طائفية طارئة وعلمانية طائفية في سورية/ حازم نهار
قامت الثورة السورية بهدف رئيس، هو إحداث انتقال ديمقراطي، لكن هذا الانتقال كان متوقعاً أن يتعثر، بحكم افتقار سورية، أصلًا، إلى هوية وطنية واضحة المعالم، ووحدة وطنية راسخة من جهة، وبحكم أن سورية حُكمت أربعة عقود بنظام حكم سلطاني، لا وجود فيه لمؤسسات سياسية ومدنية حقيقية، من جهة ثانية.
الوحدة الوطنية شرط ضروري وأساس كل انتقال ديمقراطي سوي وآمن، وقد أدرك السوريون أهمية التأكيد عليها، وتثبيت الانتماء الوطني، في الأشهر الأولى من الثورة، لكن عنف النظام وممارساته التي غلفها قاصداً بقناع طائفي، وافتقار السوريين إلى قوى سياسية حقيقية ومؤسسات مدنية، ودخول العامل الخارجي، بشكل سلبي، على طول الخط، بحكم مصالح معقدة ومتشابكة، ذلك كله أفسح المجال لظهور العفن المخبوء الذي زرعه النظام، طوال حكمه، إلى السطح، فضلاً عن صعود المجتمع العميق، بكل ما فيه من أمراض، إلى الواجهة، ردة فعل ونتيجة طبيعية لظهور نظام الحكم عارياً بلا أي مساحيق تجميل، خصوصاً بعد أن سقطت جميع شعاراته ومقولاته التي كان يتستر بها، وانكشافه كطغمة حاكمة مغلقة، وكمجموعة ضيقة، مستعدة لفعل أي شيء في سبيل البقاء في الحكم.
في عام 2005، برزت إلى السطح، في أوساط سياسية معارضة، علمانية هشة وغير ديمقراطية، أطلقت عليها آنذاك اسم “العلمانية الطائفية”، وهي التي جاءت ردة فعل على فقرة وردت في البيان التأسيسي لإعلان دمشق، الذي أُسس في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2005، تتحدث عن الإسلام باعتباره وعاء حضارياً، فقد كان النقد الموجه لهذه الفقرة صحيحاً في بعض الزوايا، لكن أغلبه كان زائفاً، وعبّر عن وجود علمانيات معاديةٍ للدين، وقافزة فوق واقع وشروط مجتمعاتها، وتمارس سياسة متطرفة، هي الوجه الآخر للتطرف الديني. لكن، كشفت هذه العلمانية الطائفية عن نفسها، بجلاء، بعد انطلاق الثورة السورية، في أوساط يسارية معارضة، ولدى “قوى سياسية” موالية للنظام ومعتاشة على فتاته، أو في بيئات وقطاعات شعبية مختلفة، وظهر أن رائزها الأساسي هو الخوف من القوى الإسلامية، وأنها علمانية هشة، ولا تعدو كونها قشرة سطحية، تستر توجهات طائفية في العمق، ومتراكبة مع ضحالة فكرية، ولا تستند إلى ثقافة عصرية، وديمقراطية حقيقية.
قبل الثورة
كانت هذه العلمانية الطائفية، سنوات طويلة قبل الثورة، من الأمور المسكوت عنها في المعارضة السورية، وتكمن أسبابها في التكوين البنيوي للمعارضة التي تعرضت، بعد حوادث حماه 1982، إلى حصار وقمع شديدين، ما أدى إلى خروج أهل المدينتين الكبيرتين، دمشق وحلب، من حقل العمل السياسي بشكل كلي تقريباً، واقتصار الفعل المعارض تقريباً على فئات معينة من الشعب السوري، لتتحول تلك القوى المعارضة، تدريجياً، إلى أحزاب عائلات وطوائف في الغالب الأعم، على الرغم من أيديولوجياتها الماركسية أو الاشتراكية أو الناصرية أو البعثية. يضاف إلى العوامل المؤثرة في بقاء هذه العلمانية الطائفية راسخة عامل الضحالة الفكرية، على الرغم من الحضور الكثيف للأيديولوجيا، لكن السبب الرئيس يبقى حرمانها من العمل السياسي، أي من العمل في الواقع والبرامج والتفاصيل، وهو ما كان يمكن أن يسمح لها بالتأثير في المجتمع السوري، والتأثر به، ويفسح المجال لانتماء كوادر من بيئات مختلفة إليها. وهذا كله يفسر، بالطبع، تحول معظم تلك الأحزاب إلى دكاكين أيديولوجية معزولة، تحضر فيها الشعارات، ويغيب الفكر والتفكير والسياسة.
