طاهر البكري: كيف يمكن للشاعر أن يصمت أمام آلة القتل؟
بعد صدور ديوانه بالفرنسية «أسمّيك تونس»
طاهر البكري عند قبر محمود درويش في رام الله
باريس: محمد المزديوي
يمنحنا الالتقاء مع الأكاديمي والشاعر التونسي، طاهر البكري، المقيم في باريس فرصة لمعرفة جديده ومواقفه من القضايا التي تهم الإبداع دون إغفال موقفه من الربيع العربي، وفي عمقه الربيع التونسي. ولعل تأخرنا في استبيان موقف هذا المبدع المتعدد التخصصات والاهتمامات،الذي لا يتوقف عن الكتابة وعن السفر، والرغبة في عدم التعجل فِي مساءلته، كما يفعل عادة، فالأدب السريع والمتعجل لا يستطيع أن يعبر بصدق عن الأحداث الكبرى، ولعل ما سمي أيام الراحل صدام حسين «أدب الحرب» مثال على هشاشته، ولا يبدو أن ثمة نصوصا كبرى خرجت من رحم الحرب العراقية – الإيرانية.
ابتدأ لقاؤنا بالتساؤل عن جدوى الشعر حاليا؟ فكان جوابه: «وما جدوى الشابي والسياب ودرويش ورامبو وسان جون بيرس وهولدرلين ولوركا ونيرودا وبيسوا؟ هل تساءل هؤلاء عن فائدة الشعر أم كتبوا قولا ضروريا يرفع من قيم الإنسان؟ الإجابة عن جدوى الشعر هي من واجب المتلقي أولا، ثم قد يعتبرها الشاعر من مشاغله. على الشاعر أن يكتب، مهما كلفه ذلك. تصلني من حين لآخر رسائل عبر الإنترنت من قراء يسكنون بقاع الدنيا المختلفة، لا أعرفهم ولم ألتق بهم ولكنهم وجدوا فيما أكتب بعضا مما يحرك سواكنهم. يكفي هذا لنقتنع بجدوى الشعر. ما ينفع الناس يبقى في الأرض أما الزبد فيذهب جفاء».
وحين نسأله حول ما يريد أن يعبر عنه من خلال نصوصه الشعرية؟ يقول: «هناك بون بين ما أريد التعبير عنه وما أستطيع كتابته. لأن كتابة الشعر هي عملية صراع دائم مع اللغة التي بها نكتب – وفيما يخصني مع لغتين – في معاناة وجهد لتوليد القصيد أبعاد النفس في توقها للحرية وجمال الكون وحب الحياة. لا أكتب من الإجابات السطحية أو المواضيع العقائدية في خطابها السياسي المتداول، بل من خطورة السؤال وأهميته. وأعمل في بعض الحالات على مساءلة الحداثة من باب التراث. كتبت في مواضيع كالمنفى والترحال والحب وهموم الإنسان العربي حتى وإن كانت غالب كتبي بالفرنسية. هكذا كتبت على لسان امرئ القيس ديوان (نشيد الملك الضليل) وعلى لسان ابن حزم ديوان (مسابح الوصل) وكذلك ديوان (إذا كان على الموسيقى أن تموت) في الدفاع عن الفن والحضارة الإنسانية، إلى غير ذلك من الدواوين التي أملتها علي ضرورة الكتابة».
ولكن، هل بإمكان القصيدة أن تقول كل شيء؟ «قديما وحديثا يعسر تعريف الشعر وماهيته فما بالك بإمكانيته. لو تمكن القصيد من قول كل شيء لما حاول الشعراء في بحثهم الدائم إيجاد أشكال ومعان ودلالات وإيقاعات جديدة. القصيد ليس جاهزا كطبق نملؤه بما نشاء ونقدمه للقارئ النهم المتسرع، بل هو عصارة الأيام في وعيها اليقظ وطوبى الحلم المتيقظ إلى ما نصبو إليه من مثل إنسانية، واقعا وخيالا. قد نفلح في القول وقد نعجز ولكن مهمة الشاعر تكمن في جعل الكلمة تسمو بما يقول ويكتب، بعيدا عن الابتذال والرتابة والفقر النصي، مهما كان الموضوع. إن صمت الشاعر حينا، لا يعني أنه يخل بدوره أمام الخطب الجلل وهول الفاجعة. كيف يمكن للشاعر أن يصمت أمام آلة القتل وسلطان الرعب، أمام من يقتل شعبه ويسيل دماءه؟ حتى وإن عجزت القصيدة عن القول، فالشاعر يجب أن يقول كلمته كمواطن. وثق أني لا أخلط بين كتابة الصمت وصمت الكتابة».
