يتساوى فيه جميع المواطنين بالواجبات والحقوق المشتركة والمقبولة بالحد الأدنى بينهم جميعا.
لا يمكن أن تكون الدولة إلا علمانية.
وهذا ليس فقط حسب تطور الفكر الإنساني ورحلته، بل ما جاء به الإسلام أيضا. الدولة أساسها العدل والحياد الديني. وأول معاهدة سياسية علمانية، وهذا باعتراف مؤرخين كثر، كانت معاهدة المدينة، والتي وثقها محمد مع أهل المدينة بعد بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية. وكل هذه الخطوات كانت لتأسيس مجتمع برضاء الناس اتفقوا فيه على وثيقة تعطي المواطنة لجميع الأطراف بغض النظر عن خلفياتهم الدينية وانتماءاتهم القبلية، تساوت فيه واجباتهم وتساوت فيهم حقوقهم.
لا يمكن أن تكون دولة عادلة ولها أي صبغة دينية أو أيديولوجية. لا يمكن أن يكون قاضي عادلا وفي نفس الوقت محابيا لأحد الطرفين. لا يمكن أن يكون طبيب ناجحا ثم يفرق بين مرضاه حسب لون بشرتهم أو لهجتهم. إن من ينادون بالدولة الإسلامية، ويصرون على مفهوم الدولة الدينية هم أكثر الناس خرقا لمفهوم الدولة حتى حسب المفاهيم الإسلامية. فالدين لله، والوطن للجميع. فحتى نبي الله والذي كان ينزل عليه الوحي لم ينصب نفسه بالقوة على الناس، وأخذ شرعيته من رضاء الناس وقبولهم له. فالشرعية تأتي من الناس. من اختيارهم ورضائهم. كان هذا قبل ألف وأربعمائة عام. ألا يستحق نبي قد أسس لمفهوم إنساني أن يتابع أتباعه بذرة زرعها، ولو اقتلعها من جاؤوا بعده، بدل أن يطالبوا بالعودة لمفاهيم قبلية وجاهلية إقصائية. أقل ما يمكن أن يقدمه الإسلامي لإرث الإسلام هو أن يعمل جاهدا لخلق دولة يتساوى فيها الجميع في كل شيء، وينالوا فيها أعلى المراتب بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو لونهم. “تعالوا إلى كلمة سواء.” وهذا يعني ” أن لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.”
الإسلاميون اليوم مأهلون لإعادة اكتشاف أصالة الدولة الحيادية بعد أن هرب الكثير منهم من قمع الدكتاتوريات العربية إلى الديمقراطيات المدنية الغربية، فعاشوا فيها بأمان، وازدهروا فيها، حيث أعطتهم العديد من الدول الغربية مساحات رائعة من الحرية والانتشار بما فيها أحيانا المعونات المادية لإنشاء مراكز ثقافية ودينية. فهل تركوا دينهم لمجرد أنهم عاشوا في جو الحرية؟ بالعكس، بل إن كثيرا منهم عاد واكتشف ارثه الديني والروحي بشكل أعمق وأرقى في الغرب عندما غابت الضغوط السياسية والاجتماعية.
كثير منا يستعمل مصطلح “مدنية” وهي –عفوا—ليست خداعا من أجل تمرير مشروع علماني كما يعتقد البعض. بل لأن كلمة مدنية في السياق العربي المعاصر أفضل خيارا، وذلك بسبب التلوث الذي لحق بمصطلح “علمانية” في ظل الدكتاتوريات التي فرضتها بالسلاح والبارود. وبسبب تعسف بعض العلمانيين وممارساتهم المضادة والمضطهدة للدين. فالعلماني المتشدد يحارب الدين، والمتدين المتشدد يحارب العلمانية. وكمثال بسيط وسطحي لتوضيح الأمر، فإن جهة تحجب المرأة غصبا، وجهة أخرى تخلع الحجاب عن المرأة غصبا. ولذلك وبعد تاريخ غير مشرف للعلمانية في الوطن العربي وكذلك الأصولي العقائدي بفضل سياسات الدكتاتوريات القمعية ينادي الناس الآن بالدولة المدنية. أي الدولة التي لا تحارب الدين ولا تحارب العلمانية. لا تفرض الدين ولا تفرض العلمانية. الدولة الحيادية التي تترك للناس حرية العقيدة والتعبير والممارسات في ظل حكم يلتزم بالقانون وحماية حقوق المواطنين وخياراتهم ما داموا لا يلجأون للحرابة والسلاح لفرض آرائهم. دولة يعيش فيها الاتجاه الديني (بل والمتشدد) والاتجاه العلماني (بل والإلحادي) إن قبلوا بعدم فرض آرائهم على الغير، ليعيشوا كمواطنين متساويين لا تتم ملاحقتهم أومراقبتهم.
لا أعرف لماذا نعقد الأمور. أي شخص متزن بكامل قواه العقلية لن يقبل أن تجرى له عملية زائدة صغيرة بأدوات أبو القاسم الزهرواي الذي عاش في القرون الوسطى، فلماذا سنقبل فجأة باستشارة مجموعة من المحامين من القرون الوسطى لم يعرفوا ظروف عصرنا لاعطائنا حلولا قد توصلت البشرية لحلها. فقهاء القرون الوسطى كانوا مبدعين رائعين لعصرهم لأنهم كانوا حاضرين لزمنهم. وفي الواقع هم مجموعة من المحامين فسرت الأمور بطريقة قانونية حسب عصرهم وهم بشر. فيجب أن لا نحيطهم بهالة من القداسة ونظن لمجرد استعمالنا كلمات رنانة مثل فقيه وشريعة إسلامية أن ما توصلوا إليه من بنود قانونية مقدس وإلهي ملزم. الملزم هو العدل، وهو شرع الله الحقيقي لمن كان عنده توجه ديني، وهو القيمة الإنسانية التي يتفق عليها الناس لمن كان عنده توجه علماني. هم اجتهدوا وعلينا نحن أن نجتهد. وبما أننا نرى حولنا أمما استطاعت أن تتوصل لمؤسسات قادرة على نقل السلطة من أشخاص وجهات إلى أخرى بدون سفك الدماء وهلك الحرث والنسل والبلاد، يعيش فيها بأمان ورخاء، فنحن ملزمون باستعمال هذه الأدوات الجديدة، تماما كما أننا ملزمون باستعمال آخر المعلومات الطبية لانقاذ مريض. تماما كما نستقل طائرة ولا نقبل أن نركب حصانا للسفر من تونس إلى دمشق.
