طبيعة شعبنا «العظيم»
علي جازو *
قتلة السوريين من كل سورية كما هم ثوارها. الثورة شعبية، ورافضوها قسم من الشعب السوري. ليسوا قلة ولا يمكن حصرهم بـ «أقلية». ليسوا وافدين ولا «مندسين» ولا دخلاء مسلحين، ولا «مستعمرين» تفرغوا للنهب. ليسوا طائفيين ولا خونة ولا دعاة تقسيم وتدمير. هؤلاء القتلة، «المدافعون عن سيادة الدولة»، جزء من شعبنا «العظيم». هم كذلك ما تفضلت به التربية العقائدية والانغلاق الثقافي والموات الروحي وفقدان قيم أخلاقية أساسية. القتلة والمجرمون السفلة، ومن يجمعهم ويرغمهم ويهددهم ويدفع لهم الأموال جزء من المجتمع السوري، وموالوهم ومناصروهم ليسوا قلة. يبدو كذلك أنهم متكيفون مع عمل كهذا، أنه محض عمل وهو يلائمهم ويغذي وجودهم ويكمله، يغدو سمة أساسية لسلوكهم ومعاشهم اليومي، بل إن لهم من التصميم الأعمى والشراسة الكثير.
كيف يمكن المال أن يقوي من السفالة ومن الدناءة على هذا النحو! هل هي فقط نتيجة من نتائج الكراهية والفقر التي لا تعرف حداً ولا يمنعها شيء. يبدو أن واقعاً مخفياً أفظع مما نرى جر المجرمين إلى ما هم عليه الآن. إنه مزيج من التبلد والوحشية وحس الانتقام المتأتي من «وسط أهلي» حول العلاقات البشرية إلى مستوى انغلق على الدونية والاحتقار. احتقار ينزع عن «الآخر» السوري صفة البشري ويحوله إلى محض عدو ينبغي التخلص منه. النظام هنا هو المبدأ وهو المعيار. إنه الأصل وكل خروج عليه شر ينبغي قطعه، مؤامرة لا غير.
يبدو أن ميراثاً هائلاً من «التربية الوطنية» والعقائدية قد ترسخ حتى تحول طبيعة أخرى يصعب نزعها بسهولة. إن كهوف البعث وأقبية الأمن، وتبعاتهما الإعلامية، كانت محلاً لتحويل البعثي والأمني إلى محض آلة هي مزيج من ولاء ودونية. عشرة أشهر من الدمار والرعب والألم الفظيع، زادتهم شراسة كلبية (سينيكية) وانعدام ضمير. انعدام الضمير جزء من الثقافة العامة. ليس من الخطأ القول إن غالبية أكثر تأثيراً (دمشق وحلب) لم تحسم أمرها. الصمت بسبب الخوف مبرر، لكنه ليس المبرر الوحيد. ثمة عامل أكثر غوراً ودناءة ولا يمكن سحبه دائماً إلى دائرة الخوف الجهنمية. ثمة إحساس لا وطني، إحساس بعدم الانتماء إلى أرض مشتركة وقيم إنسانية عامة. فهؤلاء الذين قتلوا وعذبوا ليسوا سوريين بالمعنى الذي يفترض أن يكون عليه السوري اليوم. لقد تم «ابتكار» حالة مرضية غدت أليفة وعادية، التلاؤم مع الرعب وتجرع الإهانة التي لم تعد مهينة. كثيرون فقدوا الحس الإنساني إزاء الألم. لقد تم طردهم وتجويف داخلهم الإنساني حتى غدوا آلات خنوع، آلات في هيئة بشر: هم موظفون، طلاب وأساتذة جامعات وقضاة، تجار وجنود، وحزبيون.
كل هؤلاء جزء من شعبنا، وليسوا «أعداء»، لكنهم يقيسون الواقع السوري بمرآة أكثر برودة ونأياً من مرآة «العدو» وحساباته.
هناك ايضاً من يجد التبرير الذي يقول بالفوضى العارمة وضياع البلد، غير أن فوضى أسبق كانت موجودة، والضياع عمره من عمر الاستبداد، وما تفجر اللحظة السورية سوى كشف له وتركيز عليه. كل ما يحدث كان مخفياً ومتوارياً وجاهزاً ليأخذ كل واحد الدور الذي يرتضيه ويريده. هنا لا تكون الاخلاق طبيعة فطرية ولا تربية، إنها تابعة للإرادة المختارة والمنفعة المنحطة والحسابات الرخيصة. من يقتلنا سوري وهو منا، من يخدعنا ويفقرنا ويلعب بمصائر أهلنا كما لو كانت المصائر تافهة ويمكن التلهي بها على نحو استعراضي، هو واحد ممن بادلنا التحية وكان يمكنه أن يصافحنا أو يجلس قربنا في حافلة أو منزل أو مقهى. هكذا تكون «الخيانة الوطنية» جزءاً من الهواء الوسخ ونفَس الشارع ورائحة البيت ومكان العمل حيث القذارة كالخبز. إنها ثقافة منتشرة وليست ارتداداً استثنائياً إلى درك شنيع. كانت من قبل موجودة وكامنة ومتحفزة، ووجدت فرصتها لتظهر وتبلّغ عن وجودها وقوتها العنفية المنحطة وسطوتها الكابوسية.
كيف يمكن التسامح الضروري أن يحل محل الألم المروع، كيف يمكن المصالحة داخل المجتمع السوري أن تصير جزءاً من الغفران والمصالحة لتطوى صفحة الدم إلى الأبد. ستكون أمام الأجيال الحالية مهمات عسيرة، عندما يسكت السلاح ويعود للكلمات العاقلة مردود فعلي وفضاء مفتوح. سيكون هذا جزءاً ملحّاً من العمل على الثقافة ومناهج التعليم والفكر والتربية السياسية حتى يتمكن الأسوياء من منافسة أنداد لهم في كرامة الفكر ورقي السلوك. ثمة ذاكرة، هي الآن، تحت سلاسل الدبابات وفي غرف التعذيب، ذاكرة تحتاج إلى «مصحّات» حتى تجد أملاً يمكن البناء عليه، وحتى لا تتكرر مأساة كهذه مرة أخرى.
سورية والسوريون أمام امتحان أصعب وأعقد مما يمكن عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام» أن تحتويه من آمال وأسئلة.
* كاتب سوري