طالبو حكم دمشق، الفرنجة والمماليك../ خيري الذهبي
حين احتل غورو سورية ولبنان وفقاً للقسمة الجائرة التي وهبت فيها الدولة الإنكليزية للدولة الفرنسية ما سيُسمى في ما بعد بجمهوريتي سورية ولبنان، فقام غورو بعد معركة ميسلون بحركة دراماتيكية حين قسم بلاد الشام حسب الخريطة التي تركها الفرنجة الصليبيون من خلفهم، فالفرنجة استسلموا إلى الواقع الجغرافي السوري فأنشأوا إمارات مثل إمارة أورفه، وإمارة أنطاكيا، وإمارة طرابلس الشام، وإمارة الكرك، ومملكة بيت المقدس،وكان للمسلمين إمارة حلب وإمارة دمشق، وكانت سورية الداخلية كحمص وحماة تتبع لواحدة من الإمارتين الإسلاميتين، فلما وصلت فرنسا إلى الشام قسمت البلاد حسب الخريطة الفرنجية، فإمارة أورفه أعطيت لأتاتورك التركي، وإمارة أنطاكية سموها دولة “جبل العلويين” وإمارة طرابلس الشام تحولت إلى دولة لبنان الكبير. وإمارة الكرك تحولت إلى دولة شرقي الأردن، أما مملكة بيت المقدس، فقد تحولت إلى الدولة اليهودية الموعودة “إسرائيل”، أما الإمارتان المسلمتان دمشق وحلب، فقد تحولتا إلى دويلتي دمشق وحلب.
ولكن السنوات التالية لحملة غورو شهدت اتحاد الدويلات السورية في دولة واحدة هي “الجمهورية السورية” وشهدت قيام إمارة شرق الأردن التي تحولت فيما بعد إلى دولة مملكة الأردن.
كانت أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي قد مرت بقرن لا طواعين، أو كوارث طبيعية فيه فازداد عدد سكانها في أوروبا، فلا مجاعات، والمطر منتظم، وأبناء الفلاحين يزدادون ويفلحون أرض السيد الإقطاعي، ويحصدون ما يكفي للسيد الإقطاعي ونزواته ومغامراته الحربية والغرامية.
وازداد السكان من إقطاعيين، وكهنوت، وفلاحين حتى أصبحت الأرض لا تكفي لإطعامهم، فكثر قطع الطريق، ونهب الكنائس، وما رواية “روبن هود” إلا الدليل على ما وصلت إليه أوروبا الغربية اجتماعيا واقتصاديا…..
وصار أبناء النبلاء المحرومون، ممن لا يملكون أرضا، أو لقبا يضطرون إلى قطع الطريق ونهب الكنائس بعد أن امتلأت البلاد بالأولاد المحرومين من الميراث والألقاب الإقطاعية التي كانت لأبيهم، فاضطروا إلى دخول السلك الكهنوتي ليتحولوا إلى أمراء للكنيسة، وامتلأ الجيش بالضباط الكبار من أبناء الإقطاعيين… المحرومين من الميراث، وامتلأت بيوت النبلاء ممن لم ينجبوا أبناء، فورثت البنات.. الإقطاعيات، والألقاب، وتزوجن من واحد من الـ “سان كيلوت” أي الفقراء حتى من كيلوت يستترون به.
وكان القانون الإقطاعي في أوروبا كلها صريحاً في أن اللقب والأراضي الإقطاعية هي للبكر من الأولاد صبيا كان أم بنتا، وكان الابن الأصغر حين يأبى العيش عالة على البكر في القصر الإقطاعي، وليس أمامه إلا الكنيسة ليصبح بعد ترقٍ طويل واحدا من أمرائها، أو الجيش ليصبح واحدا من أمرائه، ولكن حين امتلأت المناصب الكنسية بالنبلاء الـ “سان كيلوت” كما امتلأ الجيش لم يعد أمام النبلاء إلا قطع الطريق بابا للرزق، وضج المجتمع من هذه الفوضى.
