طال المطال/ عزيز تبسي *
حينها فحسب، تمنى الكثيرون تحقق ما يرغبون في سماعه منذ ساعات طويلة، تبددت كلها في الطريق المتشعب والحواجز المتعاقبة، أي نداء معاون سائق الحافلة، الذي كان يحفزهم، قبل دقائق من نهاية جميع الرحلات في الأعوام السابقة، بعد أن يهنئهم بالسلامة ويؤكد لهم اكتمال وصولهم، على ضرورة تفقد حقائبهم وأكياسهم قبل المغادرة.
وتكون فرصة متاحة ليباعد المسافرون الستائر المنسدلة عن النوافذ، ليروا ويدققوا في مشهد المدخل الشمالي للمدينة التي كانت قبل قرون عاصمة الدولة الأموية، وهي تنهض للتو من نومها.
أكانت امرأة تخرج وتتقدم بخطاها الهوينا، تطلع من أعماق أبخرة الحمام، تلف رأسها بمنشفة بهيئة أمراء طائفة السيخ، وتسدل على جسدها العاري غطاء من القطن السميك المطرز بخيوط حرير، على هيئة بتلات زهور برية ورؤوس سنابل مذهبة… يسبقها عطر الصابون بروح أوراق الغار… أم تتمطى بكلتي ذراعيها المتسامتتين، وهي تنحدر بحذر، حافية القدمين من أعالي جبل قاسيون لتتفقد أبنائها.
لكنها أخيراً تخرج حية ونظيفة وحرة، لا من قبر ثُقّل بأحجار رخام صقيلة، تظهره كقبر إمتيازي، مسور بقضبان حديدية، مزينة حوافه بأصص زهور خجولة مدثرة بأوراق خضراء عريضة، أو من مدونات تاريخية أنهكتها الرطوبة والأحبار، ومزقتها الإحتمالات، والتأويلات.
أم أنه أوان التحرر من آثار بهتان الرومانسية التاريخية، باليقظة المبصرة التي تدفع لضرورة الخوض في أوحال واقعيتها، ليرى ما يجب أن يُرى، شغيلة يحملون ببضعة أرغفة وحبيبات بندورة وبصل وعلب سردين، تظهر أشكالها المكورة من شفافية أكياس النايلون المتدلية من أصابعهم المكورة، وقفوا على جانبي الطريق، ينتظرون الحافلة التي ستنقلهم إلى عملهم في مشاريع البناء الكثيرة.
شبان ببزاتهم العسكرية المموهة، تحلقوا حول بعضهم وهم يفركون أكفهم ببعضها، في انتظار شاحنة “زيل” مكشوفة الظهر، تحملهم إلى حيث يستكملون أداء خدمتهم الإلزامية.
طلاب الجامعة.. حملوا كتبهم ودفاترهم، بعضهم يحمل أدوات للرسم الهندسي، وبعضهم يطوي على أذرعتهم مراييل بيضاء، من التي تلبس أثناء إجراء تجارب المخابر أو تشريح الجثث.
شاحنات تعبر تباعاً، محملة بأكياس الإسمنت وأسياخ الحديد والنحاتة البيضاء، جبالات باطونية لا تتوقف عن تدوير أحواضها الممتلئة بخلائط الإسمنت والتراب والحصى، المجهزة للضخ إلى أعالي أسطح أبنية تشيد حديثاً… شاحنات طويلة متلاحقة محملة بقطعان من الأغنام والعجول، كاميونات متوسطة ترتفع بصناديق الخضار والفواكه… أكشاك باعة سحلب وصمون وشاي وقهوة.. سوزوكيات وهوندايات يعبرون بحمولتهم العالية من أساس منزلي صف بعجالة… وما من وقت متاح للاستفسار: أمسروقات، أم عفش نازحين.
أخيراً انتهت السفرة… لكن ما الذي نسوه في الحافلة ، التي أستعجل سائقها العجوز قيادتها إلى مخبئها الآمن في الكراج البعيد الواسع، مبقياً المسافرين فوق أرصفة متوازية، يدورون حول أنفسهم وحقائبهم المرمية على الأرض، يلقون من حين لآخر نظرة خاطفة إلى السماء، منتظرين برعب وتوجس أقدارهم، قبل دنو سائقين مجازفين يحملونهم إلى قلب المدينة وأحيائها الطرفية، ويفرضون عليهم أجوراً خيالية يحسبونها توازي مجازفاتهم!
يتذكرون منسياتهم. أولادهم، الذين ما زالوا على قناعاتهم الطفولية بأن آباءهم ليسوا سوى متاريس وخوذات ودروع فولاذية كفيلة بحمايتهم من الرصاص والقذائف، والثعالب التي تخرج من كتب الحكايات، والرجال الشرسين، ومعلمات المدرسة السفيهات، وكل النوائب الممكنة والمتوقعة، وحزمة من دثائر صوفية شغلت بأناة بأسياخ وأصابع لا يأتها الكلل، وضروع مكنوزة من حليب لا تبخل ولا تعجف.