كيف سننظر لشخص يفضل إستعمال الحمام الزاجل لإيصال خبر مستعجل بدل الانترنيت والجوال؟ بل سنعجب لأمره إن أراد أن يستعمل البريد الجوي السريع. سنقول له، شو مشكلتك يا زلمة؟ ابعث إيميل أو دق رقمهم على الجوال. كيف سننظر لاتجاه يفضل استعمال خطاب سياسي كتبه ناس عاشوا قبل تأسيس الديمقراطية الحديثة وطرق الاقتراع النزيهة، وفصل السلطات؟ سنقول له، شو مشكلتك يا زلمة؟ ما هلكتك الدكتاتورية؟
ما تحاول الثورات العربية إنجازه هو الخروج من قبضات دكتاتورية حديدية تحكم بالنار والسجن. تريد الشعوب العربية أن تخلق أجواءا يعيش فيها المواطنون بأمان يحققون إنسانيتهم ويعيشوا بحرية وكرامة تتيح لهم تحقيق أحلامهم الشخصية والوطنية، وتمكنهم من الإبداع ومنافسة الأمم الأخرى على التطور. ولهذا فلا يمكن أن يكون مطلبهم إلا الدولة المدنية القانونية العادلة، والحيادية بأكبر قدر ممكن. ما يجعل أي دولة إنسانية هو عدلها وحرصها على حياة وأمان مواطنيها، وما يجعل أي دولة تتحول إلى جحيم على الأرض هو ظلمها وفرض نظرتها الأحادية بقبضة من الرعب.
ولذلك لا يمكن أن تكون الدولة عادلة ولها أي محاباة دينية. أنا شخصيا أخجل من الدستور السوري الحالي الذي ينص على أن يكون رئيس الجمهورية مسلما بينما عندي إخوة مسيحيون من نفس الوطن أبا عن جد، تماما كما أخجل من إقالة الرئيس وأجهزة أمنه من أية مسؤولية أخلاقية أو جنائية. أخجل من ثقافة ودستور يعطي ربوبية لبعض البشر فوق آخرين، ويضعهم فوق القانون. ولا يمكن لإيمان حقيقي وواعي أن يقبل دولة تحابي مواطنيها على أساس ديني أو عرقي أو أيديوجي، فهذه عصبية وعنصرية تشابه ما فرضه حزب البعث شعارا وقائدا على مجتمع حرم عليه حق الاختيار. ولذلك على أي جهة إسلامية أن تكون للمتقين إماما وتكون في المقدمة تنادي وتصر على تأسيس دولة حيادية، وتكون الأكثر رفضا لأي أحادية بشرية. فأي مجتمع يوضع في قالب واحد يصير مقزما ومشوها ويحوم الدمار حوله. ولا يمكن لأي دين أن يوضع في شكل ونمط واحد. فحتى داخل الإسلام نفسه توجد الاتجاهات الصوفية، والمذهبية، والسلفية والأيديولوجية. وليس لأي منها احتكار تمثيل الإسلام الصحيح. فلنترك شيئا للآخرة ليحكم عليه خالق السموات والأرض، لأنه إليه مرجعنا وينبئنا بما كنا به نعمل.
أما كمواطنين فليس لنا إلا أن نتنافس على الخير حسب ما يفهمه كل منا ونعيش تحت حكم القانون الذي يساوي بين كل أفراده. وعندها سيزدهر الفكر الديني أيضا، لأنه سيعيش في جو تعددي يضطر فيه أن يكون في حالة حوار مع من يخالفه مما سيحفزه لانتاج فكري وروحاني أقوى وأرقى. وسيكون الفكر العلماني أيضا أجمل بحواره مع الفكر الديني. وشخصيا لا يمكنني أن أتخيل سوريا بدون تنوعاتها وحديقتها المليئة بأنواع الزهور والأشجار. اختلافاتنا ليس نقاط ضعفنا، بل هي نقاط قوتنا. وهي إن عرفنا أن تحتفي بها ستجعل ثقافتنا أكثر مناعة وقوة، لأن ثقافة تتعايش فيها المسيحية والإسلام ويتفاعلان ستبرز للعالم أكثر الحوار الإنساني والحضاري الذي عاشته سوريا لقرون. ولأن إسلاما فيه أغصان علوية ودرزية واسماعلية سينتج ثمرات روحية ودينية لها أبعاد إنسانية أكثر قدرة على الاستجابة لتحديات عصر حواره الرئيسي حول الهوية والتعددية. سوريا، وبالذات بسبب تنوع حديقتها الثقافية والروحية، مؤهلة لانتاج ديمقراطية قادرة على التسابق مع أحسن وأفضل الديمقراطيات في العالم. ما الذي ينقصنا حتى لا نكون الأفضل؟ لا ينقصنا شيء، إلا إذا قررنا أن نكون حمقى وندير ظهرنا للحكمة والجمال والعقل.
ايلاف