كيف تجلت العلمانية الطائفية عند بعض القوى والشخصيات المعارضة في مرحلة ما قبل الثورة؟ لم يكن من النادر، آنذاك، أن نجد في صفوف المعارضة السورية ماركسيين سنة، أو شيوعيين مسيحيين أو علويين أو دروزاً، أو ناصريين سنة أو ناصريين لا يمكن تفريقهم عن أعضاء في جماعات إسلامية، متفاوتة في انفتاحها، أو قوميين سوريين مسيحيين، أو بعثيين علويين… إلخ. في الحقيقة، ربما يكون التوصيف الأفضل هو بتغليب الصفة الدينية، أو المذهبية، على الصفة الأيديولوجية، كأن يقال شخصيات معارضة سنية ماركسية أو ناصرية، أو مسيحية شيوعية، أو علوية شيوعية، وهكذا. كما يمكن ببساطة اكتشاف، للأسباب المذكورة سابقاً، كيف جرى إسباغ الصفة الدينية، أو المذهبية، على الأيديولوجيات المحمولة، على الأقل من الناحية النفسية، لتصبح الماركسية ماركسية سنية أو علوية أو مسيحية أو درزية، بحسب الهوية الدينية، أو الطائفية للمتحدث، كما أصبحت الناصرية ناصرية سنية، في الغالب الأعم. بمعنى آخر، تم خصاء الفكر، وتحويله إلى أيديولوجية شعاراتية ومغلقة، وهذه تحولت، تدريجياً، إلى مجرد قشرة سطحية، تستر الانتماء الطائفي الذي بقي مستمراً وفاعلاً، على الرغم من الشعارات المعلنة. ومع الزمن، أصبحت الأحزاب نفسها ذات ملامح طائفية، ويمكن للعارفين بأمور المعارضة وضع اسم الطائفة المناسبة أمام كل حزب سياسي من أحزاب المعارضة، ويصدق الأمر بصورة أكثر على الكاريكاتورات الحزبية، الموجودة في جبهة النظام “التقدمية”.
قلائل حقاً هم من اختفت هوياتهم الدينية، أو المذهبية، في هذه التيارات والقوى السياسية، وقلائل، أيضاً، هم من تعاملوا بشكل صحي، غير استفزازي أو انفعالي، مع هوياتهم الموروثة، أو أعادوا بناءها لمصلحة هوية وطنية فعلية، وقلائل جداً هم من تمثلوا أفكارهم المحمولة، واستمروا، في الوقت نفسه، فاعلين ومؤثرين إيجاباً في أوساطهم وبيئاتهم، ولم ينعزلوا عنها.
مع الثورة
جرى اكتساح هذا النمط من القوى السياسية اليسارية، مع الثورة السورية التي قامت بتحطيمه، حتى لم يبق منه شيء سوى الانتماء الطائفي، وبضعة شعارات لا تغني ولا تسمن، إذ أصبح عارياً بلا أيديولوجيات، تستر الوباء المسكوت عنه، ويبدو أن عريه وانكشاف بنيته يشكلان جزءاً من عملية التعرية الشاملة التي أخذتها الثورة السورية على عاتقها، رغماً عن أنف الجميع، النظام والمعارضة والمثقفين والمجتمع السوري. حاول بعضهم إعادة تخليق هذا اليسار، بعد الثورة، وعلى الرغم من وجود نيات وإرادات صادقة، إلا أن الضحالة الفكرية كانت سبباً رئيساً في عدم النجاح حتى الآن، إذ لم يتحول الفكر المحمول إلى دم ولحم وأعصاب، وظل غريباً، مجاوراً للعقل التقليدي أو الطائفي، كمجاورة الماء للزيت، يجتمعان، لكن لا يمتزجان.
كذلك تشيع لدى العلمانيات الطائفية، تحت وقع المنظمات الإرهابية وسلوكاتها وممارساتها، أوهام تتجلى في الذهاب نحو البحث عن المرتكزات النظرية للعنف في الإسلام، بل والدخول في معركة مع المسلمين عامة، على الرغم من أن أيديولوجياتهم المغلقة تعج، نظرياً وتاريخياً، بآراء وتطبيقات وممارسات مماثلة لما رأيناه لدى الجماعات المتطرفة.