أم هي الحقائب وعلب الحلويات… أم مجموع ركاب الحافلة…أي من بقي حياً إلى المحطة الأخيرة، من الذين لم يخطفوا في إحدى محطات الطريق الطويل، والذين قتلوا أو جرحوا في محطة أخرى في تبادل مباغت لإطلاق النار، ونقلتهم سيارات الإسعاف.
تتدفق عبارة “الحمد لله على السلامة” وتتكرر كلازمة، حاملة معنى الظفر من صراع على الكينونة، وتحث على تقبّل الذي حصل، بحمد الله على البقاء أحياء…وعلى اكتفاء الله بهذه العقوبة – الامتحان. ربما لثبات قناعات الناس في تفسير الوقائع على منهج يتفرع من أنماط العقوبات والمكافآت والامتحانات الإلهية.
ليس من الضرورة التعقيب على العبارة، لا لكونها ستتكرر إلى حين التفلّت من هذا الشرط ،الذي عُمل بحذاقة هندسية ليكون شرطاً قهرياً تسيل من أجنابه الدماء وتدفعه إلى الغرق بها في آن. أو ترقب مصيبة أخرى، تنسي المصيبة الأسبق. يكفي أن يهز المرء رأسه من حين لآخر، أو أن يقول “الله يسلمك”… وبإمكانه أن يحدث نفسه: أباتت الرحلة بين مدينتين، أو بين حيين في المدينة، بمثابة الاستعداد لخوض غمار معركة.
يجب الاستعداد للموت في أي لحظة، أو التشارك به، بالاستماع لأخباره في موت صديق، قريب، أحد أفراد الأسرة، بائع متجول يصادَف كل يوم في الطريق… نحن في حالة حرب.
من الصعوبة التحرر من أحابيل اليأس الذي صنعته السلطة باحتراف، واستكملته كتائب مقاتلة بمرجعيات فاشية وجنائية، بعد أن تسلموا جميعاً ميراث الاستبداد، كعصا سباق تتابع.
التيئيس من أي مخرج يحقق كل أو بعض ما قامت لأجله الانتفاضة الشعبية الثورية، وقدمت في كفاحية إعجازية خيرة أبنائها وبناتها قرابين على مذبحها، لتتحول رويداً في الكتابات والأحاديث التي تحاول تعقبها إلى سرد لفجائع المظلومية وأهوالها، والانحرافات التي أخذت الفعل الثوري إلى مواقع لن يتعافى منها، بالسهولة التي تقدمها كتابات إنشائية ظافرية، منفصلة عن الوقائع والحقائق، أو متواطئة مع تأويل سطحي لها.
يحصل هذا مع مرور خجول، يحصل من وقت لآخر، للتذكير بأسبابها وأهدافها التي صارت ذكرى، لم ينسها الثوار قط، لكن يؤمل فيما يبدو أن تفد سواهم من الفاشيين واللصوص والمجرمين، بعد أن بات مصيرها العسكري بين أياديهم. وكأنه لا يريد أحد التصديق: أبعد كل هذه التضحيات، يمكن أن يكون الفشل هو المآل المنتظر.
أخيراً قال الرجل الذي دلف إلى سيارة عمومية وصلت إلى مكان تجمع المسافرين، بعد أن سبقته أسرته الصغيرة إلى داخلها: كنا حيوانات ونتدبر أمورنا، من الذي أقنعنا أخيراً أننا ننتمي للإنسانية. وكأنه يعقب على عبارة راجت في السنوات الأخيرة، خرجت من صدر رجل مقهور “أنا إنسان ماني حيوان، وهاي الناس كلهم متلي”.
ويُنتظر أن يصعد أحد إلى أعلى الصارية، في استرداد لواقعة “رودريغو دي تريانا” أحد بحارة كولومبوس والمتقدم على أسطوله بسفينة “بنيتا”، ليهتف بما تبقى في حلقه من صوت جهوري، يفجر معنى الضراعة الآدمية حين تكون رهينة أبواب موصدة لا تنفتح سوى على أبواب موصدة أخرى، وتجد في النهاية مخرجا ما، مخرجها:
اليابسة يا خلق
اليابسة يا خيّو
اليابسة “يا سامعي الصوت”
ويبقى من يسمع الصوت، ويسعفه قلبه على اختبار هذه اللحظة المنتظرة، والنجاة منها في آن، ملبياً ضرورة التاريخ حين يتقمص ذريعة لم تعد تفصح عنها سوى اللغة، المختزلة بكلمة، كأن يقول بيقينية آسرة: خلصنا!
أو بالأحرى: تخلّصنا!
* كاتب من سوريا
السفير الثقافي