صفحات العالم

طبيعة الصراع السياسي في سورية


د. يوسف نور عوض

تكتسب الأحداث في سورية أهمية خاصة بكونها تثير تساؤلات ظلت حقبا طويلة من الزمن ترقد في الظل، ولعل مصدر الاهتمام بها في الوقت الحاضر يكمن في حقيقة أن الناس لا يصدقون كيف أن حاكم دولة ظلت على مدى عقود تدعو إلى الوحدة العربية يقتل شعبه على هذا النحو؟ غير أن توافق الأحداث في سورية مع ثورات الربيع العربي جعل الكثيرين يخرجون بما يجري في سورية إلى مدى أوسع لمعرفة حقيقة هذا النظام الذي ظل فترة طويلة من الحكم يتاجر بمفهوم القومية العربية بل سعى بالفعل- لكي يقيم أول نظام وحدوي عربي مع مصر، وهو النظام الذي لم يصمد طويلا ولم يعرف معظم الناس في العالم العربي على وجه الدقة الأسباب التي جعلت وحدة مصر وسورية تفشل كما لم يعرفوا الأسباب التي جعلت حزب البعث يتبنى في ذلك البلد مفاهيم قومية.

وهنا لا بد أن نؤكد أن النظام السياسي في سورية هو في الأساس نظام يقوم على مفاهيم طائفية هي التي تكمن في قاعدة الصراع القائم في الوقت الحاضر في البلاد، إذ المعروف أن نظام بشار الأسد هو نظام يؤسس نفسه على المذهب العلوي، وكما هو معلوم من الناحية التاريخية فإن العلويين استطاعوا منذ نحو ألف عام تحويل سكان الشواطىء والمرتفعات السورية والمناطق القروية من ممارسة الطقوس الوثنية إلى تبني مبادىء المذهب العلوي، لكن التحول لم يكن شاملا إذ احتفظ سكان هذه المناطق بكثير من معتقداتهم القديمة، وخاصة تلك التي تتعارض مع المفاهيم الإسلامية، ولم يتوقف العلويون عند هذا الحد بل قاموا بكثير من الممارسات المتوارثة في عقائد أخرى ومنها الاحتفالات بأعياد الميلاد، وعيد الفصح وأعياد النيروز الفارسية وغير تلك، ونظرا لهذا الواقع فقد اتسعت الفجوة بين أتباع هذا المذهب وأتباع المذهب السني.

والمعروف أنه خلال فترة الانتداب الفرنسي في عام ألف وتسعمئة وعشرين كان العلويون مقسمين بين سورية ولبنان وتركيا، وهم يشكلون الآن نحو خمسة عشر في المئة من سكان سورية ويقيمون على وجه التحديد في اللاذقية وحماة وحمص، ويوجد نحو مئة ألف منهم في شمال لبنان كما يوجد نحو ثلاثمئة وخمسين ألفا منهم في تركيا وألفين في دولة إسرائيل وفي مرتفعات الجولان المحتلة.

وإذا أدركنا أن نحو ثمانين في المئة من سكان سورية هم من أتباع المذهب السني علمنا في الوقت ذاته كيف أن سيطرة عشرين في المئة من السكان على السلطة كان بمثابة صدمة لأغلبية السكان من السنة، وذلك ما جعل النظام السوري منذ نشأته يعتمد على قانون الطوارىء من أجل محاصرة تحركات السنة في سورية. وبعد أربعين عاما من حكم حافظ الأسد مازال ابنه بشار يتبع الأساليب القمعية نفسها من أجل بسط نفوذه على الرغم من وجود نفوذ سني ضعيف في الحكومة، والغريب أن معظم قادة الشرطة والجيش وهم من العلويين يصدرون في العادة الأوامر للجنود السنة من أجل قمع مظاهرات الاحتجاج التي يكون السنة هم الغالبية فيها.

والغريب أيضا أن كثيرا من الدول الأجنبية التي لا تريد تغييرا سريعا في سورية تحذر في الوقت ذاته من إمكان أن يتطور النظام في البلاد إلى حرب أهلية وكأنه لم يصل حتى الآن إلى مرحلة الحرب الأهلية. وذلك ما جعل الكثيرين يتوقفون عند البعد السياسي الخارجي في سورية وهو البعد الذي يجعل من الصعب في هذه المرحلة إيجاد حل للمشكلة السورية.