تاريخ الإسلام لا يخص السوريين المسلمين وحدهم، كما تاريخ المسيحية واليهودية، وأيضاً تاريخ العرب والكرد والتركمان والآشوريين، فكل ما جرى، في الماضي، هو ملكنا، ملك جميع السوريين، وهو، شئنا أم أبينا، جزء حيوي ومهم في إعادة بناء الهوية الوطنية السورية، على الرغم من قناعتنا أن لتحديات الحاضر وآمال المستقبل الدور الرئيس في عملية البناء تلك، إن أردنا، بالطبع، أن نكون جزءاً حيوياً من العالم.
هناك في العمق، لدى أصحاب الحس والتفكير الأقلوي، وهم كبير، يقوم على التفوق الحضاري للأقليات على محيطها البشري، وهو يترافق مع ادعاء اليسار الطائفي، والعلمانيات الطائفية عموماً، بالتفوق على “العرب البدو”، أو بالأحرى، بحسب التسمية المفضلة لديهم، على “أهل النفط والغاز”. يذكرنا ذلك بخطابات رأس النظام الذي كان يتحدث عن حضارة سورية عبر التاريخ، وكأنها من إنجازات “حركته التصحيحية”، أو مسيرته “المظفرة” في “التطوير والتحديث”. هذا الخطاب الأقلوي “تنميطي”، يضع البشر، ويصنفهم في خانات مغلقة، ويطلق عليهم أوصافاً وسمات جوهرية وثابتة، وهو خطاب سطحي، ادعائي، يفضح الواقع أصحابه يومياً، ويُظهر تأخرهم و”بداوتهم” في كل موقف ونفس يصدران عنهم.
في الحقيقة، إن اعتراف هؤلاء بأنهم أبناء المنطقة وأبناء تخلفها وتأخرها، وأنهم لا يزيدون بشيء عن غيرهم هو بداية مهمة للاستشفاء من أمراضهم وأوهامهم، ولتطورهم حقاً من جهة، ولإزالة حنق كثير إزاءهم، بسبب هذا الاستعلاء الفارغ عند الفئات المجتمعية الأخرى، من جهة ثانية. التخلص من الإحساس الأقلوي، ومن الشعور بالتمايز غير الصحي عن باقي أهل المنطقة، مقدمة ضرورية لتبيان صدقية شعارات هؤلاء التي تدعو إلى المواطنة المتساوية.
في المقابل، مع انطلاق الثورة، استشعر السوريون، بحكم معرفتهم بالنظام، الممارسات التي يمكن أن يلجأ إليها، فرفعوا شعارات الوطنية، وتنكروا لأي ملمح طائفي، بل كانوا يحتفون بالتنوع الديني المذهبي المشارك في التظاهرات ضد النظام، ولا يقلل من هذه الحقيقة خروج التظاهرات من الجوامع التي كانت المكان الوحيد الذي يمكن للسوريين التجمع فيه، خصوصاً في ظل محاصرة النظام للساحات العامة، بعد استفادته من تجربتي تونس ومصر. مع ذلك، كانوا يتجمعون في الساحات، كلما كان ذلك ممكناً، كما حدث في حمص وحماه ودير الزور، التي قام النظام بمجازر في ساحاتها. في دوما، مثلاً، حاول الناشطون رفع الصليب وسيف علي، وفي عربين ردّدوا “إسلام ومسيحية شعب واحد”، وسعوا، في البدايات، إلى تسمية أسماء الجمع، بما يعبر عن حالة التنوع في سورية. وبالطبع، لا يمكن إنكار وجود أصوات طائفية حقاً في البدايات، لكن السمة العامة كانت غلبة التوجهات الوطنية.
ثمة نمط غالب من الطائفية والتوجهات الطائفية، اليوم، وهو الطائفية المقنّعة عند قطاعات شعبية واسعة من أهل الثورة، أي الطائفية غير الأصيلة أو الطارئة أو المنفعلة. إنها طائفية مكسوة بالألم والتشرد والقتل، نبتت لدى هذه القطاعات ردة فعل، يمكن فهمها، لكنها تبقى غير واعية ومدانة، على عنف النظام وجرائمه، وهو الذي حاول جاهداً تقديمها بلبوس طائفي زائف، من أجل استفزاز الآخرين، وجرّهم إلى محاكاته، طمعاً بالتساوي في الرذيلة، وبما يفقد الثورة ومناصريها أي تفوق سياسي أو أخلاقي عليه. لا أحد يستطيع أن ينكر أن الطغمة الحاكمة عملت جاهدةً على استثمار الطوائف والطائفية في لعبتها، للبقاء في السلطة، ومن ذلك تثبيت أن سبب عنفها طائفي، وأن من يقومون بهذا الفعل طائفيون، وينتمون إلى طائفة محددة، محاولة إخفاء مصالحها السياسية والاقتصادية التي تشكل دينها ومذهبها الحقيقيين.
تشخيص خاطئ
في تشخيص النظام السوري، يخطئ من يعتقد أنه نظام طائفي خاص بطائفة ما، فهو ليس نظام الطائفة العلوية، أو نظام حكم الطائفة العلوية، لأنه ببساطة لم يكن في خدمتها، ويمكن اكتشاف ذلك من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية التي تظهر أحوال السوريين من أبناء هذه الطائفة. بل على العكس، كانت الطائفة العلوية، ولا تزال، في الأسر، وكان السوريون “العلويون”، ولا يزالون، محتجزين رهائن بيد نظام الحكم. لذلك، إن دمج الطائفة العلوية بالنظام الحاكم خطأ سياسي قاتل، فضلاً عن كونه عملًا غير أخلاقي.
وثمة نمط آخر من الطائفية والتوجهات الطائفية، لكنه، أيضاً، طارئ وغير أصيل، وهو الطائفية المسكونة بالرهاب، لدى قطاعات أخرى، لم تناصر الثورة، لكنها ليست بالضرورة مع النظام، وهذا النمط جذره رهاب طويل الأمد من الآخر، عمل النظام على تغذيته وإنمائه بصورة مستمرة، خصوصاً بعد انطلاق الثورة، ليضمن، على الأقل، تحييد هذه القطاعات، أو توريط السوريين في معارك ضد بعضهم بعضاً.
أمام هذا النمط الانفعالي من الطائفية بشقيه، كنا أمام موقفين كارثيين للمعارضين، وللسياسيين والمثقفين عموماً، قريبين من النظام أم بعيدين منه. الأول هو الموقف الذي يشد على أيدي الخطاب الطائفي الموجود، أو يذهب في اتجاه التنظير لهذا الخطاب وتكريسه، بدلاً من إدانته وتنوير أهله، ولا نغفل، هنا، تحول معارضين يساريين وقوميين، ليكونوا ذيلاً لجماعات دينية واضحة في تطرفها وطائفيتها. الثاني هو الموقف الاستعلائي الذي اختزل المشكلة برمتها في جهل الناس، وذهب، في طريق شتمهم والتعالي عليهم. وهكذا، فالعلمانيون الطائفيون واليسار الأيديولوجي يلقون باللائمة على “المعترين” والمظلومين، بدلاً من رفع أصواتهم ضد نظام القتل، المسؤول الأول عن ردة فعل الناس غير الواعية، من جهة أولى، والسير في إنتاج خطاب إنساني وطني، وبناء مؤسسات ثقافية تنويرية، من جهة ثانية. أصحاب الموقف الأول يدّعون وقوفهم إلى جانب الثورة، فيما أصحاب الموقف الثاني منقسمون بين الموالاة والمعارضة، أو على الخط الفاصل بينهما. لا يجوز مجاملة الناس، أبداً، في أخطائهم، لكن النقد الأقسى ينبغي أن يكون من نصيب المثقفين والقوى السياسية.
كذلك، لم تُفهم الطائفية المسكونة بالرهاب من الآخر، إذ عمل الطرف المعارض للنظام على تثبيته، وتكريسه، من خلال خطابه السياسي الضحل والهزيل، بدلاً من زحزحته عبر خطاب حكيم يكف، على أقل تقدير، عن إدانة طائفة كاملة، أو طوائف بأكملها، فيما عمل الطرف القريب من النظام، ومن ضمنه العلمانيون الطائفيون، على إنكار وجود هذا النمط الرهابي من الطائفية، أو الصمت كلياً إزاءه، وكانوا في العمق راضين عنه.
بعض الطائفية السائدة مرض، وبعضها الآخر عَرض لمرضٍ، ينبغي تحديده بدقة، إذ لا يمكن إنكار وجود طائفية أصيلة ومتجذرة، مبنية، في الغالب، على أيديولوجيات طائفية، لكنها تبقى محدودة، وفي أوساط ضيقة، يشكل أغلبيتها رجال دين وممثلو مذاهب وأنصاف مثقفين. بينما الطائفية العَرضية، أو الطارئة، ومن ضمنها الطائفية الرهابية، فإنها تشيع في أوساط شعبية غير أيديولوجية، ومحكومة بالحدس المباشر، والآني، وليس بالمعتقدات الدينية والمذهبية.
من السهل تجاوز كثير من الطائفية المقنّعة، أو الطارئة، وتحطيمها، عندما يتوقف نظام القتل عن القتل، ويستشعر السوريون أنهم ذاهبون في طريق الخلاص من آلامهم، ومحاسبة المسؤولين عنها، بينما نحتاج إلى تجاوز الطائفية المرضية، على الأغلب، إلى مصحات عقلية ونفسية. ومن السهل، أيضاً، تجاوز الطائفية الرهابية، عندما يصبح الانتماء الوطني المحدد والأساس في الحياة السياسية والاجتماعية. ومن السهل، أيضاً، أن ترمى العلمانية الطائفية في أقرب حاوية للنفايات، في ظل نظام يستشعر فيه جميع السوريين أن البلد بلدهم، وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات، بما يعني تخلصهم من رهاباتهم وأمراضهم وأوهامهم.
خطوات واسعة
هذا يعني أن الخطوة الرئيسة للتقدم خطوات واسعة في طريق التخلص من الطائفية، بكل أشكالها، المرضية والعرضية والرهابية، هي تفكيك النظام السياسي الاستبدادي القائم، وبناء النظام الديمقراطي. بمعنى آخر، إن معظم الخطاب الطائفي السائد اليوم في الأوساط الشعبية ليس دلالة على مرضٍ، لا شفاء منه، بل هو دلالة بشكل رئيس على داء سياسي مستفحل، وعلى كشف حسابٍ حقيقيٍّ لما أنتجه النظام الحاكم ومؤسساته وأحزابه وإعلامه وجامعاته ونظمه التربوية، طوال نصف قرن.
إلى جانب ذلك، ثمة أهمية كبيرة، اليوم وغداً، للقيام بعمل توعوي وتنويري، إذ ما كان من الممكن أن تنمو تلك الرؤى والممارسات الطائفية، بأشكالها كافة، في المجتمع السوري، لولا النظام التربوي والتعليمي الضحل والاستبدادي، ولولا الإعلام السخيف والكاذب، المكرس لخدمة طغمة حاكمة، وأخيراً، لولا تغييب الأصوات الثقافية والدينية التنويرية، لمصلحة أصوات مغلقة ومحافظة، عملها الأساسي خدمة تلك الطغمة واستمراريتها.
ثمة دلائل عديدة على أن معظم الطائفية الموجودة طارئ، وغير أصيل. أولًا، كيف يمكن أن يكون المرء طائفيًا صرفًا، عندما تكون طائفيته موجهة ضد طائفةٍ بعينها فحسب. بالطبع، هذا السلوك الطائفي غير عاقل ومدان، لكننا نسوقه، هنا، للتدليل على أن الطائفي طائفي تجاه جميع الأديان والمذاهب، ولا يمكن أن تقتصر طائفيته على طائفة واحدة. ويعبر هذا الموقف عن ردة فعل غير سوية، أكثر بكثير مما يعبر عن نزعة طائفية أصيلة، وهذا الفعل غير السوي يكمن جوهره في خضوع المرء للعبة الطغمة الحاكمة في إكساء عنفها وظلمها صبغةً طائفيةً، عن سابق إصرار وتصميم. بمعنى آخر، إن محرك هذه الطائفية الطارئة سياسي، في الجوهر، وليس طائفياً، بحكم خضوع أصحابها لما روجه النظام، بشكل مباشر أو غير مباشر، بدمج سياساته وعنفه بطائفة محددة. بالطبع، من السهل دحض هذه الطائفية الطارئة عند اكتشاف شواهد عديدة جداً، على أن مصدر القتل والظلم متنوع، وغير محصور في فئة معينة، وأيضاً، عند اكتشاف أصوات عديدة جداً من هذه الفئة، رفعت أصواتها عالياً ضد القتل والقائمين به، وتحملت ما تحملت من مرارات وألم ومعاناة.