وعندئذ تدخلت الكنيسة والبابا، فقرروا هجرة الفائض من النبلاء إلى الشرق مع الفائض من الفلاحين أيضا إلى الأراضي التي يحتلها الكفار المسلمون وهي الأراضي الغنية بالسمن والعسل، أي سوريا الكبيرة وفلسطين قلبها، وهكذا بدأت الحروب الصليبية كما دعاها الغرب، والحروب الفرنجية كما دعاها المسلمون على الجانب الآخر من الصراع أي الجانب الإسلامي الذي كان قانون الميراث فيه خاضعا للشرع، فقد خرب هذا القانون العادل بين الأفراد والدول التي خضعت لتقاسم الميراث من دول وإمارات بدءا من الإمبراطورية السلجوقية التي وصلت أيام انتصاراتها الكبيرة أي قبل الغزوات الصليبية بربع قرن فقط إلى إمبراطورية تمتد من أعماق آسيا إلى البحر المتوسط… هذه الإمبراطورية التي أنجز السلطان “ألب أرسلان” في معركة “ملاذكرد” أو”مانزيكرت” الانتصار الخارق فيها.. بين الشرق الإسلامي “السلجوقي” والغرب البيزنطي المسيحي، والتي يعتبرها المؤرخون المسلمون بأهمية معركة اليرموك في الشام التي أنهت الوجود البيزنطي في سورية، وبأهمية معركة الزلاقة في الأندلس والتي أعادت التوازن لعدة مئات من السنين بين إسبانيا الصاعدة، وبين المراكشيين الذين عبروا مضيق جبل طارق بقيادة يوسف بن تاشفين.
المهم هو أن الإمبراطورية السلجوقية قد حولها قانون الوراثة الذي لم يميز بين توزيع طناجر بيت المتوفى، وبين توزيع الأراضي والدول بين الأبناء من الورثة، فكان حين وصل الفرنجة إلى الشرق أن وجدوا الشام، وكل مدينة فيها يحكمها حاكم من الورثة، ولكل إقطاع حاكم يكره جاره “أخاه” الذي كان شديد القرب منه قبل موت الأب المورث، فمرّ الفرنجة في ما بينهم مرور السكين الساخنة في الزبدة، وكان عدد من وصلوا إلى القدس من الفرنجة وحاصروها لا يزيد على ألف فارس وعدد المشاة لا يزيد على تسعة آلاف، وهذا عدد مضحك أمام الجحافل المسلمة التي كانت تعيش على أكتاف الجياع من الوطنيين.
انتظر المسلمون المهزومون قيام حاكم مسلم ما لينقذ الشام الساحلية من الاحتلال الصليبي، انتظروه لأربعين سنة، وأخيرا ظهر زنكي الشامي كما كان يحب أن يدعى في الموصل، وهو الذي سنعرفه باسم “عماد الدين زنكي” الذي سينتقل بجيشه إلى الشام رافضا العودة إلى الموصل، وكان أهم إنجازاته العسكرية هو تحرير مدينة وإقليم أورفه، وكانت الإمارة الداخلية الوحيدة التي احتلها الفرنجة، ثم أسر الرعاة من التركمان حاكمها “جوسلين” مع المغامر اللص “أرناط” في منطوقه العربي، أو رينو دو شاتيون في منطوق الاسم فرنسيا، وهو.. السان كيلوت.. المغامر الذي انضم إلى جحافل الصليبيين لفقره، ودون إحساس ديني منه بأهمية الفعل الذي ساهم به، وكان حين أسره متزوجا من وريثة إمارة أنطاكية، وقد قرر يوما غزو ونهب جزيرة قبرص التي كانت تابعة لإمبراطورية القسطنطينية مذهبيا وسياسيا، ولكن الحملة كانت في حاجة إلى تمويل لا يملكه، فاستدعى كاردينال أنطاكية الكاثوليكي الذي كان قد قبل بطرد بطريركها البيزنطي أي الأرثوذكسي قبل سنوات، وحل محله، فطلب منه أرناط تمويل الحملة على قبرص، ولكن البطريرك رفض متحججا بالفقر، فأمر به، فحمل إلى سطح الكنيسة، وقادوه تحت أنظار الفرسان الساخرة، فقيّد وعرّي، ثم سكبوا عليه جرة من عسل في يوم شرق أوسطي قائظ، وتركوه فهاجمته الدبابير والزلاقط والنحل تسعى وراء العسل المغطي جسده العاري، فأخذ في العويل والصراخ مستنجدا بـ”أرناط” الذي حضر وقبل توبته وتمويله للحملة كاملة من كنوز الكنيسة، وعن هذه الحملة الغادرة يحدث المؤرخون أن جزيرة قبرص “جزيرة الربة أفروديت “لم تقم لها قائمة من بعد هذه الغزوة التي دمرت فيها كل حضارة وقدرة!
بعد مقتل عماد الدين زنكي، وتوريث أبنائه ما ترك من إقطاعيات وإمارات وسعي على غير طائل إلى ضم دمشق المحاذية للإمارات الفرنجية، وإخفاق الفرنجة في ضمها أيضا لسياسة التزمها معين الدين “انر” هو أنه إذا هاجمه عماد الدين مد يده للتعاون مع الصليبيين لتسليمهم المدينة، فيتراجع عماد الدين عن مهاجمة دمشق فأن تبقى مع حاكم مسلم خير من ضياعها في يد الفرنجة ـ وإذا تقدم الفرنجة من دمشق طالبين فتحها مد يده إلى عماد الدين طالبا عونه فيتراجع الفرنجة، فأن تبقى المدينة محايدة خير من ضياعها النهائي على يد الحكام المسلمين.
