صفحات العالم

طرابلس ساحة العبث/ حسام عيتاني

تدفع طرابلس اللبنانية كل شهر حوالى عشرة قتلى ومئة جريح، إضافة إلى أضرار مادية بالغة بسبب دورة لا نهاية لها من العنف. ورغم كثرة الوعود والخطط الأمنية، تستمر المأساة وتحصد المزيد من الضحايا وتعمق الانقسام بين اللبنانيين.

وليس جديداً القول إن جولات الاقتتال في طرابلس تتغذى على الصراع الدائر في سوريا وأن طول أمد الثورة السورية وتشابك مساراتها وتعقدها، عوامل أدت إلى تجميد الوضع المأزوم أصلاً في لبنان مما قبل الحرب السورية واستنقاعه على نحو بات ينتج من الأمراض ما يفيض إلى بلدان الجوار.

تخشب النظام السياسي اللبناني وعجز عن تجديد نفسه وسط محيط عاصف وبات الفراغ هو القاعدة السائدة وسط استقالة مؤسسات الدولة عن أداء مهماتها في حفظ الأمن والتصدي للمرتكبين ومنتهكي القانون، ما دام هؤلاء يحظون بما يسمى في لبنان “الغطاء السياسي” أي تمتعهم بحماية زعماء وجمهور طوائفهم. أحداث بلدة عبرا في تموز (يوليو) والتي وجه الجيش اللبناني فيها ضربة قاضية إلى جماعة الشيخ أحمد الأسير تأكيد لقاعدة الحماية السياسية التي تتيح، متى رُفعت، تصدي الدولة للخارجين عنها.

لكن المسألة أكثر تعقيداً في طرابلس. فالمتصارعون ينقسمون إلى معسكرين ذي انتماءين سياسيين وطائفيين مختلفين. ويدرك كل منهما حدود إمكاناته واستحالة إلغاء الطرف الآخر عسكرياً لأسباب محلية وإقليمية عدة، منها ما يتعلق بتواضع قدرات الطرفين القتالية، وهذه أبسط الأسباب، ومنها ما يحيل إلى خطر توسع الصراع ليشمل مناطق اخرى من لبنان وانضمام أطراف جديدة إليه في حال خرج عن الخطوط المقبولة (ضمناً) للصنف هذا من التقاتل.

ولا كبير معنى لتحليل بوليسي يبحث عن الدافع المباشر لهذه الجولة أو تلك من المعارك. فالوضع الآسن في طرابلس أرسى دينامية خاصة بالقتال وجولاته ولغته و”منطقه” ومصالح المنخرطين فيه، على ما يبدو من مفارقة بين أسن الوضع ودينامية القتال. ومن مظاهر الحركية تلك، رسوخ عقلية التطهير العرقي والتصفيات الطائفية التي تجسدت بحرق متاجر أبناء الطائفة المعادية والاعتداء على العمال العلويين في طرابلس بإطلاق النار عليهم أو إذلالهم، وهؤلاء غالباً ما ينتمون إلى الشرائح الأفقر والأضعف من سكان جبل محسن ذي الأغلبية العلوية. يضاف إلى ذلك ظاهرة “أولياء الدم” التي تشكلت احتجاجاُ على ما يراه بعض الطرابلسيين تقصيراً من الدولة في التحقيق في انفجاري مسجدي “التقوى” و”السلام” في آب (أغسطس) الماضي واللذين سقط فيهما ما يزيد عن خمسين قتيلاً، فيما تشير الأدلة إلى تورط عناصر موالية “للحزب العربي الديموقراطي” الذي يتزعمه علي عيد، في الإعداد للتفجيرين.

الأهم من ذلك أن المدينة الثانية في لبنان والتي تمثلها كتلة كبيرة في البرلمان إضافة إلى خمسة وزراء في حكومة تصريف الأعمال، ومن بينهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، تبدو متروكة لقدرها من دون أي شعور بالمسؤولية أو حتى بالمصلحة لدى نخبها السياسية في إبعاد كأس الحروب الصغيرة عنها. يطرح هذا الواقع جملة من الأسئلة عن مدى تمثيل هؤلاء السياسيين لمواطني المدينة وعن معاني كلمات مثل “فعاليات” و”نُخب” و”مجتمع مدني” إذا كانت هذه كلها لا تستطيع أن تحول دون اندلاع العنف كل بضعة أسابيع. والأرجح أن الجهات ذاتها تفاجأ بانتهاء القتال مثلما تفاجأ باندلاعه، ما يعطي انطباعاً مشؤوماً عن انفصال القوى السياسية التي تدعي تمثيل المدينة بحقائقها الجديدة وبقطاعات من الناس تستطيع التأثير على الوقائع من دون الرجوع إلى أي جهة سياسية “معترف بها”.

هذا من دون الإتيان على دور الدولة التي تقف منذ أعوام تتفرج على طرابلس وغيرها من المدن تسقط تدريجاً في قبضة الفوضى والعصابات المسلحة، ذات الخلفية السياسية أو الجنائية المحض، من دون أن تتدخل إلى أن تستفحل الأمور وتداني مستوى الكارثة الوطنية أو تمس “بهيبة” الجيش على غرار ما حصل مع أحمد الأسير.

ومن مهازل ما يجري أن الحكومة اللبنانية تقرر، غالباً بعد سقوط القتيل العاشر، نشر الجيش وفق خطة أمنية وتعتقل بعض المشتبه بمشاركتهم في المعارك وخصوصاً ممن يطلقون النار على عناصر القوات الحكومية، من دون أن تترك “الخطط” تلك أثراً حقيقياً على الوضع الذي يبدو على وشك الانفجار مجدداً ما إن يهدأ إطلاق النار في المدينة.

يحيل كل ذلك إلى أزمة عميقة في بنية النظام السياسي الحاكم في لبنان وإلى غياب ما يستدعي العيش المشترك بين اللبنانيين الذين يزدادون قناعة بامكان الصمود في معازل طائفية معزولة والكمون هناك لسنوات إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى