طاقات الشباب المهدورة في المعارضة السورية/ براء موسى
مرّ عقد الثمانينات الكارثيّ وكأنّه كان خارج نسق التاريخ، فلا شبيه له خارج هذا السجن الرهيب المُسمّى «سورية، لصاحبها حافظ الأسد»، عدا الآلاف من الشبّان الذين أُهدرت أعمارهم وراء القضبان، ومضى عقد التسعينات في لملمة الجراحات المُثخنة، ومحاولات الخروج من الصدمة.
في هذين العقدين خلت سورية من شبابها بالمعنى الذي يُشير إلى موات معظم الطاقات الشابّة في البلاد، بالأخصّ: في الشأن العام. وبعد التوريث عام 2000 انتعشت الآمال في التغيير قليلاً أثناء ما سُمّي بربيع دمشق، قبل أن يُودَع قسم من نشطائه السجن.
وإضافة إلى ربيع المنتديات هذا، ثمّة حدثان داخليّاً ساهما في تدفّق الدماء الشابة إلى الحراك السياسي، والاهتمام بالشأن العام، الأوّل كانت ساحته جامعة حلب إبان الغزو الأميركيّ للعراق في ربيع 2003، وتمثّل باعتصام طويل (مفتوح) يُدين العنجهيّة الأميركية، والثاني الانتفاضة الكرديّة في القامشلي وسائر المحافظات ربيع 2004، ومن كلتا الحالتين تسرّب إلى المُعترك السياسي العشرات من الشبّان والصبايا ممّا جعل خدود المعارضين التقليديّين تتورّد، بعد الغياب القسري لمعظمهم وراء القضبان. لكن بقيت تسمية المعارضة السوريّة بعيدة عن الأوساط الشعبيّة التي كانت تغرق في أوحال سياسة «اقتصاد السوق الاجتماعي» التي انتهجتها حكومة الرئيس «الشاب» كستار لنهب المال العام، وكانت انقلاباً فظّا على سياسة التحويل الاشتراكي الباهتة، والتي كانت شعاراً غير مطبّق للرئيس الراحل، وكذلك ستاراً لتغوّل الفساد الذي أنهك البلاد والعباد.
هذه الحصيلة الشبابيّة المنشغلة بالشأن العام طوال العقد الذي سبق الثورة كانت في طلائع الصفوف الثائرة عندما اندلعت من درعا التظاهرات التي تفشّت في كلّ البقاع السوريّة وطالبت، بعد انكشاف همجيّة وتوحّش النظام، بإسقاطه.
واقع الأمر أنّ التظاهرات السلميّة التي عمّت الشارع السوري ألهبت مشاعر الشباب بالمجمل، وأفرزت الظاهرة الشبابيّة من جديد أعداداً هائلة هذه المرّة من الجيل الأحدث للانخراط في المساهمة السياسيّة دونما مواربة، وكان أنّ النظام «الطائش حجره» ازداد شراسة وتوحّشاً في تضييق الخناق على أنفاس الجميع، بالاعتقال تارة، والقتل حيناً آخر، فضلاً عن التعذيب والانتقام اللذين فاقا مدارك البشر، ممّا جعل الخيار المتاح لمعظم الشباب يكاد ينحصر بأمرين: المقاومة المسلّحة، أو النزوح، وتدريجيّاً راح ينزوي خيار المقاومة المدنيّة مع تصاعد الصراع بتشعّباته الفظيعة على نحو ما نراه اليوم.
رافق الأحداث في بدايتها انتعاش جديد للتعويل على عنصر الشباب الذين ترعرعوا في المهاجر بعيداً عن المستنقع السوري الراكد لعقود، وعمليّاً استجاب العديد من المهاجرين القدامى لصرخات الشعب السوري، لكنّ الصدمة كانت كبيرة بهؤلاء، حيث تنوّعوا بين من تعوزهم الخبرة في العمل السياسيّ بشكل عام، والكثيرين من الانتهازيّين الذين وجدوا الفرصة سانحة لميولهم الانتفاعيّة.
أمّا الطاقات الشابّة التي اختارت النزوح أو اختارها هو، فقد غدت ظروف الحياة الجديدة تستهلكها، فضلاً عن أولئك الذين راحوا يغرقون في سلبيّات تستهلكهم كلّياً.
مع الصراع التقليديّ بين الأجيال، وضبابيّة المشهد السوري في شكل عام، ابتلعت قوى المعارضة السورية «التقليديّة» والناشئة جهود الشباب، أو همّشتهم معظم الأحيان، وفي أحسن الأحوال تركتهم لمصيرهم، وفي حالات أخرى تاجرت بهم، وفي ظلّ كلّ تلك الفوضى العارمة راحت طاقات تلك القوّة الحقيقيّة تتبخّر بأشكال عدة ليس آخرها التفريغ الرخيص عبر قنوات التواصل الاجتماعي.
قبل الثورة، كان المعارضون السياسيون يُرحّبون بالعناصر الشابّة، ويحتفون بالشباب الوافدين بفرح وتفاؤل، لكنّ الظاهرة برمّتها كانت حينها غير مرئيّة لصغر حجمها، كما موات الحياة السياسية إجمالاً. وأثناء الثورة اتّسعت الظاهرة، لكن في شكل مختلف، حيث التشجيع والاحتواء قائمان لكسب أصوات التأييد والناخبين شرط عدم المنافسة على المناصب والمكانة.
الطاقات المهدورة للشباب السوري سواء في الداخل أو المهجر كانت وما زالت تتكلّل بالعجز، ولأنّ الداخل مكلوم ومرهق فإنّ صرخات الاستغاثة واللوم تعلو، ولا يكاد يمرّ يوم دون تقريع التساؤل: «ماذا تفعلون هناك؟».
لا الائتلاف كمؤسّسة، ولا غيره من المنظّمات المستحدثة، ولا حتّى أساطين المعارضة، أو الشخصيّات «الاعتباريّة» يُعيرون الشباب الرعاية اللازمة في معظم الأحوال، خاصّة أولئك الذين في بلاد النزوح ولديهم مساحة أكبر للحركة مما لأشقائهم في الداخل، دون أن يجدوا من يرعاهم أو يُساعدهم على «لملمة» طاقاتهم المهدورة.
وعلى رغم وجود بعض المُميزين الذين تفيض طاقاتهم بالإبداع والإنتاج فإن الإنجازات الفرديّة تضيع غالباً في زحمة الركود العالميّ للقضية السوريّة. فالائتلاف، كما غيره، غارق إلى أذنيه في دهـاليـزه التي تـبدو عقيمة، ومثله بعض التنظيمات الصغيرة، والشخصيّات المستقلّة ذات التأثير.
ومن الممكن، بل الطبيعي، أن تفرز الثورة بين الحين والآخر أفراداً من الشباب يرتقون إلى مستوى «ظاهرة فردية» بما لديهم من طاقة فائضة وإبداع فرديّ، فيتركون بصمات واضحة وخلّاقة في مجال يُفيد الحراك الثوري عمليّاً، غير أنّ المأساة السورية النازفة تحتاج إلى أكثر من بصمات فردية. إنها تحتاج إلى راعٍ حقيقيّ لتلك الطاقات المهدورة.
* كاتب سوري
الحياة