ثانياً، حدّد سوريون كثيرون مواقفهم إزاء رجال دين معروفين، استناداً إلى أرضية وطنية وإنسانية، وليس انطلاقاً من تصنيفات دينية ومذهبية، متجاوزين بذلك “نخبهم” الثقافية والسياسية، فاحتفوا بمن وقف معهم، ووقفوا ضد كل من صمت عن قتلهم، أو برّره، أو شجع عليه. وهذا ظهر واضحاً في وقوفهم ضد المشايخ ورجال الدين الذين قبلوا أن يكونوا في جيب الطغمة الحاكمة، وفي فرحهم بالذين كانت لهم مواقف مشرفة ضد القتل، بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم. ويمكن، هنا، ذكر رجال دين عديدين، كانوا على مائدة السوريين تشريحًا وتقويمًا من أديان ومذاهب مختلفة، كالبوطي والمفتي أحمد حسون وحسن نصر الله والأب باولو والسيد هاني فحص، وغيرهم.
ثالثًا، معظم الاعتداءات على دور العبادة المختلفة، كما أظهرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقاريرها الموثقة، كانت من النظام السوري، وبعضها من جماعات دينية متطرفة، مثل داعش والنصرة. واقعياً، الطغمة الحاكمة المتكورة على نفسها ستنتج نظيرها في المستويات كلها، وبهذا المعنى، تكون داعش هي مرآة النظام السوري.
رابعاً، كانت شعبية حسن نصر الله واسعة في سورية قبل الثورة، ولم يكن يجري التطرق لطائفته وطائفة حزب الله، لكنها تغيرت بشكل كاسح بعدها. في العمق، لا أحد لديه موقف من الشيعة، بل من حزب الله، وبدلاً من توقف العلمانيين الطائفيين فحسب عند لوم السوريين على الخطاب الطائفي، عليهم أن يرفعوا أصواتهم ليكف السيد حسن نصر الله عن أن يشارك في قتل السوريين، وأن ينتمي للمنطقة، بدلاً من بقائه بيدقاً في سوق السياسة والمصالح الإيرانية. هذا يوضح أن هذه الطائفية تجاه الشيعة طارئة، سببها الرئيس مشاركة إيران وحزب الله في قتل السوريين، وسعيهما الحثيث، أيضاً، إلى إسباغ الصفة الطائفية على عنفهما، على الرغم من أن طائفية حزب الله مبرر وجوده وتأسيسه على أساس طائفي، وتكاد تكون محور سياساته في لبنان والمنطقة.
هاني فحص وآخرون
على العكس، احتفى معظم السوريين في صف الثورة بالسيد هاني فحص، في حضوره، وكان حزنهم عليه كبيراً بعد وفاته. والحالة الوطنية التي ظهرت في لبنان بعد وفاته مرشحة للتكرار في سورية، أيضاً، بوجود شخصيات موازية لهاني فحص. ففي تشييعه، حضر لبنان كله، بمسلميه ومسيحييه وسنته وشيعته ودروزه، وشارك شيوخ المساجد ومطارنة الكنائس من المناطق كلها، كما كان المثقفون والسياسيون من التيارات جميعها موجودين. نعم، توحد لبنان كله لحظات تحت عمامة السيد. لن تكون هذه الحالة غريبة عن السوريين أبداً، كلما وجدوا شخصيات تستحق الاحتفاء بها بغض النظر عن طوائفها.
في ظل هذا الوضع المعقد، والممارسات والسياسات الفوضوية وغير العاقلة، شاع خطاب “التطمين والتطمينات”. فقد قدمت شخصيات وقوى معارضة “رسائل تطمين” موجهة إلى “الأقليات الدينية”، لكنها كانت، في الجوهر، رسائل مبتذلة أو راعبة، والسبب إما سوء الأداء في إيصال الرسائل، وهو ما يعكس الضحالة الفكرية السياسية، أو عدم صدقية أصحاب الرسائل، فقد ظهر جلياً أن مرتكز تلك الرسائل هو النظرة الطائفية إلى السوريين، وليس القناعة بمواطنة متساوية للجميع.
