طرطوس السؤال الصعب
جنى يوسف
لم تكن طرطوس غائبة تماماً عن الحراك الثوري في سوريا منذ بداياته في آذار 2011، لكن خصوصيته و محدوديته كانت واضحة للمتابعين. ولا شك ان التركيبة الديموغرافية و الاجتماعية لهذه المدينة سبب رئيسي في هذه الحال. شاركت طرطوس منذ البدايات في حراك الثورة السورية، كما لم يغب ناشطوها عن ساحات الثورة في المدن الأخرى. لكن الصعوبات التي تواجههم في طرطوس تختلف عن كل مكان آخر. التضييق على اشده والحاضنة الشعبية في أدنى حدودها، دون أن نغفل عامل التجييش الطائفي الذي لعبت عليه أطراف كثيرة وفي مقدمتها النظام طبعاً.
في الثامن من نيسان 2011 خرجت في طرطوس اول مظاهرة مطالبة بالحرية ،واستمرت بعدها في كل يوم جمعة ،و كانت تزداد تدريجياً أعداد المشاركين ،حتى قدرت اعداد المشاركين بالآلاف في 22 نيسان 2011.
كما في كل سوريا قوبلت المظاهرات بقمع و وحشية. حدثت خلال ايام حملة اعتقالات ضخمة طالت اكثر من 60 شخصاً أغلبهم من الفاعلين الحقيقيين . بدأ بعدها حراك المدينة بالتراجع تدريجياً تحت الضغط الأمني الشديد ،والعودة إلى أسلوب العمل الثوري السري. لتبدأ شيئاً فشيئاً الأنشطة المجهولة الفاعل تحل محل النشاط العلني المتمثل بالتظاهر والذي اقتصر بعد شهور على هتافات سريعة داخل الجامع يوم الجمعة او في الأزقة الضيقة ليلاً لسهولة الاختفاء.
بدأ الناشطون بتشكيل تجمعات صغيرة لتنسيق نشاطهم، بسرية تامة للحفاظ ما أمكن على أمنهم. من هذه التشكيلات برزت أسماء منها تنسيقية طرطوس، و أحرار طرطوس، تجمع الطريق، وكذلك تجمع نبض.(و يجدر بالذكر أن التجمعين الأخيرين لم يكونا مقتصرين على طرطوس بل كان لهما تواجد و حضور في مناطق عديدة من سوريا).
يخبرنا أ.غ (طالب جامعي ، 24 عاماً) و هو من الناشطين الفاعلين في طرطوس عن تلك الفترة فيقول “بعد حملة الاعتقالات الواسعة التي تمت مواجهة الحراك بها ،انحسرت تدريجياً قدرتنا على التحرك. اصبحت المظاهرات الطيارة التي تستمر لدقائق قليلة فقط و توزيع المناشير وحملات بخ العبارات الثورية على الجدران هي المظاهر الأساسية لتعبيرنا”.
شيئاً فشيئاً اقتصر الحراك الثوري في طرطوس على حملات مشابهة،كتوزيع أوراق تشبه العملات الورقية عليها شعارات ثورية،وكذلك بخ شعارات موحدة في مناطق مختلفة من المدينة، و في الغالب كان يتم التركيز على الوضع الخاص بالمدينة، واعتماد حملات و عبارات تحاول التخفيف من حالة الاحتقان الموجودة و حالة العزل و التخوين بين الطرفين.
يتابع أ.غ قائلاً “اي عمل مهما كان بسيطاً يتطلب منا جرأة كبيرة وفيه الكثير من المخاطرة. هنا لا نتجنب فقط عناصر الامن، بل يصل بنا الحد إلى الشك بأي شخص يمر في الشارع ،أي شخص قد يكون مخبراً او عضواً في ميليشيات الشبيحة ذات الانتشار الواسع في المدينة و ريفها.” ،ثم يكمل ساخراً “كنا نخاف من صوت علبة البخاخ أن يفضحنا في الليل”.
بقيت طرطوس محافظة على هذا الوضع ،رغم التغيرات الكبيرة على الساحة السورية و تحول شكل الثورة من السلمية إلى المسلحة. إلا أن هذا الموضوع لم يؤثر على طبيعة الحراك فيها ،بسبب ابتعاد حالة المقاومة المسلحة عنها. و ساعد الوضع الإنساني فيها و الآمن نسبياً بتدفق الكثير من النازحين من المدن الأخرى. حيث يوجد الآن ما يقارب 300 الف نازح في مدينة طرطوس. يسعى الناشطون و المهتمين لمساعدتهم على قدر ما تسمح الامكانيات او الوضع الامني بذلك.
لا يغيب عن ذهن اي متابع للوضع في طرطوس تأثير التركيبة الطائفية للمدينة.حيث أن غالبية السكان من الطائفة العلوية ،ولم يعد خافياً أن الكتلة الأعظم من الطائفة تقف ضد الثورة السورية حتى و إن لم تكن في صف النظام.
هذه النتيجة لم تكن حتمية في بداية الثورة ،لكن عوامل كثيرة تدخلت و تضافرت مع بعضها لزيادة نسبة الاحتقان و التجييش الطائفي في سوريا عموماً و في طرطوس خصوصاً. الخطاب الرسمي للنظام عن الفتنة منذ الايام الأولى للثورة، و الضخ الإعلامي الممنهج، و نشر الشائعات و الاوهام والعمل على شيطنة الأخر، كلها عوامل أثرت بشكل لا يستهان به في التفكير الجمعي للطائفة. خاصة في ظل غياب أي مرجعيات دينية أو اجتماعية حقيقية و ذات مصداقية. وهذا ما تظهر أهميته عند المقارنة مع الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، حيث كان حينها لهذه الزعامات المحلية دور كبير في تعزيز الدور و الشعور الوطني على حساب الشعور و الانتماء المناطقي أو الطائفي.
إلا ان النظام عمل خلال سنوات استبداده الكثيرة على سحب الشرعية تدريجياً من هذه الوجاهات ليترك بيده صلاحية التحكم بأي مجموعة أو فئة.
اليوم وبعد اكثر من سنتين من عمر الثورة السورية تبدو الأمور اكثر تعقيداً ،تفتح للمستقبل تساؤلات و مخاوف اكبر عن المآل الذي ستؤول إليه المدينة. وتلقي بالكثير من المسؤولية على الناشطين و على الفئات الاكثر وعياً من المدينة لتجنيبها مخاطر الوقوع في شرك الصراع الطائفي الواضح المسلح طبعاً. و مشاريع التقسيم على الأساس الطائفي والتي يروج لها ويكثر الحديث فيها كل يوم.