وأخيرا قتل عماد الدين أثناء حصاره قلعة جعبر القريبة من مدينة الرقة، وكان وريثه نور الدين مخلصا لقضية التحرير، فاستطاع بالحرب حينا، وبالأموال والإغراءات حينا ضم معظم ما تركه أبوه من أراض، وأخيرا كانت دمشق التي عصيت على أبيه تتحداه، فحاول كثيرا جعل معين الدين أنر يتنازل عن دمشق مقابل إعطائه المدينة التي يشاء فرفض، وحاول قتله فأخفق، وكان على نور الدين انتظار موته وهو العجوز، فأخذ في مراسلة كبراء المدينة وفقهائها في انتظار اليوم الموعود.. ولكن أوروبا لم تكن لتنتظر أكثر فتشكلت حملة صليبية كبيرة تريد إنهاء الحرب في سورية لصالح أوروبا وأورشليم.
وكان في الحملة وعند أقدام دمشق إمبراطورا بيزنطة وروما، وكان فيها ملوك خمسة منهم ملك فرنسا وملك بيت المقدس، وكان فيها عدة كرادلة، وآلاف الفرسان وآلاف المشاة من السرجاندية والمشاة، فخاف معين الدين، وعرض الصلح ولكن الإمبراطور رفض إلا التسليم وتعيين حاكم صليبي جديد عليها وكانوا قد استقروا على تعيين كونت فرنسي على دمشق الشام عليها، فغضب ريمون كونت طرابلس الشام، فقد كان الأحق، فهو من الصليبيين البلديين “وهذا يعني قدماء الفرنجة الصليبيين” الذين تطبعوا بالطباع الشامية وتحدثوا باللغة العربية، فأتقنوها بالإضافة إلى لغتهم الأصلية، ولكن كبراء النبلاء والكرادلة رفضوا، وفضلوا نبيلا فرنسيا عليه… وأسقط في يد المملوك الماكر معين الدين، وأحس أنه قد أوقع به، فأرسل إلى كونت طرابلس ريمون يعرض عليه مئة ألف بيزنته “دينار بيزنطي كامل” إن استطاع دفع الفرنجة عن إمارته بأية طريقة، وفكر ريمون طويلا فرأى أنه قد خسر إمارة دمشق، فلم لا يكسب مئة ألف بيزنتة دون تعب فأرسل إلى معين الدين أنه موافق، وأن يرسل معين الدين المبلغ أولا، وسارع معين الدين بإرسال الدنانير، ولكنه أرسل معها عدة رسائل جوية أي محمولة على أجنحة الحمام، وكان يقدر أن يراها بعض النبّالة الفرنج فيرمون واحدة منها ويحملونها إلى حضرة الأباطرة والملوك الصليبيين، فيغضبون ويهاجمون خيمة ريمون، ويعثروا على البيزنتات فيتأكدون من خيانة ريمون، فيقومون بمحاكمته أو قتله، فيثور أصدقاؤه البلديون وتقع الفتنة في المعسكر المحاصر لدمشق، وكان في الرسالة تحيات إلى الصديق المخلص ريمون يشكره على تعاونه المؤكد لمحبته لجيرانه من المسلمين، وفرح ريمون بالرشوة القادمة إليه دون تعب، فدفنها في أرض الخيمة وأخذ يحاول ثني الصليبيين القادمين لفتح دمشق وإهدائها إلى الكونت الفرنسي على طاولة الارتياح والرضا.
هاجم الصليبيون الأوروبيون خيمة ريمون، وعثروا على المحفظة الحاملة للدنانير البيزنطية، واشتعل الغضب في صدور القادمين الجدد، واختفى ريمون خيفة أن يقتله أحدهم في فورة الغضب، ويضيع دمه بين الفرنجة.
المضحك في الأمر أن الأباطرة والملوك اتفقوا على تقاسم الرشوة فيما بينهم واعتبارها تعويضا عن تكاليف الحملة الفاشلة، فاجتمعوا في القدس، وأمروا بفتح الحقيبة تمهيدا لعد الدنانير وتقاسمها فلما فتحوا الحقيبة وفحصوا الدنانير اكتشفوا أنها مزيفة، وأن ثعلب دمشق قد سخر منهم، وخدعهم، وانتصر عليهم من دون تكاليف.
ضفة ثالثة