طروحات الدكتور محمد حبش: التباسات وأسئلة ليس لها إجابة
د.وائل مرزا
رغم اختلافنا الجذري معه في رؤيته لمدخل الحل في سوريا اليوم، فلا يمكن إلا أن نبدأ هذا المقال بتأكيد حسن الظن في نية الدكتور محمد حبش، واعتقادنا بأنه يحاول أن يسهم في حل تلك المشكلة. لم تكن الثورة السورية يوما -ولا يجب أن تكون- مدخلا للتخوين والتصنيف كما يعتقد البعض. ونحن نعتقد أن موقع حبش وتاريخه وعلاقاته تفرض عليه منطقيا أن يخرج بمثل هذه الرؤية؛ لأنها تنسجم مع تلك المعطيات المعقدة والمتداخلة، الأمر الذي يجعلها ملتبسة ومليئة بتناقضات منهجية وأسئلة ليس لها إجابات.
يجيب الدكتور في لقاء مع شبكة «سكاي نيوز» بالإنجليزية وردا على سؤال مباشر من المذيع عن الاعتراف بالنظام، أنه لا يمكن أن يتم الإصلاح، ليس فقط في وجود الأسد، بل وفي وجود زوجته وأخيه ماهر الذين قال حرفيا إنهم إن غادروا في طائرة إلى أي مكان فستحدث في سوريا مشكلة كبيرة وأن الحل لن يتحقق بذلك! ثم كرر هذا الكلام نفسه بالعربية في لقائه مع قناة الجزيرة. تحدث الدكتور حبش عما أسماه (المبادرة الوطنية من أجل مستقبل سورية) التي حاولت عقد لقاء في أحد فنادق دمشق، وذكر أنه والمجتمعين اقتحموا قاعة مؤتمر ذلك الفندق الذي كان المفروض أن يستقبل اللقاء، لكن (أحدا ما) تسبب في مشاكل لهم إلى درجة أن قطع الفندق عنهم الكهرباء والماء! ثم تابع بعد قليل قائلا إن مثل هذا السقف العالي من الحراك في وجود (الرئيس) بشار الأسد هو الذي سيحل مشكلات سوريا.
ما الحل إذا؟ يطرح الدكتور نظرية (الطريق الثالث). حسب هذا الطرح هناك جهتان، السلطة المتحالفة -كما يقول- مع الجبهة الوطنية التقدمية، ثم المعارضة بأطيافها المعروفة. وعندما يتحدث عن الطريق الثالث فإنه يقول في لقاء الجزيرة إنه يمثل العشرين مليون سوري، أي ما يسميه الأغلبية الصامتة.
حسنا، مرة أخرى، نعيد التأكيد على ثقتنا بحسن نية الدكتور، لكن هذا لا يمنعنا من عرض جملة الالتباسات الموجودة في طرحه، التي يجرى خلط الأوراق من خلالها، من غير قصد فيما نحسب. فطرحه بمجموع عناصره المكتوبة أعلاه، والصادرة عنه شخصيا، يحمل جملة تناقضات من ناحية، فضلا عن رؤية للواقع العملي الراهن لا نعتقد أن كلامه يعبر عن صدق ملامحها الظاهرة.
أولا، إذا كان سقف الحراك مرتفعا كما يتحدث عنه، فهل من ملامح هذا الارتفاع أن يمنع من حضر لقاءه عمليا من إتمام لقائهم إلى درجة اضطرارهم لاقتحام المكان، ثم قطع الكهرباء والماء عنهم؟! ما لا يذكره النائب الكريم أن ضغط الثورة والثوار الذين يعتبرهم أقلية هامشية هو الذي وضع النظام في ورطة لم يعد يعرف فيها ما يفعل وما لا يفعل، أو ما يمنع وما لا يمنع. فهو -أي النظام- مضطر لأن يمرر بعض القضايا دون التدخل الأمني بشكله السابق، ليحاول توظيفها إعلاميا، ويشتري الوقت، ويحاول تلمس خطواته القادمة. لكنه في الوقت نفسه يمارس ألاعيبه القذرة بشكل غير مباشر، كما انقطعت الكهرباء والماء عن لقاء الدكتور بفعل فاعل مجهول جدا ولا يمكن لأحد في سوريا أن يخمن من يكون! ولو أنصف الدكتور حبش لعلم أن الفضل الأول والأخير في كل ما يسميه حراكا يعود لتصاعد الفعل الثوري إلى درجة أدرك معها النظام استحالة التعامل مع الأمور بالطريقة السابقة. ولو أنصف سيادة النائب لأعطى ثوار سوريا قدرهم المستحق واحترامهم الواجب، ولم يجعلهم طرفا هامشيا لا يمثل ما أسماه بالأغلبية الصامتة.
