طائفية صامتة لكنها أمّ الطائفية/ راتب شعبو
اعتاد السوريون مذ استولى حزب “البعث” القومي العلماني على السلطة في سوريا في 1963، ولا سيما بعد “الحركة التصحيحية” في 1970، أن يتم توزيع الوزارات والمناصب العليا في الدولة وفق اعتبارات طائفية وعشائرية. تلك كانت طريقة “البعث” في مراعاة “الغنى” الطائفي والواقع العشائري في سوريا، وذاك كان نضاله “القومي” الممتاز. غير أن أجهزة الأمن ومفاصل الجيش الرئيسية ظلت بعيدة عن هذه المراعاة، وكانت الغلبة الظاهرة فيها لأبناء الطائفة التي يتحدر منها الرئيس (الطائفة العلوية) تماشياً مع الذهنية الأمنية التي تسيطر على عقل الديكتاتور الذي يستولي على السلطة بانقلاب عسكري، ويعاني، على طول الخط، من عُصاب انعدام الشرعية.
هكذا بات في الدولة السورية نوعان من الشغل الطائفي، الأول ظاهر يتخذ شكل مراعاة صامتة للتنوع وللنسب الطائفية والعشائرية. كل ما في الأمر أنه يتم ملء واجهة السلطة بألوان تتناسب مع التنوع الطائفي والنسب المئوية لها بطريقة متواترة بحيث يعرف الجميع مثلاً أن الوزارة الفلانية من نصيب الطائفة الفلانية، وهكذا. هذه السياسة تتعامل مع الطوائف بصمت على أنها كتل سياسية، فتنسب الإنسان إلى طائفته وعشيرته وليس إلى وطنه، وتعوق تالياً تفتح فكرة المواطنة في الوعي العام. يواكب هذه السياسة قمعٌ متواصل لا يهدأ، لمنع ظهور أي قوة سياسية مستقلة، فلا تريد السلطة الديكتاتورية أن يكون التمايز والاختلاف السياسي بديلاً من التمايز والاختلاف الطائفي. في الوقت الذي حمت فيه السلطة الديكتاتورية التنافر الطائفي، عملت على ستره بطبقة من اللغة الوطنية باتت مقززة نظراً إلى أنها لغة كاذبة، الأمر الذي دفع الشارع السوري إلى الكفر بها، وها نحن نرى نتائج هذا الكفر على أشكال متنوعة من القبول بـ”داعش” إلى القبول بأميركا وربما حتى بإسرائيل. من هذه الزاوية كانت السلطة أقرب في المضمون إلى التنظيمات السياسية الطائفية (تعبيرات الإسلام السياسي)، تبرهن على ذلك شدة القمع الذي تعرضت له تنظيمات سياسية علمانية مستقلة وسلمية لم تبلغ عضويتها في أوجها بضع مئات، وحوكم أفرادها بتهم تصل عقوبة بعضها إلى الإعدام، وكان الحكم بالمدة القصوى (15 عاماً مع الأشغال الشاقة) هو الحكم الغالب.
أما الشغل الطائفي الثاني فيجري بعيداً عن العلن ويتخذ شكل الاعتماد على طائفة معينة لتدعيم أجهزة الأمن ومفاصل الجيش الرئيسية، وذلك ليس حباً بهذه الطائفة (وإن كان الرئيس يتحدر منها) ولا رفعاً لشأنها ولا انتصاراً لمظلوميتها التاريخية، التي وإن كانت حقيقية، فإن رفع المظلومية لا يكون البتة باستخدامها لإيقاع مظلوميات أخرى من شأنها أن تعود يوماً فتنتقم لنفسها وتوقع مظلوميات جديدة في حلقة مفرغة تستهلك الجميع. كان الغرض من الاعتماد على هذه الطائفة في أجهزة الأمن ومفاصل الجيش، هو تمتين تماسك اللبّ العميق للدولة التي تستمد استقرارها من تماسكها الأمني وليس من مشروعيتها السياسية. على هذا المستوى العميق غير المعلن في الدولة، ينبغي التمييز، إذا شئنا تدقيق النظر، بين العنصر ذي السلطة في أجهزة الأمن السورية (غالبيتهم من أبناء هذه الطائفة)، نقصد بشكل خاص الضباط وبعض صف الضباط ذوي الصلاحيات الاستثنائية التي تتفوق أحياناً على صلاحيات الضباط وذلك وفق تركيبة أمنية شديدة الإحكام، وبين العنصر الصغير المنفّذ الذي يعيش على راتبه الهزيل ويعاني الفقر والإذلال داخل مجال عمله، دع جانباً الخطر الذي يعيشه في حالات الاضطراب الاجتماعي كما هي الحال اليوم. وعليه، فإن ما يربط العنصر الأول بالسلطة هو النفوذ والمال والامتيازات في الدرجة الأولى، والعصبية الطائفية في الدرجة الثانية، وما يربط العنصر الصغير المجنّد بالسلطة هو العصبية الطائفية أكثر من الامتيازات، ذلك أن امتيازات هؤلاء زهيدة ولا تعدو إمكان السلبطة على بعض البؤساء أمثالهم وغالباً ما يكونون من المنبت الطائفي نفسه.
لكن بشكل عام يمكن القول إنه يتوفر لدى العنصرين هذين (العنصر ذو السلطة والعنصر المنفّذ) عطش للاعتبار والسلطة، جراء مظلومية لا تزال طازجة في مخيلتهم. وكان أن استثمرت السلطة الديكتاتورية هذا العطش وعملت على تغذيته أيضاً من طريق بث الرعب الطائفي في نفوسهم عبر قنوات مواربة تعتمد الشائعات والتسريبات وشتى السبل الدنيئة، ساعدها في ذلك غلبة الإسلام السياسي، “الطائفي في مبدئه”، على المعارضة السورية طوال تاريخها.
يوازي كل هذا الشغل الطائفي الفعلي، حظر إعلامي وثقافي يجرّم الحديث في الطائفية، أخلاقياً وسياسياً وحتى قانونياً. فتجريم إثارة النعرات الطائفية مادة ثابتة في قانون العقوبات السوري، وقد سبق أن حوكم على أساسه، للمفارقة، سجناء شيوعيون في أوائل ثمانينات القرن الماضي، أي في ظل الديكتاتورية البعثية نفسها. لا يخلو من طرافة، أن ترى المسؤول السوري أو المثقف الديكتاتوري يتحدث أمام الإعلام بلغة علمانية تأنف من ذكر كلمة الطائفية وتترفع عن ذكر اسم أيٍّ من الطوائف، في الوقت الذي تقوم دولته على حراسة التمايزات الطائفية وتغذية الحساسيات الطائفية وخلخلة الثقة بين الناس على أساس طائفي، ليل نهار.
قادت هذه الازدواجية بين الفعل والتصريح (ممارسات طائفية مع حديث علماني مترفع) إلى دفع عدد من المعارضين السوريين إلى الحديث الطائفي الصريح تحت ضغط النفاق العلماني للسلطة. إذا كانت السلطة تستطيع ممارسة الازدواجية لأنها تمتلك صلاحية الفعل العام، فيمكنها أن تفعل فعلاً طائفياً في الواقع وتصمت عنه في الإعلام، لا بل وتصدّر إلى العالم خطاباً “وطنياً” يزدري الطائفية، فإن المعارضين لا يملكون من الفعل العام سوى الكلام، وكان لا بد أن يحمل تعبيرهم عن ممارسات النظام هذه لغة طائفية. مرةً أخرى: عندما تجد أن هناك عدداً متزايداً من المثقفين العلمانيين يتكلمون لغة طائفية، عليك أن تسأل ما الذي دفعهم إلى هذا، قبل أن تدينهم. ما سبق، لا ينفي أن هناك معارضين سوريين غادروا “ساحة” تحليل ممارسات النظام الطائفية، وانتقلوا فعلياً إلى خانة طائفية وعنصرية تشكل التتمة الطائفية لشغل النظام. هناك منهم من بالغ في التحليل الطائفي حتى باتت الطائفية هي الإطار المرجعي الأخير لأفكاره، وغاب عنه أن الطائفية بالنسبة إلى السلطة المستبدة الفاقدة للشرعية السياسية هي وسيلة من ضمن وسائل أخرى، وأن استمرارية السلطة تعلو في عين أهل السلطة هؤلاء على أيّ اعتبار آخر، طائفي أو قومي أو أخلاقي.
النهار