وبما أن الثورة التونسية حاضرة في الأذهان فقد سألنا الشاعر البكري عن موقفه من الثورة التونسية خصوصا، ومن الربيع العربي عموما، فقال: «الثورة التونسية هي ثورة شعبية ضد الظلم والقمع وانتهاك الحريات وسرقة الأموال العامة ومطالبة بالحرية والديمقراطية التي تنادي بها كل الشعوب العربية منذ عقود. إن موت الشهداء في كل يوم في سوريا مثلا وفي المنطقة العربية عامة لبناء حياة عزيزة حرة وتأسيس المجتمع العربي الديمقراطي – مهما كانت الاختلافات في المذاهب والعقائد – ليبعث على تواضع الشعر بقدر ما يطالبه بمسؤوليته التاريخية حتى لا يصبح الربيع شتاء قاسيا أو يستغله بانتهازية رهيبة سياسيون لا هم لهم إلا السلطة أو فرض قيود جديدة، بعيدا عن مطامح الشعب وآماله».
ولأن الشاعر سافر كثيرا وكتب نصوصا كثيرة تتحدث عن كثير من القضايا السياسية سألناه، وهو الذي كتب عن فلسطين وعن مواضيع سياسية أخرى، ألا يخاف من سقوط الشعر في السياسوية المقيتة؟ وكأنما حاول سل نفسه من الفخ، قال: «نشرت كتابا عن فلسطين (سلام غزة) وفيه يومياتي عن الحرب على غزة وكذلك يومياتي عن رحلة قمت بها إلى فلسطين المحتلة في مارس (آذار) 2009. كتبت بكل جوارحي ما أحسست به من ألم ووجع لدى زيارتي إلى رام الله والقدس الشرقية ونابلس وبير زيت ومع الأسف منعت من الذهاب إلى غزة. في الكتاب كذلك قصائد كتبت عن محمود درويش وحصار جنين وغزو جنوب لبنان. كيف يسقط الشعر في السياسوية – هل هذه نزعة انبتات هامشية أو غيبوبة ينادي بها البعض أمام الفشل الذريع – وتاريخك مثخن بالجراح ومثقل بالهزائم والمآسي. لا خوف على الشعر من أي باب، إن كان اقتناعنا مسيكا وغير متنازل عن عمل الكتابة وقيمة الإبداع، فنا وشعورا وصدقا. لا أكتب صراخا حماسيا أو جعجعة، بل كلمات رقيقة، عنيدة ومتجذرة في الكيان العربي. أكتب عن كل أقحوان تدوسه أحذية المستوطنين، عن كل نبتة زعتر تأتي عليها دبابات الغزاة. أكتب عن موج البحر الذي يحمل صخبي الداخلي، عن كل شجرة زيتون تحتاج إلى لقاح الرياح الأربع».
أحيانا تستبد بالشاعر نوبة من الكآبة إزاء الاحتفال بـ«يوم الشعر» فكان لا بد أن نسأل شاعرنا عما يوحيه له الاحتفال بيوم الشعر وبربيع الشعر؟ فكان رده: «رغم تذمر الناشرين من كساد سوق الشعر لا يمر عام دون أن تتكاثر الكتابات والمظاهرات والقراءات والاحتفالات بربيع الشعر في كل المدن والقرى الفرنسية. أصبح الاحتفال شبه عالمي، وهذا يعطي للشعر حيوية وحضورا وشعورا بأن الشعر أصبح فنا قريبا من الناس ونزل من برجه العاجي. فهو كالموسيقى والرسم والغناء، له دور ثقافي وجمالي في المجتمع. وحبذا لو نستمع أكثر في بلداننا العربية والإسلامية لأصوات الشعراء والفنانين عامة، عوض أصوات الرصاص الحي والمدافع والقنابل وعويل الأمهات».
ماذا فعل الشعر لمصلحة الثورة في تونس، وهل بإمكان القصيدة أن تكون رديفا للثورة التونسية؟ أجاب الطاهر بنوع من الحذر المسؤول: «كيف يمكن للشاعر أن يكون رديفا للثورة؟ لا بد من التواضع أمام من قدموا أرواحهم وأصبحوا شهداء الحرية والكرامة. لم تكن أبيات أبي القاسم الشابي التي رددها المتظاهرون وما زالوا يرددونها في ربوعنا إلا حافزا ملهما وتعبيرا متأججا عن نفاثة صدورهم كما كان الشابي نفسه يعرف الشعر. أتفق مع الشابي في أناشيده وأحب تسمية ديوانه (أغاني الحياة)، لأني أعتبر الثورة تأسيسا لحياة أفضل وحبا جميلا». وقبل أن ينتهي لقاؤنا كان من الضروري أن نسأل طاهر البكري عن جديده، فقال: «آخر ديوان لي هو (أسميك تونس) وصدر بالفرنسية في باريس عن دار المنار للنشر. وكذلك صدر لي قرص يجمع بين الشعر والموسيقى (إذا كان على الموسيقى أن تموت) عن دار قواسكو. الشعر مترجم إلى عدة لغات والموسيقى من تأليف بول هويلو بمعية موسيقيين من آيرلندا وفرنسا وأرمينيا وإنجلترا».
الشرق الأوسط