ثانيا، إذا كان الطريق الثالث واحدا بين خيارات، وهو الخيار الأفضل في رأيه، فكيف نفهم عملية الفصل بين أهل هذا الطريق وأهل الطرفين الآخرين في المعادلة كما صنفهم، وبين أن يكون بقاء (الرئيس)، بل وأخيه ماهر، والعمل تحت مظلتهم، هو الأمر المطلوب في رؤيته من ناحية ثانية؟! ثمة التباس كبير لن يستطيع أحد فهمه في هذا الطرح الغريب. فالمفروض أن الدكتور وطريقه الثالث طرف ثالث في المعادلة السورية الآن. وفي الوقت نفسه، يجب أن نقبل ويقبل معنا الشعب السوري بأسره أن هذا الطرف الثالث يتحرك ابتداء تحت مظلة الطرف الأول ويضع بكل وضوح وصراحة خطا أحمر على رحيله! في مقابل هذا، تبقى المعارضة وهي الطرف الثاني في رؤيته مجرد لاعب احتياط، أو ديكور يمكن استخدامه بشكل ما لحل المشكلة السورية حسب الرؤية التي يطرحها. نعلم ونؤكد أنه لا يقول هذا بلسان المقال، لكن لسان الحال أبلغ كما يقول العرب، وهذا ما يتضح دون كثير جهد من تجميع ملامح صورة الحل الذي يطرحه بدرجة من الدقة.
ثالثا، وهذه ثالثة الأثافي كما يقول العرب أنفسهم، لا يوجد ثمة متسع في طرح الدكتور حبش للثورة والثوار. وإذا كان من دور فهم مجرد أداة بسيطة هامشية، تكاد تذكرنا بمقولة النظام حين بدأ بوصفهم على أنهم عشرات من المندسين ثم انتهى بوصفهم على أنهم جراثيم. نعيذ النائب الكريم أن ينظر إليهم تلك النظرة الأخيرة، لكننا لا نستطيع الهروب من إيحاءات رؤيته التي تحمل في النهاية عملية احتقار للثوار لا تليق بمن يمتلكون خلفيته. وإذا كانت المعارضة لا تمثل (الأغلبية الصامتة) التي ينطق باسمها طريقه الثالث فقط، فإن مئات الآلاف الذين خرجوا في جمعة الرحيل، لا يمثلون شيئا ولا يعبرون عن تلك الأغلبية في قليل أو كثير. ولو أنهم يمثلون شيئا، في رأيه، لأخذ بالاعتبار على الأقل مطلبهم الواضح والصريح بضرورة تغيير النظام بأسره، وفي مقدمتهم من يرى هو ألا استغناء عنهم في المرحلة القادمة.
رابعا، كنا نظن أن الدكتور يعرف حقيقة رأي من يسميهم الغالبية الصامتة. لأننا كنا نعتقد، ولا نزال، بأنه يعرف دقائق الواقع السوري وما شهدته تلك الأغلبية من ظلم واحتقار وتهميش على مدى العقود الماضية بشكل عام، وخلال العقد الماضي تحديدا. وهذا الكلام يطرح أسئلة لا يبدو أن ثمة إجابة عليها تفسر الجهل بحقيقة رأي الأغلبية الصامتة.
لا تنطلق هذه المقاربة من منطق الشخصنة ومنظورها، وإنما تهدف إلى دراسة مشروع يقع في فضاء العمل العام، وهو ما يجعلها مفتوحة للنقد بحد مطلوب من منهجية تحاول وضع الأمور في نصابها.
على كل حال، ربما رأى حبش درجة ارتفاع السقف الذي تحدث عنه فيما تعرض له ماجد صالحة في مؤتمره من ضرب؛ لأنه حاول أن ينسجم مع رأي الثورة. ونحن على يقين أنه بدأ يرى ملامح الإجابة على سؤال الأغلبية الصامتة مما جرى في جمعة «ارحل» الماضية وما سبقها وتلاها من أيام. أكثر من هذا، فإن يقيننا أكبر بأنه سيرى الإجابة بوضوح أكبر في الفترة القادمة.
وعسى أن تثبت الوقائع القادمة للجميع طبيعة رأي تلك الأغلبية، بحيث نخرج من الالتباسات والتناقضات، ونقبل كلمة تلك الأغلبية، فتأتي مبادراتنا ومشاريعنا منبثقة من إرادتها هي وحدها، ومنسجمة إلى النهاية مع روحها ومطالبها.
العرب القطرية