هناك من اقتصر فعله على انتظار التطمينات من الآخرين، وهناك من رأى ضمنياً أن من حقه إصدار التطمينات. في الحقيقة، من يجد نفسه في حاجة إلى التطمين، ينظر لنفسه ضمناً على أنه مواطن هامشي، أو إنه يضع نفسه سلفاً خارج دائرة المواطنة، ويكون بمحل الضيف الغريب عن الوطن. ومن يظن أن من واجبه، أو حقه، تطمين الآخرين، يجعل من نفسه مالكاً للوطن، ووصياً على أبنائه، بما يفضح نظرته العميقة للآخرين، باعتبارهم ضيوفاً وغرباء عن النسيج الوطني.
كذلك شاع، أيضاً، خطاب “العيش المشترك” الذي يخفي، ضمناً، النظر إلى السوريين، بوصفهم يؤلفون مجموعات منعزلة عن بعضها، ولا رابط بينها أو مشتركات، ليصبح المطلوب تحقيق حالة من التسوية بين ما تسمى “مكونات الشعب السوري”، وهي، بالضرورة، تسوية مؤقتة، يمكن أن تنفجر في مناسبات لاحقة. خطاب “العيش المشترك” ينفي إمكانية أن يشكل السوريون شعباً، ويلغي أي إمكانية لتحقق المواطنة المتساوية، لأن مقولة “العيش المشترك” تقوم، بالضرورة، على توازن القوى المتغير بين الطوائف والأديان والأعراق، وعندما يتغير، تتغير معه الامتيازات والحقوق الممنوحة، وربما تنشب الحروب الداخلية، بسبب ذلك.
هناك عنصران أساسيان، ينبغي أن يشكلا أرضية جميع المواقف وأساسها تجاه الحوادث والسياسات والممارسات، هما الإنسانية والوطنية. الإنسانية التي تسمح بالوقوف ضد الظلم والقهر، أياً كان مصدرهما ومبرراتهما، والوطنية التي تنظر إلى جميع السوريين، بوصفهم مواطنين أحراراً ومتساوين في المواطنة. هذا يعني أن الموقف من الثورة والنظام السوري لم يكن يحتاج إلى فذلكات وشروحات كثيرة، بل كان يحتاج، فحسب، إلى موقف إنساني صادق ضد القتل والظلم والقهر والعبودية، وإلى موقف وطني حقيقي، ينظر إلى جميع السوريين بأنهم أبناء الوطن، وأن هؤلاء الذين يقتلهم النظام هم شركاؤنا في الوطن، وليسوا عملاء، ولا إرهابيين ولا مندسين، ولا مأجورين، وأن الحقائق والممارسات، الفاسدة والمستبدة، التي أحدثها النظام، عبر نصف قرن، كانت تحتاج إلى ثورات عديدة منذ زمن بعيد، يشارك فيها جميع السوريين، باستثناء أهل الفساد والاستبداد.
ربما لا يكون كل ما ورد من تحليل أو توصيف في هذه المقالة صحيحاً، وهذا طبيعي، وربما يحتاج إلى مزيد من التدقيق والاستكشاف، لكنه، مع ذلك، يبقى مساهمة متواضعة في نكش المخبوء والمستتر، ومحاولة لفتح حوار حول قضايا مهمة وحساسة، تشكل حولها رهابٌ، يمنع مقاربتها وتناولها، إلا من خلال عقليات شعاراتية، لا تقدم ولا تؤخر.
لكن، من المهم أن نقول سلفاً لمن يحاولون فرض رهابهم علينا إن توصيف المرض لا يعني أننا مصابون به، فكما الطبيب يعرف المرض، ويفهمه ويشخصه، على الرغم من أنه غير مصاب به، يمكن للمهتمين بالشأن العام أن يقوموا بتوصيف واقعهم، وأمراض مجتمعهم، وتحليلها بقصد الاستشفاء منها، من دون أي خوف من الرهابات التي تحاول إيجادها طائفة العلمانيين الطائفيين، بسبب طائفيتها العميقة، بل ينبغي عليهم أن يديروا ظهورهم لها ولترهاتها، والالتفات نحو الغوص في الواقع، بهدف تغييره، إذ إن تشريح أمراض الواقع قد يصب في طريق مداواتها، خصوصاً إذا كنا صادقين بوضع جميع هواجسنا وأفكارنا على مائدة النقاش، ولا بأس، آنذاك، في اكتشاف أخطائنا في الرؤية والتشخيص، لأن الفائدة الكبرى والجماعية تكون قد تحققت.
العربي الجديد