ولا شك أن الأمم المتحدة تحاول أن توجد حلا لما يجري في سورية، ولكن الأمم المتحدة تقف كمؤسسة عاجزة، بكون قراراتها لا تتحقق إلا في مجلس الأمن الذي تسيطر على الفيتو فيه خمس دول، وهو ما يجعل الأمم المتحدة منظمة عديمة الجدوى ومجرد بديل للنظام الاستعماري السابق، لأن القرار فيها لا يخدم مصالح الشعوب بل يخدم مصالح الدول المتنفذة، وقد ظهر ذلك على وجه الخصوص في القضية السورية حيث اتخذت روسيا والصين موقفا هو الذي عطل أي حل للقضية السورية لا ترضيان عنه.

ويتساءل الكثيرون إذا كان هذا وضع الأمم المتحدة الذي لا ترضى عنه كثير من الدول الغربية بحسب الزعم السائد فلماذا إذن لا يتحرك حلف ‘النيتو’ بصورة منفردة ؟ والإجابة بكل بساطة هي أن ‘النيتو’ لا يحبذ أيضا التحرك لمواجهة النظام السوري الذي يخدم المصالح الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط، كما وضح أخيرا وكما يستنبط من التصريحات الإسرائيلية الأخيرة.

وهنا لا بد أن نتوقف عند بعض المواقف الخاصة جدا من المشكلة السورية وخاصة الموقف التركي، إذ الملاحظ أنه خلال أكثر من عام من بدء الأحداث في سورية فإن الأكراد السوريين ما زالوا منقسمين في مواقفهم من المجلس الوطني السوري وذلك ما يعقد الموقف التركي لأنه في الوقت الذي تحاول فيه تركيا توحيد المعارضة الكردية فهي تشعر بأنها تريد في الوقت ذاته أن تمتلك القدرة كاملة على السيطرة على الجماعات الكردية في تركيا خاصة أن أعضاء المجلس الوطني الكردي غادروا الاجتماع الثاني لمؤتمر أصدقاء سورية في اسطنبول في وقت تبذل فيه تركيا جهودا كبيرة من أجل توحيد مواقف المعارضة السورية، إذ المعروف أن الأكراد السوريين لهم المطالب نفسها التي يطالب بها أكراد تركيا والتي تتركز في أن تكون لهم لغتهم الخاصة، وأن يعترف بحقهم الدستوري كمجموعة عرقية، كما يطالبون بالحكم الذاتي إلى جانب تصحيح ما يعتبرونه ظلامات تاريخية، ويرى الكثيرون أن الأكراد لا يتوقعون الكثير من تركيا لأنهم يعملون بتوافق مع جماعة الأخوان المسلمين والقوميين العرب.

ودون الاسترسال في مثل هذه الصراعات والمصالح الخارجية والداخلية فإن المؤكد هو أن استمرار الثورة السورية لأكثر من عام دون أن تصل إلى نتيجة محققة هو تأكيد على أن المسألة حتى الآن لا تنتهي في ميدان الصراع، بكون القضية من أساسها مرهونة بالمصالح الخارجية، وخاصة المصالح الإسرائيلية، إذ الملاحظ أنه منذ عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين لم تقم سورية بأي محاولة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، ولا يريح ذلك إسرائيل وحدها بل أدركت سورية أنها يمكن أن تلعب ورقة الجولان لتدعيم موقفها السياسي الداخلي، ذلك أن النظام السياسي في سورية لا يهدف إلى إرضاء شعبه الذي هو في غالبيته من السنة بل يهدف إلى إرضاء الدولة الإسرائيلية والولايات المتحدة من أجل أن يدعم هؤلاء حكم الأقلية العلوية في داخل البلاد، وتلك هي المفاجأة التي صحا عليها العرب في كل مكان والذين كانوا يعتقدون حتى وقت قريب أن سورية تتبنى مشروعا عروبيا دون أن يتنبهوا إلى أن المذهب الذي تدين به سورية لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال مذهبا عروبيا لأن غالبية العرب في مختلف بيئاتهم هم من السنة الذين لا يقبلون قيادة علوية في نظمهم السياسية.

ولكن يظل الأمر مع ذلك بعيدا عن التركيز في جانب واحد لأن ما يحدث في سورية في الوقت الحاضر هو مجزرة إنسانية خطيرة، وعلى الرغم من رؤية العالم الخارجي لها فإن محكمة الجنايات الدولية لم تتحرك حتى الآن لوضع المسؤولين عنها أمام المساءلة القضائية، وهو ما يدل على ازدواجية المعايير عند كثير من دول العالم الخارجية، ويدل كذلك على التوجهات الخفية لكثير من المواقف الدولية.

‘ كاتب من السودان

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى