صفحات العالم

طريق الأسد ذو الاتجاه الواحد


عريب الرنتاوي

للمرة السادسة في غضون عشر سنوات، يُعرض على رئيس عربي التنحي والهروب بجلده إلى ملاذ آمن، بدأت الحكاية مع صدام حسين وعرض الشيخ زايد، وتنتهي اليوم مع بشار الأسد وطلب وزراء الخارجية العرب إليه التنحي إلى ملاذ يوصف عادة بالآمن، وما بينهما، كان زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح، يمرون باختبارات متشابهة في مضمونها، وإن تعددت مظاهرها.

نحن فرحون بهذه النتيجة على أية، فليس ثمة ما أو مَنْ يؤسف عليه منهم، على أننا ما زلنا بانتظار قائمة طويلة من الاختبارات، نأمل ألا تتأخر كثيراً، بحيث لا يبقى ملاذٌ آمن واحد للقادة المُتنحين والهاربين، ونأمل أن يداهم بعض زعمائنا مرض “الحكمة” و”التبصر”، فيتفادون على الأقل، مصائر القذافي و”الرئيس المحروق”.

أمس، وأنا أقلب شاشات التلفزيون، مررت بلقطة جمعت نفرا من الرؤساء “المُتنحين”، جمعتهم غرفة ضيقة، ربما في جهنم، وأخذوا يتداولون في شأنهم ومآلاتهم، قبل أن يقرع عليهم بشار الأسد باب غرفتهم، ملقياً بالتحية الشامية معتذراً ضمنياً عن تأخره في الالتحاق بهم، أحسب أن المشهد المذكور أشد عمقاً من التحليلات “الرصينة” التي يتحفنا به بعضٌ من السياسيين والمحللين التي تجزم ببقاء الأسد، وتستدل على ذلك -بعضها على الأقل- باستدعاءات من التاريخ تظهر كيف نجا آل الأسد رغم آلاف الجثث والضحايا من منعطفات سابقة ومجازر سابقة، يسردونها بكثير من الفخر والاطمئنان والتبريك.

أياً يكن موقفك من الأزمة السورية في بعديها: الشرعي والمتمثل في حق الشعب السوري غير المشروط في الحرية والكرامة والديمقراطية والنماء والرفاه، وغير الشرعي والمتمثل في شتى أشكال الاختراق والعدوان ومحاولات “الثورة المضادة” امتطاء صهوة الانتفاضة المجيدة للشعب السوري، أقول أياً تكن مواقفك تلك، فإنها لا تُغني عن قراءة المشهد بكل موضوعية، ومن دون إسقاطات ولا “رغائبيات”، وأية قراءة موضوعية للحدث السوري تؤكد أن الأسد راحل لا محالة، وأن المسألة مسألة متى وكيف وبأي ثمن، لا أكثر ولا أقل.

وليس ينفع وأنت تبحث في مستقبل مصائر النظام ومآلاته، أن تتوقف طويلاً أمام شواهد تكتيكية للوصول إلى خلاصات استراتيجية، فما نفع أن يربح النظام حي الميدان ويخسر شعبه، ما نفع أن يحرر “سبينة” ويخسر حلب، ما قيمة أن ينشر الحواجز على أوتوستراد المزة، ويخسر معابره الحدودية، ما نفع أن يكسب “قدري جميل” ويخسر كل صنوف المعارضات، بمن فيها تلك السلمية والوطنية غير المرتبطة بالخارج والمناهضة لأجنداته.

على مدار الأيام الثلاثة الفائتة، أظهرت موسكو بما لا يدع مجالاً للشك، أنها بصدد تغيير مقاربتها للملف السوري، قد نقبل بـ”زلة لسان” واحدة للسفير الروسي في باريس، لكن حين تتكرر زلات اللسان أكثر من مرة، وبالطريقة ذاتها، والمفردات ذاتها، نصبح أمام “زلة سياسة” ولا “زلة لسان”، مفادها أن الأسد لم يعد خطاً أحمر، وأن تنحيه مطلوب ومرغوب، وأنه هو شخصياً يفكر بخيار كهذا، وأن رحيله ليس سوى مسألة وقت تحتاجها بعض المفاوضات أو كثير منها، من نوع تلك الدائرة بكثافة لترتيب مرحلة الانتقال السياسي لسوريا.

وعلى مدار اليومين الفائتين أيضاً، كانت الجامعة العربية تدفع بمواقفها من الأزمة السورية خطوة استراتيجية إضافية في نفس الاتجاه، حين طالبت الأسد رسمياً بالتنحي والالتجاء إلى ملاذ آمن، وحين طلبت إلى كوفي عنان، إحداث تغيير جوهري في مهمته، فتصبح ترتيب الانتقال بسوريا إلى مرحلة ما بعد الأسد، بعد أن كانت البحث عن تسوية بين النظام والمعارضة، بالأسد أو من دونه، وهنا لن يجدي كثيراً البحث في أهلية الجامعة وأمينها العام، أو مدى صلاحيتهما لإنجاز المهمة، فليس المطلوب من هذا الجسم الهرم، سوى الغطاء والمظلة، ولقد كان “سخياً” في توفيرهما.

وخلال الفترة ذاته، بل وقبلها، كانت التقارير من واشنطن تؤكد أن الولايات المتحدة انسحبت من مفاوضات التسوية الدولية للأزمة السورية، إلى البحث في ترتيبات مرحلة الانتقال، وربما كانت قرارات الدوحة رجع صدى لما دار في واشنطن، حتى لا نقول ترجمة دقيقة وطبق الأصل، لأوامر “العم سام”، وتزامناً كانت أوروبا تغلّظ العقوبات وتوسع لوائحها وتدفع بمواقف دولها الأعضاء إلى ما يتماهى مع مواقف المجموعة العربية والولايات المتحدة.

الصين، التي ظلت تستفيء بظلال الموقف الروسي وتدعمه، لن تكون بمنأى عن هذه التبدلات، وهي أظهرت قبل “الفيتو المزدوج الأخير” إيماءات بأنها تدرس ملياً مشروع القرار الغربي الذي أسقطته، قبل أن تحسم أمرها، وتؤثر مجاراة الموقف الروسي على الظهور بمظهر من استدار بزاوية 180 درجة، دفعة واحدة ومن دون مقدمات.

وحدها إيران، واستتباعاً حزب الله، ما زالت على موقفها “المبدئي” في دعم النظام.

بعد عشرين ألف قتيل، أكثر من نصفهم من المدنيين، لا يمكن لرئيس في أزمنتا الراهنة أن يظل في موقعه، ولن تشفع له كل “مقاومات الدنيا وممانعاتها”، لن يكون بمقدور زعيم أن يحفظ زعامته أو يعيد إنتاجها، فيما دماء شعبه ما زالت تتسلق الجدران، ولن يكون بمقدور قوة على الأرض، أن تسبغ عليه حمايتها، طالما أنه أظهر عجزاً في حماية نفسه وشعبه، وكان سبباً في الوصول ببلاده إلى هذه المآلات، سواء بما فعل وقارف من جرائم، أو بما استنكف عن فعله من خطوات إصلاحية وتغييرية حقيقية.

في تحليل طبقات الجدل الدائر الآن في سوريا وحولها، تبرز اتجاهات وسيناريوهات، ليس من بين أيٍّ منها، اتجاه واحد، أو سيناريو واحد، يحفظ للأسد رئاسته، أكثر السيناريوهات تفاؤلاً بالنسبة للنظام في سوريا، هو أن يبقى النظام ويتنحى الأسد، وأكثرها قسوة على سوريا والسوريين والمنطقة، هو انزلاق سوريا للفوضى والحرب الأهلية والتقسيم، وما بين هذين السيناريوهين ثمة مروحة من الخيارات والسيناريوهات التي تتدرج في “سوئها” على اعتبار أنه لم يعد هناك سيناريو جيد لسوريا، هناك سيناريوهات سيئة وأكثر سوءاً فقط.

* نقلا عن “الدستور” الأردنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى