صفحات العالم

“طائفية” الصراع في سوريا لا تعني “عبثيته”

وسام سعادة

عندما اندلعت الثورات الشعبية الربيعية في تونس ومصر، ولاحقاً في ليبيا واليمن، وقبل أن تنطلق الثورة السورية نفسها، طمأن النظام البعثيّ الفئوي نفسه: “أنا نظام وطنيّ، ولي قاعدة شعبية أسهر عليها وتسهر عليّ، أحميها وتحميني، وبالتالي لن يصيبني ما أصاب الأنظمة غير الوطنية والمعزولة شعبياًَ”. طبعاً، كانت طمأنة ذاتية قلقة ومرتابة من أمرها.

مع اندلاع الثورة السورية، طمأن النظام نفسه بشكل مختلف: “أنا نظام وطنيّ معاد للإمبريالية، وبالتالي من يعمل على إسقاطي يعمل لتمكين الإمبريالية”. استنتج “نظريّاً” أنّه يواجه مؤامرة امبريالية. بدت المؤامرة واضحة له تماماً مع اندلاع الثورة، مع انه كان يستبعدها تماماً ضامناً قاعدته الشعبية قبل ذلك بأسابيع قليلة. كيف أمكن للمؤامرة الإمبريالية أن تفعل فعلها إذاً وتتسلّل إلى الداخل السوريّ؟!. التفسير الذي سارع اليه النظام، انه وبحكم كونه نظاماً معادياً للامبريالية، فقد انشغل كثيراً، وفوق اللزوم، وفوق طاقة الشعب السوريّ، في سياق الممانعة أمام رجعة المستعمر، وفي إطار دعم حركات المقاومة في المنطقة، إلى الدرجة التي نسي فيها تأمين معيشة المواطن والخدمات الضرورية وضيّق عليه “بعض الشيء” في موضوع الحريّات. الإستنتاج “العمليّ”: الغاء حالة الطوارئ، وبدء سلسلة متصاعدة من الجرائم ضدّ الإنسانية.

سواء قبل الثورة أو بعدها، ما كان النظام يشخّص الصراع بينه وبين الثورة المؤامرة على أنّه “صراع طائفيّ”. كان يكتفي في هذا الجانب بالقول إنّ المخطط التآمريّ الذي يستهدفه يبتغي تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية إن هو نجح في إسقاط النظام الوطنيّ الشعبيّ المعادي للإمبريالية. لم تكن لديه مصلحة في الذهاب إلى أبعد من ذلك، لأن التركيز على الطابع “الطائفيّ” للصراع سوف يسلّط الضوء على الطابع “الأقلويّ” للنظام.

بعد 22 شهراً على انطلاقة الثورة السورية، صار النظام يعتمد أكثر فأكثر على خطاب من نوع مختلف. هذا الخطاب يتفاوت بين من يعتبر الثورة السورية مؤامرة من أساسها، وبين من يعتبرها ثورة سرعان ما نخرتها المؤامرة وشوّهت طبيعتها. في الحالة الأولى، يذرف التمساح الممانع الدمع على المجتمع السوريّ والعبثية الدمويّة التي تدمّره اليوم طالما أنّ “المعارضين والمسلّحين” يرفضون “الحوار تحت سقف الوطن”. في الحالة الثانية، يتمادى التمساح الممانع في ريائه ويذرف الدمع على الثورة السورية: كانت وطنية ديموقراطية سلمية وصارت طائفية ومذهبية وسلفية وعنيفة.

وبالنهاية، صار النظام يعوّل كثيراً على نظرية أن الصراع أصبح “طائفياً وعبثياً” في سوريا. طبعاً، هو لا يمكن أن يتبنى مثل هذه النظرية مباشرة، لكن كل ما حوله من أبواق يردّد شيئاً من هذا القبيل. أما هو، فيحصر هذا الإطار في جانب منه: مواجهة “جبهة النصرة” التي يعتبرها النظام السوريّ من مسميات “تنظيم القاعدة”، وليس فقط مشتبه بعلاقة أعضاء فيها بشبكات تدخل في إطار “تنظيم القاعدة” أو في إطار “الجيل الجهادي الثالث”، في إشارة إلى نشوء مجموعات متطرّفة في غير مكان من العالم تحاكي جزئياً سيرة تنظيم القاعدة من دون أن يكون تواصلها معه عضوياً، وأساسياً.

والنظام في لعبة اختزاله الثورة بـ”جبهة النصرة” يجمع بين الشيء ونقيضه. من جهة، يعتبر ان “جبهة النصرة” أقلية ضحلة وضئيلة ولا تمثّل أي شريحة وازنة من السوريين، ومن جهة يعتبر أنّ “جبهة النصرة” هي العنصر الأساسيّ في كل المواجهة الدموية المسلّحة التي يخوضها منذ اندلاع الثورة. إذاً هو يحارب أقلية. لا داعي إذاً لتحالف الأقليّات.

إلا أنّ هذه اللعبة لا تنتهي عند هذا الحدّ، إذ يحتاج النظام الى القول في الوقت نفسه بأنّه “المنارة التنويرية المضيئة” في هذا الشرق، أي أنّه “الطليعة” و”الصفوة”، أي أنّه “الأقليّة” التي تواجه تطرّف العوام المغرّر بهم من قبل أقلية ظلامية اسمها “جبهة النصرة”. إذا هو نظام أقلية يحارب أقلية أخرى (النصرة). هو أقلية النور وهي أقلية الظلام. أقلية الظلام تجنّد العوام، وهو يجنّد الأقليّات.

النظام يجد ضالته في معادلة “أنا أقليّة، وجبهة النصرة أقليّة”. النظام نفسه يتهم أكثرية الشعب السوريّ بالانتساب الى “النصرة”.

في كل الحالات، يريد النظام أن يستفيد من تظهير الصراع على أنّه أصبح “طائفياً وعبثياً” من دون أن يتحمّل تبعات ذلك، أي اظهاره طائفياً على حقيقته، كنظام “فئوي”. لكنه، بمجرّد ان يتكلّم سواء مباشرة أو غير مباشرة عن “طائفية الصراع” فهذا يظهر طابعه الأقلويّ الفئويّ هو. لا يمكنه أن يخرج من هذه المعادلة، لا هوَ ولا “حزب الله” حين يدلي بدلوه في الأمر عينه، بهذا الشكل. فأن يكون “الصراع طائفياً” ليس معنى ذلك أنّه صار عبثياً وعدمياً ولا سبيل إلى الانحياز فيه لأهل الثورة.

عندما يقول النظام ان الصراع صار طائفياً، لا يمكنه ان يضيف وانا أمثّل فيه موقع الاكثرية، إلا اذا كانت الأوزان الديموغرافية مقلوبة رأساً على عقب في سوريا.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى